آراء

أيها القوم كلكم أبرياءُ.!

jafar almuhajirحين نرى بيئة ملوثة نوجه أصابع الاتهام إلى الإنسان الذي تجنى عليها فنقول إنه عدو لبيئته نتيجة لجهله. ويمكن أن تقوم الجهات المختصة بعلاج هذا الضرر أو التخفيف منه. ولكن ماذا سنقول حين نرى بيئة مشحونة بالصراعات السياسية لسنين طويلة وما يترتب عليها من أوجاع وأضرار فادحة تصيب الوطن والمواطن نتيجة تصلب مواقف من يقود البلد دون أن تلوح أية بارقة أمل لإنقاذه من نتائجها الكارثية؟ ولا نبالغ إذا قلنا إن السياسي الملوث بالفساد والازدواجية والنرجسية يترك أثرا سيئا على المجتمع يفوق خطر تلوث البيئة.

والذي يتبادر إلى الذهن إن الكثير من السياسيين المتصارعين داخل العراق قد ركبهم الغرور وأخذتهم العزة بالإثم، وجحدوا حقوق شعبهم من خلال ماشاهده المواطن العراقي على شاشات الفضائيات من تهم متبادلة . وكل واحد منهم تصور له نرجسيته إنه الأفضل والأصلح ولابد أن يفرض آراءه على من ينافسه وعلى الطرف الآخر أن يرضخ لآرائه،ويتراجع عن مواقفه لكي يلتقي معه وهي حلقة مفرغة عقيمة لايبدو منها أي خلاص في المستقبل المنظور. وكأن كل مالحق بالعراق وشعبه من مصائب سببته قوى غيبية لاترى بالعين. فلا توجد في العراق ثقافة الإعتراف بالخطأ من قبل أي مسؤول سياسي كباقي دول العالم حين يفشل السياسيون أو يخطأون بحق شعوبهم.

إن السياسي الذي يقول كلاما جميلا منمقا أمام الناس، ويعلق صوره الجميلة الملونة في الشوارع، ويرفقها بجمل ووعود خلابة ليفوز بالمنصب الذي يحلم به، وحين يظفر بذلك المنصب ويجلس على الكرسي، ويحاط بالحمايات، وذوي النفوس الضعيفة من الطفيليين الذين تعودوا على مسح الأكتاف، ينسى تلك الوعود الخلابة، وتملأ أبواق سيارات حمايته الطريق ضجيجا حين تمر في أحد الشوارع. ثم يعزل نفسه عن الناس الذين أوصلوه إلى منصبه بتغيير رقم هاتفه، ويضع نصب عينيه فقط المكاسب والإمتيازات التي سيجنيها من خلال منصبه الذي حصل عليه، ويسابق الزمن من أجل هدفه الغير مشروع فإنه يعتبر بحق خائنا للأمانة التي أقسم على أدائها. ونسى هذا النمط من السياسيين الذين يعتبرون أنفسهم قادة المجتمع بأن الكثير من الكفاءات العلمية والثقافية والتربوية أفضل منهم ولكنهم أبعدوا أنفسهم عن السياسة لأنهم رأوا بأمهات أعينهم إن العديد ممن آمتهنها حولها إلى كذب وتضليل وخداع في هذا الزمن. ومن شاهد فلما عربيا قديما عنوانه (أرض النفاق) وما يحدث في العراق اليوم يشبه إلى حد كبير أحداث ذلك الفلم حين يخاطب بطل الفلم الفنان الراحل فؤاد المهندس الذي أجاد صورة السياسي المخادع الجماهير قائلا في أحد مقاطع الفلم: (نياط فلبي تكاد تتشقق، وفصوص كبدي تتمزق من هول مآسيكم، وشدة بلاويكم) وهو لايقدم لهم إلا الكلمات المعسولة التي توصلهم إلى الخواء التام.    

