آراء

سعيد والزرنيخ

أهونهما كانت بين الغرباء..

اما الاخرى، فليس هناك جحيم يشبهها..

ان تكون غريبا وسط الذين حلمت سنوات طويلة بلقائهم، والارتماء باحضانهم، والبكاء فوق الصدر الدافيء، والشيلة* المضمخة بالمسك، وعطر اخر لاتمتلكه سوى الامهات.

قالها سعيد وهو يقف على الجانب الاخر من الشارع الرئسي المطل على الزقاق الصغير الذي احتضن دارهم وسط البيوت القديمة والمتداعية في ذلك الحي الفقير.

ينتظر كل مساء دخول اخر بنت كلب كما صار ينعتهن، الى دارها، ليتجنب النظرات الغريبة الممتزجة بالاشفاق والفضول والتي كانت تخترق جسده، وهمسات العجائز وغمزات الصبايا وحتى بعض الاطفال، تعثر اكثر من مره وكاد يسقط على وجهه بسبب تلك النظرات والاسئلة التي لم تنقطع منذ عودته من الاسر اللعين، ذلك الاسر الذي بعثر اكثر من عشر سنوات من شبابه، في حرب لايعرف لماذا بدأت، ولا كيف انتهت؟؟!! كل مايعرفه انه ذهب اليها بشعر اسود وشارب خفيف، وعاد منها براس اكلت الصلعة نصفه والشيب نصفه الاخر.

كيف كانوا يعاملونكم هناك ياسعيد؟؟ من كان معك ياسعيد ؟؟، أصحيح انكم نمتم على الثلج ليال طويلة؟؟ هل سمعت بخبر وفاه امك وابيك؟؟؟ هل علمت ان اخاك محمد تزوج بعد اسرك بسنة، واخوك رعد جاءه تؤام اولاد سمى احدهم على اسمك ياسعيد؟؟؟ فهيمة طلقها زوجها،  صبيحة طهرت اولادها، عبد عون احترق دكانه، جاسم مات حماره، حصل كل هذا بعد اسرك ياسعيد هل علمت بكل ذلك ؟؟؟ هذه الاسئلة  التافهة وغيرها كثير، اجاب عليها الف مره في الستة اشهر الاخيرة،

صار يكره كل سؤال، يجيب بعصبية، يضحك او يصمت، سؤالا واحدا كان يجعله يصرخ كالمجنون سمعه من جارتهم الصبية وهي تسال زوجة اخيه:

أصحيح ياخية انهم سقوهم شرابا اسمه الزرنيخ عندما عادوا من الاسر في معسكرات خاصة لغسل ادمغتهم كما قالوا؟؟!!!!

لااعرف، لكن تصرفاته غريبة، صحيح اني لم التقيه الا بعد عودته، لكني سمعت الجميع يتحدث عنه وعن طيبته، ومااراه الان رجل غريب الاطوار،

اقتربت جارتها منها وهمست: يقولون ان هذا الشراب يلحس العقل ويسقط الشعر صحيح؟؟؟،

يلحس العقل ياابنة ال......؟؟؟

لو ذقت ساعة واحدة من العذاب الذي لاقيناه للحس عقلك ومؤخرتك ايضا، عشر سنوات حسبت كل ساعاتها ودقائقها، ليس هناك عذاب اكبر من ان يلقى الانسان في حبس لايعرف امده، ياويلي اكثر من عشرين عيدا لم اقبّل فيها وجه امي أو يد ابي، لااعرف كيف ماتوا واي حزن نخر قلوبهم الدافئة، اي لوعة باكية غصت بها امي؟؟ واي دمعة عزيزة ذرفها ابي في الخفاء؟؟ لم ير احد دمعته ابدا، انا رايتها هناك في البعيد.

لماذا عدت؟؟ ليتني مت هناك؟؟ قبل ان اموت هنا كل لحظة، كل احلامي تبعثرت، ذاكرتي صدأت وشابت، لم يعد للاشياء طعمها ورونقها، بيتنا الذي كان يضوع عطرا بساكنيه، في تلك الزاوية من باحته الظليلة البارده جلست امي تطرز الاغطية القطنية الملونة وهي تترنم باغاني الفرح وتقول: هذه لعرسك ياسعيد، سازوجك اجمل صبية يابني، اين انتي ياأمي الان؟؟؟  لتري ماحل بي..

* اماه.. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار

لاباب فيه لكي ادق، ولا نوافذ في الجدار

كيف انطلقت على طريق لايعود السائرون

من ظلمةٍ صفراء فيه كأنها غسق البحار

 

اصبح هذا البيت الدافىء موحشا بغرفه الثلاثة التي احتلها اخوان يصغروني بسنوات مع زوجات واطفال لااعرف اكثر اسمائهم، كل مالدي في هذا البيت اربعة مسامير علقت عليها اسمالي وحقيبة متوسطة تضم اوراقا ورسائل وبعض الذكريات في غرفةٍ صغيرة للضيوف يشاركني ثلاثة من اولاد اخوتي النوم فيها، اشعربغربة مخيفة وسط كل هؤلاء، حتى الشاي الذي اشربه في الصباح يكون على استحياء بعد ان يخرج اخوتي الى العمل. كل هذه الافكار كانت تدور في راسه نهارا، وتأرقه ليلا.

لايعرف اين يقضي يومه الطويل، بحث عن عمل في كل مكان دون جدوى، من سيرضى برجل تجاوز الخامسة والثلاثين لم يتعلم اي مهنة ؟؟؟!! وليس لديه شهادة؟؟

ليس لديه اصدقاء، ولاحبيبة، ولايملك اي شيء، كأن الحياة تأمرت مع الدهر عليه.

في احدى المرات بينما كان عائدا من رحلة ضياعه اليومية، يخب في مشيته كالعادة الى البيت، استوقفته احدى جاراتهم ونادته: سعيد ياسعيد، هذه قريبةً لي تريد ان تسالك، توقف وهو مطرقا الى الارض، قالت له هل صحيح انهم شربوكم الزرنيخ  لدى عودتكم من الاسر؟؟؟؟ صمت قليلا ثم صرخ: ياستي شربونا الزرنيخ شربونا الخراء، مالكم وشأني اتررررركوني بحااااااااااالي ياناس، او اقل لك ...انتظري..

خلع حذاءه الايمن بمشط قدمه اليسرى وركله في الهواء، طار الحذاء عاليا وسقط فوق احدى السطوح، خلع الاخر بنفس الطريقة وركله الى الخلف فسقط قرب مجموعة من النسوة تجمعت توا على صراخه، دس ابهاميه في بنطلونه وبسرعة انزلهُ الى ركبتيه، استدار اليهن صارخا هذا ماتردن معرفته ؟؟؟؟ (مشيرا الى اسفل بطنه) وهل ان الزرنيخ لحس عقلي وكل اعضائي ام لا ؟؟؟  

خلع بنطلونه واخذ يلوح به ويركض مثل لاعب كرة سجل هدفا حاسما، ركضت مجموعة من الاطفال خلفه رمى البنطلون في الهواء، تبعه القميص، اصبح عاريا تماما، مجاميع الصبية والاطفال اخذت تكبر وتكبر كلما ابتعد، ضحكت نسوه، صفق رجل كبير بكفيه متاسفا،  تهامست صبايا، بكت عجوز، بينما ضاع صوت سعيد وسط هرج وصراخ الاطفال في الشارع الاخر.

 

................................................

* الشيلة  : حجاب على الراس ترتديه المراة العراقية

* هذه الابيات من قصيدة (الباب تقرعه الريح) للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1603 السبت 11/12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم