آراء

شيء من تأريخ المعدمين والمتخمين في العراق

jafar almuhajirمن الحقائق المعروفة والتي لايختلف عليها إثنان في هذا العالم إن أخطر ثالوث يهدد أي شعب في هذا العالم هو ثالوث الفقر والجهل والمرض .ولا أبالغ إذا اعتبرت الفقر هو الباب الواسع الذي يدخل من خلاله الجهل والمرض . والذي يركض وراء لقمة الخبز ولا يجدها إلا بمشقة زائدة لايستطيع أن يجد الظروف الطبيعية ليأخذ قسطا من التعلم في هذه الحياة. وكذلك ليس بإمكانه أن يدفع عن نفسه غول المرض لو داهم جسمه المتعب. ويقول الدكتور محمد الششتاوي - أستاذ علم النفس الاجتماعي:  

(إن للفقر آثارا سيئة على عملية الإبداع في ألمجتمع فكلما كان المجتمع فقيرًا، قلت عملية الإبداع، وقلت الابتكارات التي تساعد بدورها على تقدم المجتمع وتطوره، وإن الأمية التي هي نتيجة للفقر بطبيعة الحال ينتج عنها تلازم لدرجة كبيرة بين الفقر والمرض الذي قد ينتشر بشكل كبير في المجتمعات التي تعاني من الفقر. ولا شك أن الفقر هو الداء الأعظم، والآفة الكبرى التي تعاني منها المجتمعات. وإن تأثيرات الفقر لا تقتصر على ناحية واحدة، أو تكون محدودة في إطار معين؛ وإنما تمتد تأثيرات الفقر إلى كل ما يمكن أن تتقدم المجتمعات من خلاله وتزدهر، فلا تقتصر تأثيراته مثلاً على الحالة الاقتصادية أو الحالة آلإجتماعية وإنما تكون مجموعة متشابكة من التأثيرات، قد تكون كافية لتدمير المجتمع بالكامل، مشيرًا إلى أن الفقر يعد العائقَ الأكبر أمام تنمية ألإنسان حيث يقف الإنسان الفقير عاجزًا أمام الكثير من الأمور التي يمنعه فقرُه من استغلالها فلا يتمكن من تطوير نفسه، ومواكبة التطورات الهائلة في العصر الحديث، ويحرمه من الرفاهية التي يتمتع بها غيره، الأمر الذي يجعله ينعزل عن المجتمع بشكل كبير.)

وكم من ذهن متفتح له القدرة أن يحصل على أعلى الشهادات العلمية ولكن شظف العيش وقف عائقا في وجهه. وقد قال سيد البلغاء الأمام علي بن أبي طالب ع :

(لو كان الفقر رجلا لقتلته) و(الفقر في الوطن غربه .) ويقول أبا ذر الغفاري (إني لأعجب كيف يبيت الرجل جوعانا ولا يشهر سيفه). وحين يعيش الإنسان في وطن غني كالعراق ويموت فقيرا، ويورث الفقر لعائلته من بعده فتلك هي الطامة الكبرى التي تدعو إلى التساؤل من هو المسؤول عن هذا الفقر الذي يعصف بملايين الفقراء في العراق منذ عقود وعقود دون أن يتحسن وضعهم والعراق يسبح على بحر من البترول ومحسود من عديد الدول لثروته الهائلة ؟

