آراء

غطرسة أردوغان وصدمته الإنتخابية

jafar almuhajirحين يصاب حاكم في أي بلد بمرض النظرة القومية الإستعلائية وتمتزج بالتعصب المذهبي يختل توازنه وتقوده هواجسه بخطى حثيثة نحو محطة جنون العظمة التي هي أعلى مراحل الغطرسة. وحينذاك لايقتصر خطره على شعبه فقط بل يتجاوزه إلى جيرانه لأنه يتصور إن العالم قد أصبح ملك يمينه وإنه مخول من السماء لمحاربة أعدائه. وهذا ماأصيب به أردوغان حاكم تركيا الحالي. فمنذ عام 2003م وهو يحكم تركيا بقبضة الرجل الأوحد، ويتدخل في شؤون الدول الأخرى بصورة سافرة تتعدى الأعراف الدبلوماسية التي يجب أن يتصف بها رؤساء الدول .ووصلت غطرسته وعنجهيته إلى أعلى حدودها لتصاعد شعبيته خلال الأعوام الماضية نتيجة تعصبه القومي والديني أولا وحين رد بحركة مسرحية كشفتها الأحداث فيما بعد إنها زائفة لاتعدو عن كونها زوبعة في فنجان أثناء رده على رئيس الكيان الصهيوني في مؤتمر دافوس وآتهمه بأنه قاتل الأطفال وهي كلمة حق أراد بها باطلا .وانسحب من المؤتمر فنال بتلك الخطوة إعجاب أوساط كثيرة من الأتراك ، واحتشدوا لاستقباله إستقبال الفاتحين ملوحين له بالأعلام التركية وبلافتات كتب عليها(مرحبا بعودة المنتصر العظيم) و(أهلا وسهلا بزعيم العالم.) وآستمرت تلك الشعبية في تصاعدها حين هاجمت القوات الإسرائيلية السفينة التركية مرمره التي كانت متجهة ضمن قافلة أسطول الحرية لكسر الحصار على قطاع غزه في 31مايس عام 2010. وثبت أن الحادث كان بتدبير من الاستخبارات التركية لتقديم أردوغان كزعيم جديد للشرق الأوسط . حيث كان حزبه ومخابراته على دراية تامة إن إسرائيل سترد بقوة لذا قيل لنواب الحزب ألا يكونوا على السفينة وغادروها في اللحظة الأخيرة. وكانت تلك الحادثة نقطة وصول شعبيته إلى ذروتها، وهكذا بدأ صناع السياسة التركية بتحويل هذه التفاعلات الصغيرة إلى ميزات كبرى في شخصية أردوغان. وبمرور الأيام أخذ يقدم نفسه على إنه الزعيم الأوحد لتركيا والعالم ألإسلامي مستغلا غضب الشعب التركي على ماقام به الكيان الصهيوني لصالحه وصالح حزبه في الدعاية الإنتخابية حيث ظهرت إبنته أمام السفارة الإسرائيلية في تركيا إحتجاجا على تلك العملية وتبعها نواب ومسؤولوا حزب العدالة والتنمية ثم حضر أردوغان إلى المنصة وآنتقد الكيان الصهيوني إنتقادا لاذعا وكان له ماأراد. ورغم الصخب والضجيج الذي قام به ضد الكيان الصهيوني وكأنه أصبح على مرمى حجر من تحرير فلسطين فإن العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والكيان الصهيوني لم تنقطع. وآستمر التعاون العسكري والإقتصادي بينهما. وقد كتبت الصحف التركية والإسرائيلية الكثير من البحوث حول الموضوع . وظهر إن قصد الخطابات المتشنجة التي أطلقها أردوغان هو الحصول على المزيد من أصوات الشعب التركي لترسيخ حكمه الفردي ليكون منطلقا لآعتداءات سافرة قام بها على العراق وسوريا بشكل خاص. فمن قصف مستمر بالطائرات الحربية للأراضي العراقية بحجة مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني . ومن حجب للحصة المائية القانونية للعراق في نهري دجلة والفرات. وإقامة عشرات السدود عليهما وآخرها (سد أليسو) الذي سيحجب 11 مليار متر مكعب من مياه دجلة المنحسرة أصلا. والذي سيؤدي إلى جفافه خلال عشر سنوات . وتحويل كل نبت أخضر على ضفتيه إلى صحارى قاحلة وبالتالي القضاء على أهوار العراق . ومن عملية شراء النفط من حكومة البارزاني بغير موافقة الحكومة العراقية. وزيارة وزير خارجيته آنذاك داود أوغلو إلى كركوك وقد رآه العالم وهو يتبختر في هذه المدينة العراقية بالتعاون والتنسيق مع سلطات مسعود البارزاني. ثم طلب حكومته من مجلس النواب التركي بالسماح لها بالتوغل داخل الأراضي العراقية نتيجة إتفاق سابق مع حكومة المقبور صدام حسين يعود إلى عام 1995م وكأن أرض العراق تحولت إلى أرض مستباحة له. كل هذا الكيد المستمر الذي قامت به سلطات أردوغان التركية قوبل بردود فعل هزيلة من الحكومة العراقية لاتكاد تذكر سوى بعض الإستنكارات الفردية من بعض النواب والتي ذهبت مع أدراج الرياح. وكان وزير الخارجية المخضرم هوشيار زيباري يغط في نوم عميق وكأن الأمرلايعنيه. وقام مسعود البارزاني وآبن أخيه نجيرفان على أثر تلك الإعتداآت السافرة على العراق بعدة زيارات إلى تركيا لتنسيق المواقف وكأن لسان حاله كان يقول لأوردغان إن العراق اليوم لاحول ولا قوة ولا سيادة له وليس بإمكانه أن يرد على مكائدكم وغطرستكم . وبلغ تدخل أردوغان السافر في الشأن العراقي إلى حد أن رفع الطائفيون صوره في ساحات الاعتصام في المناطق الغربية إلى جانب صور وأعلام صدام حسين، وخاطبه أحدهم بأنه حفيد السلطان محمد الفاتح وناشده بالتوجه لتحرير العراق من (الاحتلال الصفوي).