والمواطن العراقي أخذ يشعر بمرور الأيام إن العراق صار ساحة لنفاق بعض السياسيين ودجلهم حيث سمع المواطن البسيط آلاف الوعود التي أطلقت وذهبت مع الريح تماما.      

أنا كمواطن عراقي بسيط لاأريد أن أجرح أحدا،أو أزايد على أحد، أو أنافسه على منصب حين أدون كلماتي الصادقة الصريحة، وأعكس صورة السنوات الثقيلة التي مرت . والوجوه التي طفت على سطح الساحة السياسية العراقية وتصريحاتها الكثيرة التي لو جمعت لتحولت إلى مجلدات. تلك الوجوه التي لم تلئم جرحا واحدا من جراحات هذا الشعب الكثيرة. وإنما كان همها الوحيد الظهور على الفضائيات وتنزيه نفسها عن أي خطأ أو زلل وتوجيه التهم للآخرين بأنهم سبب البلاء ورأس الداء. وأحيانا يتهم أحدهم الآخر بالعمالة والخيانة فآنطبق عليهم بيت الشاعر الراحل أحمد شوقي الذي خاطب أصحاب الأمر والنهي في زمنه متهكما حين قال:

لايلم بعضكم على الخطب بعضا- أيها القوم كلكم أبرياءُ.

لقد وقع عراقنا العزيز تحت نيرأحزاب سياسيه لم تقدم للشعب العراقي منذ سقوط الصنم ولغاية يومنا هذا غير الخطب الرنانة، والكلمات المعسولة،والشعارات الزائفة، ونزيف الشعب العراقي مستمر، وجراحاته تتعمق يوما بعد يوم.فكانت الموازنات الضخمة تمر مرور الكرام، والطبقات المحرومة لاتشعر بوجودها. أما اليوم وبعد انهيار أسعار النفط بدأت حكومة العراق العتيدة تطالب الشعب بشد الأحزمة على البطون، وتفرض الضرائب على السلع مطالبة الشعب العراقي بأن يكون معها في هذه المحنة،وأؤكد بأن الذي سيدفع الثمن هم الفقراء رغم نفي ذلك من قبل السلطة الحاكمة. ولم يتذكر الشعب يوما بأن إحدى حكوماته قد وقفت معه في أية محنة من محنه الكثيرة. وكما يقول المثل الشعبي العراقي:

(بخيرهم ماخيرونه، وبشرهم عموا علينه)

إن عقد الشراكة بين الحكومة والشعب هو شعور المواطن بأنه يعيش في وطنه مصان الكرامة،ومن حق المتقاعد الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة وطنه أن يحصل على راتب ينقذه وعائلته من غوائل الزمن. ومن حق الطفل اليتيم أن يرى الرعاية من حكومته إلى أن يشب عن الطوق ويكون مواطنا صالحا، ومن حق الشاب العاطل عن العمل أن يجد عملا في دولته . وكذلك ذوي الإحتياجات الخاصة، والفقراء عموما لهم الحق على دولتهم ليعيشوا عيشة كريمة. حتى تشعرهذه الطبقات الفقيرة بأن الحكومة هي الأم الرؤوم لها بعد أن قست عليها الحياة .وهذا هو عقد الشراكة الحقيقي بين الشعب وحكومته. لكن الأمر وبكل أسف لاوجود له في العراق الذي أصبح فيه الإنسان أرخص من أية سلعة رخيصة،ولا يسمع المواطن العراقي المحروم غير الكلام النظري عن (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(دولة الإنسان) إلى آخر القائمة لطويلة

لقد شاهدت قبل فترة وزير حقوق الإنسان يتحدث عن هذه الثقافة النظرية في أحدى الفضائيات .وحين سألته محدثته عن كيفية شعور المواطن بالمواطنة الحقة أجاب (نحتاج إلى وقت طويل لتثقيف الموظف والسياسي والشرطي والطالب والمعلم ورب الأسره وغيرهم على إحترام حقوق المواطن . ولكن بعد أيام إعتدت حماياته على شرطة المرور في أحد شوارع بغداد لأن موكب سيادة الوزير قد تأخر بضعة دقائق. وهذا مثل على الإزدواجية الصارخة التي يتصف بها بعض المسؤولين.حيث يقول الشاعر أبو الأسود الدؤلي :

لاتنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك أذا فعلت عظيم.                  

