آراء

الأحزاب السياسيّـة المغربيّـة ومَشروع الدَّمقرَطة

alhusan bshodهناك عِلم جديد في العلوم السياسية يسمى ( La transitologie) له قواعدُه النظرية وأسُسه المفاهيمية، يُعنى بدراسة الانتقال الديمقراطي، ظهر عقب الحرب الأهلية الإسبانية  (تجربة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا)، ورغم أن هذا العِلم حديثٌ نوعا ما، إلا أن الانتقال الدمقراطي كحالةٍ و كأسلوب؛ قديمٌ جدا، وله تجلّياتٌ عدة، ففي فرنسا مثلا، ظهرتْ بوادرُ الانتقال الديمقراطي سنة 1787م ليبلغ مَتَمَّهُ مع الجمهورية الثالثة سنة 1900م. أما في انجلترا، فتم إقرارُ نظام الاقتراع العام سنة 1918م كتتويج لمسيرة طويلة من إصلاحات، انطلقتْ منذ سنة 1832م، شملتْ بالخصوص إصلاح القانون الانتخابي.

ليس الانتقالَ الديمقراطيَّ سوى أسلوبٍ لممارسة السياسة والوصول إلى السلطة، وعمليةٌ متسلسلةٌ ومعقدةٌ وصعبة، تهدف إلى التفاوضِ والتفاهمِ والتوافقِ على خطة لتغييرِ وضعٍ سياسيِّ قديم، يكون في الغالب نظاما مغلقا شموليا ومستبدا، إلى وضعٍ سياسيٍّ جديد، تشاركيٍّ أو شبهَ تشاركيٍّ، يهدف إلى تداول السُّلطة بهدف تحريك الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهذه العملية لا تتم بسلاسة، وإنما تحتاج إلى تضحيات كبيرة وصراعات بين مراكزِ النفوذ القديمِ، ولوبياتِ المصالح الخاصة المختلفة (الدولة العميقة).

معلوم أنه عندما تطول عمليةُ الانتقال الديمقراطي أكثر من اللازم، فإنها تفشل لا محالةَ، لأنها تُتيح الفرصة لمراكزِ النفوذ و(الفساد) القديمة، لإجهاض عملية الانتقال الديمقراطي، هذا الإجهاض يكونُ وقْعُهُ على المجتمعِ مُحبِطا، حيث يقل معه الحماس الجماهيري، والترقُّبُ الشعبي، وتدخلُ معه النخب السياسية التجديدية مسلسلا طويلا من التنازلات والتراجعات، تُفضي في النهاية إلى تحقيق انتقال منقوص بل ومَوْهُومٍ، ويظل القرار مَحصورا في مراكز القوى القديمة (الدولة العميقة).

ولأن المغرب دولة مغمورة في الديمقراطية، وتحتل مرتبة متأخرة في التصنيف العالمي، وجب أن نستقرئ واقعها الديمقراطي (الحالة الراهنة)، ونحددَ المطلوب (أي انتقالٍ لأية ديمقراطية؟)، ثم نستنتج البدائل والطرق التي ستسعفنا في تحقيق انتقال ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ (آليات وإجراءات تحقيق هذا الانتقال).

معلوم أن أهم عنصر في هذا الانتقال هم الأحزاب السياسية، وهذه الأحزاب كما أنها ركيزة أساسية في الانتقال الديمقراطي، إلا أنها يُمكن أن تكونَ أكبرَ عائقٍ له، فكثيرٌ من الأحزاب السياسية في المغرب مثلا، تتحمَّل مسؤوليةَ إعاقة الانتقال الديمقراطي، فعندما نقول حزب سياسي، فحتما يجبُ أن يكونَ هذا الحزب ديمقراطيا (نقصد بالديمقراطية هنا الممارسة، وقوانين والآليات المنظمة لعمل الحزب)، لأن مبدأ التشاركية المفضي إلى تداول السلطة لا يستوجب من الأحزاب أن لا تكون ديمقراطية وحسْب، بل ماهرة في الديمقراطية ومُعلِّمَةً لها؛ وشعارا لها كذلك، وعندما تكون الأحزاب غير ذلك، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نتحدث عن الانتقال الديمقراطي.

يفضح لنا الواقع الراهن حقيقةَ هذه الأحزاب السياسية (المغربية)، التي ظلتْ تنادي بالتحديث والإصلاح منذ الاستقلال إلى اليوم، وظلتْ تُندِّدُ بالبيروقراطية والديماغوجية والاستئثار بالرأي والصوت والسلطة، لنكتشفَ أن هذه الأحزاب تَقُومُ أصلاً على هذه الممارسات الشُّمُولية، وتنتَهجُ نفسَ أنماط التسيير التي يتعاطاها النظام الشمولي المستبد والمغلق، لا لشيء؛ سوى لتحافظ على الوضع الاجتماعي القائم، وتتصارعَ على مراكزِ النفوذِ، وتستأسدَ وتستميتَ في الحفاظِ على مصالحِها الخاصة، دون أن يكون لهذه الأحزاب السياسية رؤيةً ومشروعاً ديمقراطيا ونهضوياً حقيقيًّا، يتعالى عن المصالح الشخصية المحدودة ويترَفَّع عن الحسابات الضيقة، ويجعلَ المواطنَ في صُلِبِ مشروعِهِ التنموي الاجتماعي والاقتصادي.