وتصاعدت غطرسته أكثر حين قمعت جندرمته المعارضة التي طالبت بالحرية بالضرب المبرح وخراطيم المياه وقد توفي على أثرها عدد من المتظاهرين في ميدان تقسيم بعد سلسلة من الإجراآت القمعية ضد حرية الرأي وإغلاق عدة صحف للمعارضة ووصفه لنقيب المحامين بأنه( وقح وعديم الخلق) وآتهم أحزاب ألمعارضة بأنهم (خونة وعملاء ) ووصف المتظاهرين من شعبه بـ (الرعاع والزعران ) وأطلق صفة ( الكفر والشذوذ) على أعضاء حزب الشعب الجمهوري المعارض. وحارب القضاء بآعتقاله لعدة قضاة كشفوا فساد سلطته. وآضطهد العلويين والأكراد، ودخلت قواته الأراضي السورية في إستعراض للقوة لنقل ضريح جده سليمان شاه وهو إعتداء صارخ على أرض عربية وأخيرا ظهر وخلفه ستة عشر جنديا يرتدون ثياب محاربين أتراك قدامى، خلال استقباله الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قصره الرئاسي الجديد،وكرر المشهد خلال استقباله لنظيره الأذربيجاني إلهام علييف، وهي إشارة تأريخية تقول إن الدولة العثمانية أسقطت لأنها رفضت التخلي عن فلسطين .!!!

وفي الإطار نفسه وافقت لجنة الشؤون الدستورية بالبرلمان التركي على اقتراح نواب حزب العدالة والتنمية إعداد شعار رسمي جديد للجمهورية هو ذاته شعار الدولة العثمانية المعروف بـ (الطغراء) وأخذ أردوغان يتجه نحو الدكتاتورية ويعلن في خطاباته الدونكيشوتية بأن إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد هي من أولى أولوياته،وطالب أمريكا والغرب بأن يتبنوا إقتراحه بإنشاء منطقة عازلة في سوريا قبل محاربة داعش. ولم يوفر مناسبة في خطاباته الهستيرية إلا وهو يذكر الأمة العربية بالعهد التركي الطوراني الذي كان بحق عصرا للظلم والظلام دام أربعة قرون أهلك فيها الأتراك العثمانيون الزرع والضرع وتركوا البلاد العربية خرابا بلقعا، وتحولت تركيا في عهده إلى بوابة رئيسية لتسلل آلاف الإرهابيين من دول المغرب العربي والخليج وأوربا للعراق وسوريا. وأقيمت معسكرات لتدريب هؤلاء قبل دخولهم بشهادة عشرات الصحف التركية والغربية وحتى رؤساء دول غربية كالمستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي والأمريكي. وظل أردوغان يوحي للعالم بأن الإمبراطورية العثمانية قد بعثت من جديد على يديه. وقد حانت الفرصة الذهبية لإحيائها وإنه (المنقذ) لشعبي العراق وسوريا من نظامامهما (الطائفيين.) لزعزعة إستقرار أهم بلدين في المنطقة العربية ونهب ثرواتهما النفطية والتراثية.وتم تفكيك آلاف المصانع من قبل عصابات التكفير التي صدرها بواسطة غرفة مخابراته ونقلها إلى تركيا دون أية مراعاة لحسن الجوار ومنطق الإسلام الذي يرفض الإعتداء على الآخرين.  

