آراء

الحاكم وممثل الشعب ومسؤوليتهما الأخلاقية والوطنية

jafar almuhajirمن أولى أولويات دولة المواطنة أن يهتم الحاكم الذي يكلفه الشعب بمهمة مسؤولية الحكم بهموم المجتمع، ويسعى سعيا حثيثا لتحقيق تطلعاته في الامان، ويضع جهازه الحكومي الخطط العملية للتخفيف عن الطبقات الكادحة ودعم الصناعة الوطنية التي تشكل الدعامة المستقبلية لبناء دولة ثابتة الأركان، مزدهرة الاقتصاد متنوعة المصادر الإنتاجية. وتكون سيادة القانون فوق الجميع ليشعر كل مواطن بالعدالة التي هي من العوامل المهمة في إستقرار المجتمع. ولكشف المفسدين الذين يعيشون كالطفيليات على دماء الناس دون أي وازع من ضمير. ومن خلال إلقاء نظرة فاحصة بعيدة عن أية مبالغة في القول نجد أن المجتمع العراقي قد وقع فريسة لكثير من أصحاب القرار المتهافتين على السلطة والجاه والنفوذ بعد أن وضعوا القسم خلفهم، وتجاهلوا المشاكل الكبيرة التي يعانيها شعبهم، وتخندقوا خلف كتلهم وأحزابهم وعشائرهم وبروجهم المشيدة،وجلبوا الحمايات الشخصية لهم لتكون حاجزا بينهم وبين المجتمع الذي أوصلهم للسلطة. ولكنهم حين يلتقون بوسيلة إعلامية وحلم المنصب يغزو عقولهم ويعيش معهم كظلهم تتفتح شهيتهم، وتنطلق ألسنتهم كالسيل حين يقترب موعد الإنتخابات، وتتصاعد حمى التهافت على كرسي السلطة ويتحولون إلى خطباء بارعين في الحلبة. وتقدم لهم الأناشيد الحماسية . وتعلق صورهم الملونة الضخمة التي تكلف مليارات الدنانير على الجدران وأعمدة الكهرباء . وتدوي صرخاتهم ضد الطائفية والفئوية والمحاصصاتية . وإنهم سيبذلون قصارى جهودهم لإنقاذ الشعب من محنته. وإيصاله إلى أعلى مراتب الرقي والتقدم . وأن أبوابهم مفتوحة على مصراعيها لتلقي شكاواهم ومظلومياتهم إذا منحهم الشعب ثقته. وحين ينجلي غبار المعركة سرعان مايظهر زيف تلك الشعارات الخاوية والوعود البراقة والأماني الخلابة وتتلاشى كالدخان في ريح عاصفة.

وتمر الأشهر والأعوام والشعب ينتظر وينتظر لكن الواقع ينتقل من سيئ إلى أسوأ. وأعماقه تدوي بين حناياه (لا أبو علي ولا مسحاته) و(دخانهم عمانه وطبيخهم ماإجانه). كما تقول الأمثال العراقية. وحال الطفل والشاب والمرأة وكبير السن وذي الاحتياجات الخاصة يتدهور أكثر فأكثر مع ازدياد هذه الشرائح المحرومة من أي عيش كريم قي وطنها الزاخر بالخيرات والذي يملك ثالث احتياط نفطي في العالم بعد السعودية وإيران ومحسود من قبل معظم دول العالم فأين يكمن الخلل؟

أقول بكل ألم إن القابلية على الازدواجية والزيف وبناء الأحلام الوردية على الركام قد بات سمة ملازمة لكثير من السياسيين العراقيين الذين ظفروا بالسلطة وعضوا عليها بالنواجذ. وهذه الظاهرة المرضية ليست جديدة بل توارثها العديد من المسؤولين العراقيين وبرعوا في إتقانها منذ عقود وعقود.

يقول الدكتورعلي الوردي في كتيب له عنوانه (شخصية الفرد العراقي) (إنني في الحقيقة لاأرى من النافع لكثير من المسؤولين في بلدنا ان يغضوا الطرف عن العيوب ومحاولة التبجح بما فينا من محاسن والأجدر بنا في هذا الطور الحرج من أطوار تأريخنا أن نركز انتباهنا على عيوبنا وأمراضنا لكي نستطيع إصلاحها ومعالجتها بدلا من الانشغال بذكر حسناتنا حيث لا نجني من ذلك غير الغرور المذموم.)

لقد تفاقمت هذه الظاهرة على ألسنة عدد كبير من المسؤولين في ظرفنا الحالي من الذين يلبسون لباس الفضيلة والتقوى والإخلاص للشعب والوطن لكن إذا كشفت حقيقتهم فالفساد ينخر عظامهم نخرا وهذه من أكبر المصائب التي يعانيها الشعب العراقي من هؤلاء الذين تحولوا إلى نقمة ووبال على شعبهم ووطنهم. وكأن لسان حالهم يقول نبقى أربع سنوات في موقع المسؤولية ننهب ونكذب ونراوغ ونعد الناس بمواعيد عرقوب ثم تنتهي هذه السنوات وبعدها ليكن مايكون بعد أن نملأ جيوبنا مادام القانون لايسلط الضوء علينا.