لقد جئنا إلى الدنيا في الأربعينات ونفوس العراق لاتعدو على الخمسة ملايين ،وكانت حاراتنا وأزقتنا التي تضم المئات من البشر أشبه بحظائر للحيوانات. ومات الكثيرون وهم في عمر الزهور نتيجة الأمراض الكثيرة التي كانت تفتك بهم وهم يودعون الحياة بصمت ولم يلتفت إليهم أحد من الحكام الذين تربعوا على عرش السلطة . وكان عدد من إخوتي وأخواتي ضحايا لأمراض فتكت بهم وهم صغار نتيجة انعدام الرعاية الصحية. وبقينا نعيش على الكفاف وننام في معظم الأحيان على الطوى مساء حيث لم نجد مايسد رمقنا. ونعيش في تلك الخرائب ونحرس أنفسنا من خطر العقارب طول الليل فننتظرها حتى تخرج من جحورها لنقتلها قبل أن تقتلنا. ومرت السنين والأعوام بطيئة كئيبة والأمور تجري من سيئ إلى أسوا. وبقيت تلك الحارات المتعبة والمنتشرة على مساحة كبيرة من أرض الوطن تعاني من هذا الثالوث الخطير والمدمر للإنسان وكرامته وحقه في الوجود. ولم يتحرك الحكام الذين تعاقبوا على السلطة على إصلاح هذا الوضع المزري سوى إتخام بطونهم بالمال الحرام إلى أن يقبض الله أرواحهم. في الوقت الذي كان يموت فيه الملايين من الجوع. وقد انبرى شعراء العراق ليؤرخوا تلك الفترة القاسية الشديدة الوطأة حيث يقول الشاعرعلي الشرقي في أحدى قصائده:

أرهقت   شدة   المظالم جيلي

فإذا   هم   جيل   من الأشباح

ما لهذا الفلاح في الأرض روح

أهو من معشر من   الأرواح؟

هو   في   جنة   ينال   عذابا

وهو تحت الأشجار أجرد ضاح

وهناك   قصر من فوق دجلة

كالطاووس   ناشرا     لجناح

أتراه   مدته     دجلة   أنفا؟

حين   لاحت   روائح   القداح؟

نصبوه   كمنبر   من     زهور

والمراقي     كسوسن   وأقاح

لو كشفنا   أطباقه من أساس

لوجدناه     منجل       الفلاح!

إن الشاعر يصف في هذه الأبيات أولئك الحكام الذين شيدوا تلك القصور الفخمة ناشرة جناحيها كالطواويس على نهر دجلة من عرق الفقراء وقوتهم دون أن يشعروا بهم.

وهذا شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري يقول في إحدى قصائده المعبرة عن خلجات الفقراء :

نامي جياع الشعب نامي

حرستك آلهة   الطغام

نامي فإن لم   تشبعي

من يقظة فمن المنام

نامي على زبد الوعود

يداف   في عسل الكلام

نامي تزرك عرائس الأ

- حلام في جنح الظلام

تتنوري فرص الرغيف

كدورة     البدر التمام

وتري زرائبك الفساح

مبلطات         بالرخام

لقد سُرقت أموال الشعب من قبل حكام القهر والفساد، وتم بناء القصور المزخرفة للحاكم وزبانيته التي كان لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيله .

وفي مؤتمر الأدباء العرب الخامس الذي انعقد في بغداد عام 1965م وقف الشاعر الكبير خطيب المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله بكل عنفوانه وجرأته ليوجه نقده اللاذع لجلاوزة البعث الفاشي ويجسد مايعانيه فقراء العراق تحت نير   البعث الذي تصرف بأموال الشعب دون حسيب أو رقيب حيث أنشد قصيدته بغداد قائلا :

بغداد   يومك   لايزال   كأمسه

صورٌ على طرفي نقيض تجمعُ

يطغى النعيم   بجانب وبجانب

يطغى الشقا   فمرفهٌ ومضيعُ

في القصر أغنية على شفة الهوى

والكوخ دمع في المحاجر يلذعُ

ومن الطوى جنب البيادر صرعُ

وبجنب زق أبي نؤاس صرًعُ !

ويد   تكبل   وهي   مما يُفتدى

ويد   تقبل   وهي   مما يُقطعُ.