إن كل مراقب سياسي منصف راقب وسمع التصريحات العدوانية الكثيرة التي تفوه بها أردوغان يرى بكل وضوح إنه حل محل شاه إيران الذي كان يوصف بأنه شرطي الخليج بتأييد من ملوك وشيوخ عملاء الناتو والصهيونية ضد بلدين عربيين يمثلان قلب الأمة العربية. وإن لعابه مازال يسيل على الموصل وحلب لضمهما إلى إمبراطوريته العثمانية وإنه على سيرة سلفه العثماني جلال نوري بك حين قال في أحد كتبه :

(إن البلاد العربية بأسرها ولا سيما العراق واليمن يجب أن تكون تركية في اللغة والجنس ، وأن تكون لغة الدين عندهم تركية أيضًا ، والإسراع في تتريك البلاد العربية من أهم الأمور لحفظ وجودنا ؛ لأن روحًا جديدة بدأت تدبّ في نفوس العرب ورجال نهضتهم وأخذت تهدد وجودنا السياسي بضربة تقضي علينا قضاء مبرمًا ، فالضرورة والحالة هذه- توجب علينا أن نكون على تمام الأُهبة والاستعداد لاتقاء هذا الخطر .) .

وكتب أحمد شريف بك أيضا في جريدة حنين ما يأتي :

( يتحدث العرب كثيرًا في هذه الأيام عن أنفسهم وقوميتهم ، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً تامًّا كأن بلادهم ليست خاضعة للأتراك ، فالواجب يقضي على حكومة الباب العالي أن تهتم اهتمامًا فعليًّا في جعلهم ينسون هذه النغمة وتضطرهم لتعلم اللغة التركية الرسمية . فإذا أهمل الباب العالي ذلك كان كمن يحفر قبره بيديه.) وأخيرا إستفاقت شرائح كبيرة من الشعب التركي وشعرت إن هذا الرئيس المتغطرس لم يترك صديقا للشعب التركي. وإنه أضر بالمصالح التركية نتيجة لتدخلاته السافرة في شؤون الدول الأخرى وأخذت سياساته تلحق الضرر بالحالة الإجتماعية والإقتصادية في تركيا. لكن أردوغان ركب رأسه وأخذته العزة بالإثم وآستمر في عنجهيته وغطرسته إلى الساعة الأخيرة من الإنتخابات التشريعية التي حدثت وكان يأمل بأن يحصل حزبه على الأغلبية المطلقة في الإنتخابات الأخيرة ليقوم بتغيير الدستور وتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي لكي يستمر في سياساته ، ويشدد من قبضته على تركيا ويوغل في تدخلاته السافرة بدول الجوار. لكن قوى المعارضة التي ضاقت ذرعا بسياساته الداخلية والخارجية قلبت عليه الطاولة ووجهت له ولحزبه ضربة قاسية في الإنتخابات التشريعية الأخيرة بعد أن تصدر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ ثلاثة عشر عاما نتائج الانتخابات التشريعية بحصوله على 40,8% من الاصوات لكنه خسر الغالبية المطلقة في البرلمان لانه لم يحصل سوى على 258 مقعدا من اصل 550. وحل حزب الشعب الجمهوري على 25% من الاصوات و135 مقعدا فيما نال حزب العمل القومي 16,3% واصبح يشغل 80 مقعدا ونال حزب الشعب الديموقراطي الكردي على 13,1% مع 80 مقعدا وبهذه النتائج قالت له هذه الأحزاب قف عند حدك ياأردوغان فأنت اليوم ليس بقهرمان تركيا وإن نجمتك الذهبية قد انطفأت. وأصيب الرجل المغرور بصدمة قوية لم يكن يتوقعها وإن لم يصرح بها حال ظهور تلك النتائج التي قضت على طموحاته بتعديل الدستور لإقامة نظام رئاسي قوي في تركيا وكان يلزمه من اجل تمرير هذه الاصلاحات الفوز بـ330 مقعدا لكي يمكن لحزبه اعتماده بمفرده. فأخذ يخفف من لهجته وقال عشية ظهور نتائج الإنتخابات:

(من المهم جدا ان تتصرف الاحزاب السياسية كافة بالحساسية الضرورية، وتتحلى بالمسؤولية لحماية مناخ الاستقرار والثقة الى جانب مكتسباتنا الديموقراطية .

ودعا الى تشكيل حكومة ائتلافية قائلا ان النتائج الحالية لا تعطي الفرصة لاي حزب لتشكيل حكومة بمفرده.) ومعنى هذا إن تغييرا ما قد حدث. لكن أردوغان بحاجة إلى صدمة أخرى تعيده إلى رشده وربما سيحدث ذلك في الإنتخابات المبكرة التي يرغب أردوغان بإجرائها والتي يعول عليها عسى أن يستعيد بها مجده السابق. والأشهر القادمة سيكون لها القول الفصل في الحد من غطرسة وعنجهية هذا الرئيس.

 

جعفرالمهاجر

في المثقف اليوم