وحين لايشعر السياسي بأي حرج أو خجل من أدعا آته ويظل يكررها ويزيد عليها وهو يرى شعبه يتلوى ألما وحزنا يوما بعد يوم ولا يلوح أي بصيص في أي إصلاح فالبيئة ملوثة، والتعليم والخدمات الصحية والاجتماعية في تدهور مستمر، والأرامل والأيتام والنازحون يزدادون يوما بعد يوم وتتعمق مآسيهم ولا يوجد من يمسح الدمعه عن وجوههم والفساد الإداري والمالي يضرب مفاصل الدولة، والمحاصصات والنعرات الطائفية على أشدها. والوطن ينحدر شيئا فشيئا نحو الهاوية. ترى هل يصدق كل هذا في بلد يسبح على بحار من الذهب الأسود الذي تجاوز برميله يوما 130 دولارا. وحكوماته لم تقدم له شيئا يذكر للشعب الذي يعيش على هذه الأرض المعطاء.؟ وليس لي كمواطن عراقي الا أن أعزي نفسي بالبيت الشعري الذي يقول :

خليلي ماأحرى بذي اللب أن يرى

صبورا ولكن لاسبيل إلى الصبر .

إن مصيبة العراق الكبرى هي إن الكل يدعي وصلا بليلى وليلى تئن وتصرخ أحيانا من جراحاتها وعندما نلقي نظره على رؤوس السياسيين التي تحولت إلى مزرعة بصل   يختلط الحابل بالنابل ويفقد التمييز بين الصالح والطالح لأن الطالح كثير. والصالح قليل. وكما يقول المثل الشعبي العراقي (يحترك الأخضر بسد اليابس)

فهل ينهض العراق بهذا النوع من السياسيين الذين نوهت عنهم في مقالي وهم الغالبية. أقول كلا وألف كلا .وإذا بقيت الحال هكذا سيقول لكم كل عراقي كما قال الشاعر :

يمينا لأبغض كل امرئ - يزخرف قولا ولا يفعلُ

إن العراق اليوم بحاجه لمن يعمل ولا يزخرف القول في الفضائيات فلا تبرؤا أنفسكم من الأخطاء الفاحشة التي وقعتم فيها منذ سقوط الصنم وألى يومنا هذا كما قال أحمد شوقي

لايلم بعضكم على الخطب بعضا

أيها القوم كلكم أبرياء!

إن دماء العراقيين مستباحة نتيجة خلافاتكم ومهاتراتكم وتسقيط بعضكم البعض في الوقت الذي يواجه العراق أشرس هجمة بربرية على أرض العراق.وهناك أجزاء واسعة من أرضه العزيزة واقعة تحت براثن الاحتلال الداعشي المجرم. ودماء الشهداء تجري.  

إذا كانت هذه الأخطار الكبرى التي تهدد الوطن في الصميم لاتهز ضمائركم فمتى ستهتز؟ وإلى متى تقولون مالا تفعلون والعراق ينزف ؟ والبعيد يتعاطف مع شعبكم وأنتم غارقون في الحصول على المكاسب والإمتيازات. ولسان حال الشعب يردد قول الشاعر أمرئ القيس :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

على بأنواع   الهموم   ليبتلي

فياأيها السياسيون لا تقولوا شيئا وتعملوا شيئا آخرفالوطن أمانة في أعناقكم فلا تضيعوه ولات ساعة مندم .

 

جعفر المهاجر / السويد.

3/2/2015

 

في المثقف اليوم