لقد خاطب الوائلي في هذه القصيده حكام البعث الجائر الذين تصرفوا بأموال العراقيين وكأنها هبة الله لهم ولغاياتهم الدنيئة إنطلاقا فانطبقت عليهم الآية الكريمة:

(وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ .) المائدة- 62

وأية جريمة أسوأ من أكل مال الفقراء والأيتام والأرامل الذين يتضورون جوعا وينعم حكامهم بكل لذائذ الحياة وكأنهم خلقوا من غير طينة البشر حيث يقول أيليا أبو ماضي :

ياأخي لاتمل بوجهك عني – ماأنا فحمة ولا أنت فرقدْ.

وحين قفز البعث الفاشي إلى السلطة مرة أخرى عام 1968م في ليلة ظلماء وتسلط الطاغية صدام على مقدرات العراق ووزع ثروة العراق على عشيرته وأقربائه وأزلامه. ولم يكتف بهذا بل شن الحروب الدموية وحول خزينة الدولة إلى خزينة حربية واشترى جميع أنواع الأسلحة من الشرق والغرب، وزرع معامل الأسلحة الكيمياوية في خاصرة الوطن المنكوب به وبأزلامه، وأهدر مئات المليارات من الدولارات على تلك الحروب التي قضت على كل حلم يحلم به فقراء الوطن بتخليصهم من هذه الآفة التي قبعت على أرواحهم وأجسامهم كالكابوس عبر السنين الطويلة. وكانت تلك الثروات الكبرى التي أهدرت على التسليح والعسكرة والقصور الأسطورية الفخمة كافية لإسكان كل فقراء العراق في بيوت تليق بالإنسان وبكرامته وجعل العراق من أرقى بلدان العالم في مجال البيئة والتشجير والتقدم العلمي وإنشاء المصانع والنهوض بالزراعة وامتصاص كل العاطلين عن العمل. لكن الطغيان والإجرام كان سمة ذلك النظام الذي كان يبحث عن المجد الشخصي ليصفق له الأعراب ، وينعتوه بألقاب فخمة   لايستحقها على حساب فقراء وطنه. فضيع العراق بعد أن كان يحلم بأنه سيعمر ألف سنة ويورث الحكم لأبنائه وأحفاده من بعده. وقد وقف في أحدى المرات بين أزلامه ببدلته العسكرية كجنرال مزيف وهو يستهين بالفقراء ويتأسف عليهم في نفس الوقت حيث قال بلهجة عامية مفككة:

(العراقي كبل جان يلبس دشداشه ملحه يسموها بوري يلبسها بالصيف والشته وما يلبس جواها شي ورجليه مفطره يطب بيها العكرب وآني متأسف على أهلنه كبل اللي ماشبعوا من التمر والطماطه!!!).

لكنه سقاهم الموت الزؤام بدلا من التمر والطماطم في حروبه الدموية التي كان وقودها الفقراء. وأوصل العراق إلى أسوأ حال يمكن أن يكون فيه أي بلد في العالم. واليوم وبعد مرور أكثر من عشرة أعوام على سقوط الصنم، وجاء من بعده حكام جدد طالما تباكوا على مظلومية الشعب العراقي مازالت تلك الحارات الفقيرة على حالها وكما يقول المثل العراقي (حال السدانه بالماي) وهي مدن الخراب حقا ودون أية مبالغة. وما زال أبناء الفقراء وأحفادهم في تلك المناطق يعيشون في نفس تلك الزرائب التي تستوطن فيها الأمراض الفتاكة المهلكة. وهي مازالت تطفو على مستنقعات آسنة مملوءة بالبعوض والذباب وتحيط بها أكوام   القمامة وكأنها تعيش في ظلام العصور الوسطى. ويشرب الناس الفقراء الذين ليس بإستطاعتهم شراء قناني الماء الصالح للشرب الماء الملوث ،وتنتشر البطالة بين الشباب . ويسمع المواطن كلاما كثيراعن تحسين حالة الفقراء والمعدمين والأيتام والأرامل ولا يُقدم لهم إلا النزر اليسير الذي لايغني من جوع كافر. والمصيبة أن كل المنتمين للأحزاب الدينية وغير الدينية أطلقوا عشرات الآلاف من الشعارات التي وعدت فقراء الوطن بالنعيم الموعود في دعاياتهم الإنتخابية.لكنها تحولت إلى سراب. ففي العراق اليوم مؤسسات صحية وصلت إلى الحضيض وحلت محلها المستشفيات الخاصة الخبيرة بابتزاز المواطن وتجريده حتى من ملابسه دون أية رقابة تذكر في خضم هذه الفوضى العارمة التي تعصف بالوطن. ولدي عشرات الشواهد على ذلك.  