وهنا نَخْلُصُ إلى المثل المشهور القائل (فاقد الشيء لا يعطيه) إذْ كيفَ لأحزابٍ نَفعيَّةٍ غيرِ ديمقراطيةٍ لا تستطيعُ أن تلتزمَ حتى بقوانينها الداخلية أن تتبنى مشروعا ديمقراطيا إصلاحيًّا طموحًا وحقيقيا ؟!

لا يمكن تصور تحديث البنية الحزبية ودمقرطتها، إذا لم  تنجح الأحزاب في تبني برنامجٍ للتأهيل السياسي، ورفضِ مفهومِ المواطنة الامتيازية للقادة، وتقرير حالات التنافي بعدَم الجمْعِ بين الـمَهام وتجذِيرِ المراقبة وتطوير أليات التخليق .

إن ما تحتاجه الأحزاب السياسية حقا وفعلا، هو نَفسُه ما تدعوا إليه هذه الأحزاب في حملاتها الانتخابية، وترفَعُهُ شعاراتٍ برَّاقة لإغواء وإغراءِ السُّذج من الناخبين، فمعظم الأحزاب السياسية في المغرب قياداتُها هَرِمَتْ وشاختْ، ومازالت متشبعة بموروثٍ ثقافيٍّ تقليديٍّ مغلق وعتيـــق، يتناسبُ مع فترة ما بعد الاستقلال فقط، ولا يتناسب أبدا مع الوضع الراهن المتطور والـمُرَقْمَنِ والـمُعَوْلَم، وإذا كانت الأحزاب السياسية إلى اليوم غيرَ قادرةٍ على ممارسةٍ الديمقراطية في نطاقها الضيق أي (داخل الحزب)، فلن تستطيعَ أن تَبِيعَ هذا الشعار للشعب، وبالتالي فلن يجنيَ المغرب في المحصلة سوى مزيدٍ من العزوفِ عن التسجيل فيما يسمى باللوائح الانتخابات، ناهيك عن فِعلِ التصويت، مما سيفضي إلى اليأس من العملية الانتخابية بِرمتها، وبالتالي توسيع الهوة بين المجتمع والنخب السياسية.

عندما نعاينُ واقع الأحزاب المهيمنة في الدوائر والبلديات والجماعات، نلاحظ وبجلاء ما يمكن أن نسميَّهُ "الولاء والنصرة"، فالأحزاب لا تعتمد مشروعاً تنمويا مكتوبا ومتوافقا عليه، يمكن لأي عضو من أعضاء الحزب الفائز أن يسير عليه، ولكنها تعتمد الأشخاص (شخص واحد فقط / يمكن أن نلقبه بالزعيـــم) في غياب كاملٍ للعملية الديمقراطية الـمُفضيّة لتداول السلطة داخل الحزب نفسه، هذا الشخص؛ يكون بمثابةِ البؤرة التي يدور حولَها فلك الحزب ككل، دون أي معيار موضوعي، وفي غيابٍ فاضحٍ لمبدئ تداول السلطة، وتبني مشروع الإصلاح المتفق عليه، ورفعٍ للقيادات التي تحتكر المنافع المادية والمعنوية داخل الحزب، "فأصبحت الأحزاب السياسية المغربية مجردَ نوادٍ سياسية مغلقة، كما ظلتْ عُقدةُ الزَّعيم غيرَ قابلةٍ للحل، إلا باعتزالِه أو انشقاقِه من الحزب الأم" ، وهذه الحالة هي التجلي الأوضح في الانفصام الذي تعيشه هذه الأحزاب التي ترفع شعار الديمقراطية، وهي نفسُها لا تستطيع أن تتقبلَّها كمبدئ وكمشروع للحياة السياسية الحقيقية. فيتحول الحزب بذلك من حالة إصلاحية تجديدية تطويرية، إلى عبءٍ آخر ثقيلٍ  يُفاوِض باسم الإصلاح لكسبِ الرِّهان، وتنمية مصالحه المحدودة ومنافعه الضيقة، عن طريق تقديم تنازلاتٍ كبيرة والانغماس إلى الـرُّكب في المناورات السياسية، والاستقواء بالدولة على الخصوم وإذلال المواطن، وانتهاك المسؤولية الأخلاقية لتدبير الشأن السياسي، وإقصاء الطاقات الشابة الواعدة والطموحة، الراغبة في الإصلاح حقيقةً لا شعارًا.

لقد أدى هذا الانغلاق السياسي إلى يأس الشعب المغربي من هذا النفاق السياسي، المبني على الوعود الزائفة والرشاوى وتعزيز المركزية والارتباط الوثيق بالمرجعية التاريخ، بدل الاهتمام بالقضايا الراهنة الحقيقية والملحة لدى المواطن المغربي البسيط.

 

الحسيــــن بشــــوظ / كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم