نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: ابنُ الجَلَّاد

حين توفي أبي كانت الدولةُ كلها في عطلة رسمية لأسبوع بسبب الحداد العام. الحداد ليس بسبب وفاة أبي بالطبع، ولكنه بسبب وفاة "الزعيم" الذي كان يحكم البلد في وقتها. وكان سبب وفاة أبي كما نظنُّ، أنه لم يجرع مرارة فقدان الزعيم الذي كان يحبه كثيراً، فحدثت له أزمة قلبية توفي بسببها. في الحقيقة أنني لم أحزن على وفاة أبي كثيراً. نعم تأثرتُ بعض الشيء لكنني كنتُ مرتاحاً بيني وبين نفسي. لأنني قد نجوت بأعجوبة من إهانات وضربات أولاد المحلّة التي كنّا نسكن فيها آنذاك. أولئك الأولاد الذين كان أبي يعذّب آباءهم في معتقلات الزعيم. حين كان يعمل جلّاداً في معتقل أمني، وكان كلما اعتقلتْ مباحث الزعيم رجلاً من رجال المحلّة بسبب شبهة أو تهمة ملّفقة، عذّبه أبي لنزع اعتراف منه بشتى أنواع الجلد والضرب والاضطهاد. وهذا الأمر دفع بأولاد المحلّة الذين تعتقل السلطات آباءهم، إلى أخذ ثارات آباءهم المعذبين منّي. فبعض الآباء حين يُفرج عنهم ويعودون إلى منازلهم بعد نجاتهم من الاعتقال، يحكون لعوائلهم عن الشخص الذي كان يشرف على تعذيبهم. وهكذا لم تتوقف هذه الدوامة إلا بوفاة أبي، ونجاتي ونجاة أهل المحّلة من هذه المحنة. كان أبي يقول أن الزعيم خالد، وأنه لن يموت، وحين كانت أمي تصلّي يسخر منها، ويقول لها صلّي باتجاه صورة زعيمنا، إشارة منه إلى أن الزعيم هو الرب الذي يؤمن به ويعبده. والذي كان يعلّق له صورة في كلّ ركن من أركان المنزل. ولشدّة هذا الحب للزعيم الراحل لم يحتمل أبي مرارة فقده، فتوفي بعد أن سمع بموت الزعيم ببرهة قصيرة. وعادة حين يموت الإنسان لا يموت ماضيه معه. ذلك الماضي الذي عاش فيه أبي ولم أرث منه سوى لقبي - ابن الجلّاد- الذي ظل لصيقاً بي. وفشلت كلّ المحاولات التي مارستها لكي أمحو الماضي، أو أزيل اللقب عن كاهل سمعتي في المحلّة. فقد ظل كما أسلفت ملتصقاً بي كما تلتصق العِلْكة بشعر الفتاة. على الرغم من تكلّف الملاطفة مع الآخرين، والسعي في عمل الخير هنا أو هناك. ظل الناس ينظرون لي على أنني واحد من أبناء الجلّادين. ولم يشفع لي اللطف ولا أعمال الخير في إزالة تلك الصورة عنّي. ولستُ أدري ما هو الشيء الذي يرضي الناس؟!. فليس هناك من صنيع خير إلا وصنعته!!. ولم يتبق إلا الرحيل من المحلّة وتركها للأبد، تاركاً السمعة واللقب اللذين ورثتهما عن أبي. وهذا لم يحدث بسبب الدافع الذي كان يدفعني لتغيير صورة العائلة. متخيلاً أن رحيلي من المحلّة سيكون انهزاماً وهروباً لن أعيش بعدهما في رخاء أبداً. وهنا تفجّرت في ذهني الفكرة الخطيرة. إن كنتُ أريد محو اللقب والسمعة فيجب عليّ أن أقوم بعمل بطولي. عمل يغطي بفداحته على كلّ الآثام التي ورثتها وأرهقت كاهلي. حين توفي الزعيم استلم من بعده ابنه مقاليد الحكم. لم يتغير النظام كثيراً. لقد بقي كل شيء