وتقول المنظمات التابعة للأمم المتحدة أن الفقر في العراق يقدر 30% من مجموع السكان في بلد يملك أكبر احتياطي للبترول في العالم. وحتى البطاقة التموينية التي هي الأمل الوحيد المتبقي للفقراء يكاد يقضى عليها بعد أن أخذت تتناقص شيئا فشيئا.   وهناك فقراء يموتون موتا بطيئا في حاراتهم وأزقتهم المظلمة . والأموال الطائلة تخصص للوزراء وحماياتهم ووكلائهم ومدرائهم. و ينهب حيتان الفساد الملايين من الدولارات ويخرج علينا وزير المالية في هذه الدولة العتيدة ليقول بعظمة لسانه في إحدى الفضائيات

(لقد تعود العراقيون على ثقافة البلاش. ولابد أن يتغير هذا الوضع كما يحدث في الدول المجاورة.!!!) وبعد فترة يخرج علينا وزير الكهرباء ليرفع تسعيرة الكهرباء . وهناك تلميحات كثيرة من مسؤولين متخمين آخرين توحي بأن التقشف سينال رواتب الموظفين لأن الدولة على حافة الإفلاس.! ولا أدري أين كانت هذه الدولة من فقرائها حين وصل سعر برميل البترول إلى 120 دولارا ؟

رحمك الله ياجعفر السعدي وأنا أتذكر جملتك البليغة التي مازالت عالقة في ذهني وهي(عجيب أمور غريب قضيه. !!! )

فياأيها المتخمون الحاكمون لقد طفح الكيل وكفاكم جورا على فقراء العراق. وإلى متى تظل حقوقهم راقدة في كروشكم ومستشاريكم ونوابكم وحماياتكم التي قدرها القاضي وائل عبد اللطيف بستة مليارات من الدولارات سنويا.؟ فهل هذه هي دولة المواطن أم دولة المتخمين.؟

إن أموال العراق لم يهبها الله للناهبين والوزراء العاطلين والنواب المتصارعين والمسؤولين الفاسدين الذين لم يقدموا شيئا للشعب إلا المآسي وهم مازالوا يصولون ويجولون في هذه الدولة الديمقراطية بسياراتهم الفارهة المظللة. حتى أموال النازحين المنكوبين لم تنج من النهب والسرقة. وما هو الفرق بين الفساد والإرهاب أيها المتخمون.؟  

لقد وصل الفساد إلى مراحل خطيرة في العراق. ولا توجد معالجات جدية في مكافحته نتيجة حكومة المحاصصات التي دمرت المجتمع وخاصة الفقراء. وكأن حال هؤلاء المفسدين كالذين وصفهم الله في قوله تعالى:

(أيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ .) 266 البقره.  

لقد عشعش الفقر المزمن بين ظهراني فقراء العراق،وأذبل أحداقهم، ودق عظامهم ،وحرمهم من أبسط متع الحياة وأخاطب الشرفاء عليهم أن يرفعوا أصواتهم بكل قوة ضد هذا الطوفان من الفساد الذي أكل الأخضر واليابس وأول الضحايا هم فقراء العراق. ومن الجرائم الكبرى أن ينهب الفاسدون أموال العراق وعشرات الآلاف من شباب العراق أتعبهم البحث عن عمل يسد رمقهم ولا يجدونه.  

بسم الله الرحمن الرحيم :

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.) البقرة-188.

 

جعفر المهاجر / السويد.

5/5/2015م

 

في المثقف اليوم