آراء

ذكرى إستقلال الجزائر بين النوستالجيا والأنثلجنسيا

badya shikatلقد تحدث الفيلسوف الألماني "والتر نيامين" عن حيوية التفكير في التصوير الفوتوغرافي فقال أنها:

"تقنية اللاشعور البصري" الذي يحول العوالم الغامضة في اللاشعور إلى مشاهد، بالإضافة إلى محاولة الإمساك بالزمن الماضي، واسترجاع ذكريات الأشياء، والأماكن والأشخاص حيث ترتبط الذاكرة بالصورة أو تنبثق عنها"

ولعل هذا بالضبط ماتُحدثه اليوم ذكرى الإستقلال في لاشعورالشعب الجزائري، حيث تجعل الذكريات التاريخ يتوقف لنراه، فنعيش لحظات الغياب بعين اليقين، وكأنها لحظات حضور مبين، فنستشعر من خلالها ماتكبده هذا الشعب من صنوف العذاب، ونثور ضد العبودية رغم ما ننعم فيه من حرية، فتلتهب فينا مشاعر الحماس الممزوجة بتوجسٍ وخيفة، من أن يُقهَر هذا الوطن أويُداس .

غير أننا لانود أن تتحول هاته النوستالجيا من نعمة إلى نقمة، فيبقى شبابنا يعيش على أطلال الأجداد، وكأن المجد فيهم قد بُعث وعاد، بل على الشباب أن يجعل هاته العواطف الوطنية وقودا لأجل البناء، وسلّما لبلوغ سامقات العلياء، فلا يتحول الإفتخار إلى شعور مغرور بالرضا والإكتفاء، يقول الباحث طارق زيادة:"إنّ المفهوم النهضوي للحرية إنحصر في فكرة الإستقلال السياسي، ولم يتعداه إلى أعمال النقد والتشريع والتفكيك في عرى بنيتنا، فضحل مفهوم الحرية وبات قاصرا، بل وأعدنا إنتاج فكرنا ذاته تراثيا أو غربيا ونحن في غيبوبة من شدة الرضا عن النفس "

فليس الإستقلال السياسي هو فقط ماتوارثته الدول العربية برمتها عن الدولة العثمانية، من مفاهيم تجلت في إعتبار معيار التقدم الأكبرهو إمتلاك قوة عسكرية ضاربة، تستطيع تحقيق طموحات الإمبراطورية العثمانية، واهتمام منصَبّ على تقوية الجيش، في حين تم إحداث القطيعة التامة مع العالم ثقافيا، فلم تر الرقي الحضاري سوى بمنظار عسكري، وهو الفكر ذاته الذي تشربته الدول العربية الحاصلة على الإستقلال حديثا، إذ تصورت أنها بحاجة إلى حماية الإستقلال وصيانته، واعتبرت المؤسسة العسكرية مدرسة لتخريج السياسيين الذين يتقلدون أرقى المناصب في الدولة، فكان الجيش هو حامي الشرعية، وذاك مايتجلى بوضوح في كل الأنظمة العربية، وكذا يبدو فيما قاله جمال عبد الناصر في تصريح له بإحدى الصحف الغربية حين قال :"إنّ جيشي هو برلماني " بمعنى أنه حامي الشرعية في مصر، ومن هنا كان الصرف المالي على الجيوش العربية بسخاء، ليس بهدف الدفاع عن الوطن ضد العدو الخارجي، بل غايته هي الدفاع عن النظم الحاكمة ضد العدو الداخلي، وهو المعارضة ".

بيد أنّ الحري بالنظم الحاكمة الإستعانة بماتمتلكه من فيض في الأنثلنجنسيا، يقول الباحث اللبناني "نادر فرحاني ":"إنّ عدم إستعانة السلطة السياسية بالمفكرين العرب كان في شتى المجالات، بل لقد كان المفكرون منذ بدأ مشروع النهضة العربية في القرن التاسع عشر من أعداء السلطة، وكانوا يُطارَدون، يُنفون، يسجنون ويعذبون ويُقتلون كذلك "

فما أحوجنا اليوم إلى مفكرين أمثال المفكرالجزائري الراحل "مصطفى أشرف" الذي عاش مرحلة الإستعمار، وكذا مرحلة مابعد الإستعماربوعي متكامل ناضج، إعتبِرلأجله فيلسوفا تاريخيا، حيث قام بالنقد والتنوير من جهة، وبإلقاء الحجب عن الإيديولوجيا الكولونيالية من جهة أخرى، فكان هو المثقف العضوي ـ كما يسميه غرامشي ـ الذي فكر بنهضة الجزائر مابعد الإستعمار، وذلك لإدراكه التام أنّ النضال الثقافي لايتوقف عند سنة 1962، فالدولة المستقلة حديثا حتما ستواجه تحديات معقدة، وسيناريوهات متجددة قد تعود بها إلى نقطة الصفر، فهي تماما كمريضٍ يُخشى عليه الإنتكاس، ويحتاج إلى تقوية جهاز المناعة بالتفكير، الحكمة والتدبير، فإحتفاظ الدول حديثة الإستقلال بما تحقق من إنجازات بطولية، مرهون بما تمتلكه من رؤية نخبوية إستشرافية .

 

باديـــة شكاط من الجزائر

 

في المثقف اليوم