على حاله. الشيء الوحيد الذي تغير في صور الزعيم. حيث تم دمج صورة الابن مع صورة والده في الشوارع والجداريات العامة. وهنا فكّرتُ أن أفضل وسيلة لصنع تاريخ جديد للعائلة، هو أن أنضم إلى جماعة مناوئة لنظام الزعيم الجديد. وإذا دخلتُ المعتقل وتعرضت للتعذيب فسيكون هذا يوم سعدي. على الأقل سيُقال عنّي أنني بطل ومناضل ضد الحكم الجائر، وغيرها من صفات الشهامة والرجولة. غاسلاً بهذه الصفات كل أدران الماضي. وسينسى الناس لقب "ابن الجلّاد" ويبتكرون لي لقباً جديداً بلا شك. لكن الحظ السيء كما يبدو لا يفارقني. لأنني قبل أن أشرع في هذه الخطوة زارنا ذات يوم أحدُ الجلّادين الذين كانوا يعملون مع أبي. وأخبرني أن دائرة الأمن ترغب في أن أحلّ محلّ أبي في وظيفة شاغرة. نزل عرض الجلّاد كالسوط على بدني. ولم أملك خياراً سوى الرفض. كيف أقبل بعمل في مكان كان يعمل فيه والدي مازلتُ أعاني من سمعته الشائنة؟!. لهذا رفضت الوظيفة الشاغرة ولم يكن رفضي مباشراً، بل تحجّجت بحجج واهية لكي أفلت من القبول بذلك العرض الذي كان مغرياً. وقبل أن يخرج زميلُ والدي الجلّاد من المنزل، خرجتُ قبله لكي أطالع الشارع خوفاً أن يراه أحد. والمصيبة أنه حين خرج من المنزل قد لمحه أحد الجيران. وكما هو مألوف لدى أهل المحلّة. خبر زيارة زميل والدي لنا انتشر كالنار في التبن. وهذا ما أضاف لمهمتي الجديدة عبئاً في إقناع الناس أن لا شأن لنا به. ولم يتبق سوى أن أضع مكبر صوت وأنادي بأعلى صوتي في شوارع المحلّة: أيها الناس صدقوني، لقد تم عرض عمل عليّ في معتقل الأمن ورفضت كرهاً وبغضاً. ومع كل المحاولات لكسب ثقة الناس بي إلا أنني لم أفلح. حتى الجماعة التي كنتُ على وشك الانضمام لها سراً، عن طريق صديق حكيت له عن تمنياتي في مناوئة هذا النظام. رفضتني ولم تقبل الانضمام لها، وابلغوا صديقي أن يتركني وشأني، لأنهم ظنّوا أنني جاسوس أعمل لدى النظام. وزيارة الجلّاد زميل والدي لمنزلنا كانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر أحلامي. حتى عشتُ أيامي في نكد ومشقة، حين أمشي في الشارع ويخزرني الناس بأعينهم. تلك الأعين التي كانت تشتمني بنظراتها الحادة. ثمّ مرت الأيام وأنا محبوس في المنزل. أراقب بين حين وحين العالم من النافذة. وأعود إلى غرفتي مطالعاً صورة أبي المعلقة. وكانت تجلدني تلك الصورة بسياط الحزن وأنا أتمتم: لماذا... لماذا؟!. حيث صرتُ أعيش ما بين سياط ماض لم أرث منه سوى لقب مشؤوم وإهانات وضربات أولاد المحلّة. وبين حاضر ومستقبل يجلدني بسياط العار والهوان. ولم أجد لي ملاذاً سوى التصوّف والانعزال عن الناس. في محاولة منّي لغسيل نفسي من كدوراتها وأحزانها. وهذا الشيء ساعدني في أن أتعرف على شخص أرشدني إلى جماعة دينية. كانوا يرحّبون بأي عضو ينضمّ إليهم. بغض النظر عن تاريخه وسمعته!!. وبالفعل كان الأمر جدّ سهل والمهمة في الانضمام لم تكن عسيرة. أيام وأيام من اللقاءات بالإخوة الذين كانوا في الجماعة. إرشادات وخطب سرية مناوئة للنظام. وصلوات وأحاديث تحثّ على تزكية النفس والشريعة والعقائد. حتى أطمأنت نفسي مع هذه الجماعة الإيمانية، وصرتُ لا أقو على مفارقتهم والامتثال بأمرهم. الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي أن الجماعة كان أفرادها جلّهم من الغرباء. وعرفتُ لاحقاً أن الأمر مقصود ومقنع في الوقت ذاته. حتى يسهل الفرار والإفلات من أيدي النظام. هنا عادت إليّ ثقتي بنفسي. لأنني وجدتُ في هذه الجماعة المنظمة طريقاً للثأر لكرامتي ومحو ذلك التاريخ المشين الذي تركه لي أبي. وشيئاً فشيئاً صرتُ أتقرّب إلى أن اصبحت أن الذي يؤم المصلين في مقرّنا السري. فقد حصلتُ على المباركة في الصلاة من "شيخ الجماعة" الذي لم نكن نلتقي به. ولم تصلنا أوامره إلا عن طريق وسيط منّا. والسبب أن الجماعة تخشى على حياة شيخنا المستور وراء حجاب الحيطة والحذر. ثم جاءت الأوامر من  شيخ الجماعة بعد أن كثر عددنا واشتد عودنا. وصارت لدينا القوة لكي نخرج إلى الشارع. حيث أُمرنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في المحلّة التي كنّتُ أعيش فيها. وهنا جاءت الفرصة لكي أردّ الصفعة لتلك المحلّة التي نبذتني سابقاً. حيث سأعود لها وأنا في صفّ جماعة لا تأخذها في الحق لومة لائم. وبالفعل كنتُ والإخوان نلقن أهل المحلة دروساً قاسية في الالتزام بما نأمر به وننهى عنه. حتى وصل الأمر إلى استعمالنا "التواثي"* لكي نؤدب المخالفين والمارقين على تعاليم الجماعة. وكنتُ أنا شخصياً أحمل العصا ضارباً بها من أراه خارجاً عن أوامرنا. ولم أزدد في عين الناس إلا احتراماً وخشية، وفي عين الجماعة إلا مكانة وحظوة. حتى همس في أذني الوسيط الذي كان يربطنا بشيخ الجماعة. وقد أخبرني أن الله اجتباني لنعمة كبرى. إلا وهي اللقاء بشيخ الجماعة المستور. حيث سأفوز ببركات اللقاء به ومباركته لي شخصياً. وبالفعل ذهبنا سوية إلى المكان الذي كان يسكن فيه الشيخ. حيث كان على وشك اللقاء بي وبإخوة أخرين من جماعات متفرقة تابعين له. وبعد تبادل السلام والتهاني بيني وبين الإخوة الآخرين، دخل علينا شيخ الجماعة الذي استقبله الآخرون بالتكبير والتهليل. كان الجميع فرحين بهذا اللقاء إلا أنا. حيث تسمّرت في مكاني مدهوشاً. أطالع بفضول هيئة الشيخ ووجهه وملامحه التي بدت مألوفة عندي. لقد كنتُ أعرف جيداً هذا الشيخ على الرغم من ملابسه البيضاء وغترته ولحيته الطويلة. خصوصاً بعد أن نظر إليّ مبتسماً وصار يطالعني حين اقبلت عليه مسلماً. فعرفت فوراً حين صافحني بحرارة، أنني قبلتُ من حيث لا أدري بالوظيفة الشاغرة التي عرضها عليّ من قبل.

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

.............................

* التوثية: باللهجة العراقية تعني العصا الغليظة

 

في نصوص اليوم