لقد مضىت على سقوط الصنم سنوات عجاف طويلة وثروات العراق منهوبة وموزعة على الكثير من المشاريع الوهمية رغم وجود هيئة النزاهة التي تبدو عاجزة في مسك الكثير من خيوط الفساد وتزداد معها أعداد الشباب العاطلين على العمل وتتدهور الخدمات الصحية والبلدية في المدن أكثر فأكثر وتحرم العوائل وأطفالها من حديقة أو متنزه يضمها ويخفف عن كاهلها أعباء الحياة القاسية التي يشهدها العراق، وأسعار المواد الغذائية في تصاعد مستمر ولا يستطيع الموظف البسيط والمتقاعد سد رمقه ورمق عائلته، ولا يجد الشاب فرصة عمل في وطنه تنقذه من الضياع. فكيف يُطلب منه أن يكون مبدعا ومنتجا مادام الحرمان يحيط به من كل جانب؟ ولم يكن حال المرأة بأفضل من الطفل والشاب .حيث تقول إحدى المنظمات العالمية المسماة (وكالة أو كسفام للغوث) في أستطلاع لها جرى على 1700 سيدة عراقية بمناسبة يوم المرأة العالمي : (إن العديد من الأمهات يجبرن على القيام بخيارات صعبه وهي التكفل بالأنفاق على أولادهن ليذهبوا إلى مدارسهم ويتلقوا الرعاية الصحية أو الدفع للقطاع الخاص لخدمات الطاقة والمياه) وأوضح الـتقرير (أن المرأة تعاني آلاما مكبوتة وحصارا في ظل دوامة من اليأس والفقر وانعدام الأمن الشخصي وإن نصف النساء يفتقدن الخدمات الأساسية كإمدادات المياه وأن ثلاثة أرباع الأرامل لايتقاضين أية مساعدة وأن هذه المآسي لاتجد من يخفف منها.) وهذا التقرير صدر قبل الغزو الداعشي أما الذي حدث بعده فالكارثة تفاقمت بإضافة أكثر من مليوني من المهجرين في وطنهم وهم في أسوأ حال.حتى منحة المليون دينار التي خصصتها الحكومة العتيدة لكل عائلة تم التلاعب بها. وهناك تقارير كثيرة تعكس الواقع المأساوي لكثير من الأوضاع الاجتماعية في العراق تخص الطفولة والشباب .

لقد رأيت بعيني المئات من الفتيان والأطفال وهم بملابسهم الرثة تبتلعهم شوارع ترابية بائسة يعملون في تلميع الأحذية وبيع السكائر والأكياس الورقية وبعض المهن الشاقة التي تتنافى مع الطفولة وحتى التسول للحصول على لقمة العيش نتيجة الإنهاك المادي والمعنوي والصحي الذي تعاني منه العائلة العراقية وعدم قدرتها على رعاية أبنائها. ولم تفكر الجهات المختصة بإنقاذ هذه الشرائح المحرومة وفي أحسن الأحوال ترسم الخطط على الورق، ويطلقها المسؤولون على شاشات الفضائيات ثم يتراكم عليها الغبار في رفوف الوزارات وتنسى مثل القوانين القابعة في أدراج مجلس النواب منذ سنين . هذا إذا علمنا أن الكثير من هؤلاء الأطفال هم من أيتام الحروب والعمليات الإرهابية. فماذا ينتظرهم حين يشبوا عن الطوق وفي أغلب الأحيان يظلون محرومين من التعليم ؟ وهناك إحصائيات تؤكد بأن في كل عام يتسرب مئات الآلاف من الأطفال من مدارسهم دون أية متابعة من السلطات وهو أمر ينذر بخطر كبير.

لقد تحولت العديد من المدن العراقية إلى سجون كبيرة يعيش فيها ملايين البشر دون أن يجدوا مكانا للترويح عن أنفسهم وعوائلهم .

ومن الظواهر التي تستحق وقفة لاتخفى على أي زائر لوطنه هو لغز الكهرباء الذي مازال عصيا على الحل منذ أثني عشر عاما تم خلالها تعيين خمسة وزراء للكهرباء كل واحد منهم يبرم ويخطط ويوعد رغم مليارات الدولارات التي صرفت والوعود الكثيرة التي رافقتها. فالإنقطاعات الطويلة والعشوائية مازالت على حالها وأصبحت المولدات الكبيرة التي يملكها البعض من البارعين في سرقة جيب المواطن المسحوق هي السمة البارزة في فصل الصيف. وتظهر هذه المولدات الضخمة الراقدة على الجزرات الوسطية في الشوارع وفي الساحات الخالية بهياكلها الضخمة   وكأنها ديناصورات منقرضة. والمنظر الأبشع هو إمتداد عشرات الأشرطة البالية المتراكمة على بعضها والمتفرعة منها وكأن العراق أصبح من أكثر دول العالم تخلفا رغم كنوزه وذهبه الأسود. وقد قال أحد المسؤولين إن العراق سيصدر الكهرباء إلى الدول المجاورة لكنها تراجعت أكثر.

وعلى مدى أعمار الحكومات الخمس التي أعقبت سقوط النظام الصدامي كشفت رابطة الشفافية العالمية عن حالات فساد كبيرة في الجهاز الحكومي وفي كل عام يتصدر العراق قائمة الدول في الفساد، وباتت الحقيقة واضحة أمام الشعب العراقي بأن هناك جيشا من المفسدين في العراق منهم الوزراء والنواب والمدراء العامون والمحافظون ولم تتم محاسبتهم على مااقترفت أياديهم الآثمة بحق الوطن وخطرهم لايقل عن خطر الإرهاب.

إن معظم دول العالم المتقدمة تسعى سعيا حثيثا لإيجاد وسائل جديدة تخدم الإنسان وتخلق له الأجواء الملائمة للإبداع والإنتاج والنبوغ في مختلف مجالات الحياة الفكرية والعلمية والاقتصادية لكن الكثير من المسؤولين اليوم في العراق الجديد مهتمون بالدرجة الأولى بحماية بيوتهم ومقرات عملهم وتحويلها إلى ثكنات عسكرية محاطة بالعسكر والآليات العسكرية من جميع الجهات وإقامة أبراج المراقبة حولها وهي ظواهر توحي بأن روح العسكرة وهاجس الأمن الشخصي لاأمن الشعب مازالا يعشعشان في رؤوس العديد من المسؤولين الذين استولوا بدورهم على بيوت مسؤولي النظام الصدامي وأصبحوا كسابقيهم في السلوك .

وحين ينتقل المواطن بالسيارة بين المحافظات يلمس بنفسه سوء الخدمات والحفر الكثيرة التي تآكل الطرق الخارجية بعد أن مضت عليها عشرات السنين وفي أحسن الأحوال يتم صيانة بعضها كتحرك السلحفاة حيث تمر عليها السنين ولم تنجز رغم التهامها لآلاف الضحايا من الأبرياء. أما الجهاز الإداري فحدث ولا حرج وحين ينهي المواطن معاملة ما يلعن الساعة التي دخل فيها تلك الدائرة الحكومية.

هذا غيض من فيض يعانيه شعب العراق من سياسيين هم في السلطة ومعارضون للسلطة في آن واحد وهذه الظاهرة التي ينفرد بها العراق. ولا يمكن لحكومة بهذه المواصفات مواجهة المحن والصعوبات والمشاكل التي تعصف بالعراق، ولا يستطيع رئيس الوزراء فيها أن يقيل وزيرا فاسدا لأن كتلته جاهزة لكي تقيم الدنيا ولا تقعدها لوحدث ذلك. ولا أدري ماالذي قدمه هؤلاء النواب الذين وصل عددهم إلى 328 عضوا وهم يقضون الوقت الذي يمضي داخل قبة البرلمان بالخطب الرنانة ومعظم القوانين المهمة تنتظر التشريع منذ ثلاث دورات إنتخابية وهي قابعة في الأدراج يتراكم عليها الغبار.؟

لقد حدثت كوارث كبرى منذ أن غزت داعش العراق منها كارثتا احتلال ثاني مدينة في العراق وهي الموصل ومجزرة سبايكر الرهيبة التي ذهب ضحيتها 1700 مواطن عراقي وقد مر عام على الكارثتين الوطنيتين ومجلس النواب مازال عاجزا عن كشف ملابساتهما وتحديد من تسبب بهما لابل سخر أحد الشركاء من الأسئلة الموجهة إليه ورفضها جملة وتفصيلا. ولو ظل الحال هكذا سيظل العراق يعيش في دوامة لانهاية لها من التخبط والتراجع والنكوص في جميع مجالات الحياة. فالحكم مسؤولية أخلاقية عظمى وليس صراعا من أجل الظفر بالكرسي وإطلاق الوعود الخلابة التي لاتغني ولا تسمن من جوع.

وعلى عاتق الشعب تقع مسؤولية إختيار الصالحين ونبذ المفسدين ولو كانوا ذوي قربى .ويبدو إن قيام حكومة قوية منسجمة جل أعضائها من الكوادر العلمية النزيهة أمر بعيد المنال في المستقبل المنظور مادام صراع المحاصصات هو العمود الفقري لتأليف الحكومة. وإن مصطلح (الإقصاء والتهميش) قد تحول إلى قميص عثمان للحصول على أكبر قدر من الإمتيازات التي صارت الهم الأول للكثير من السياسيين العراقيين وكان الله في عون الشعب.

 

جعفر المهاجر.

12/6/2015م  

في المثقف اليوم