قضايا وآراء

جزيرة العرب

يكاد يشبه كثيرا ما يقع اليوم بين الحضارات والجماعات والأديان.

 وقد كان الجنوب العربي مهدا لحضارات عظيمة أقامها السبأيون و المعينيون والقتبانيون قبل ولادة السيد المسيح بأكثر من ألف عام1 حيث قامت دولة (عاد) وعاصمتها (ارم) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ودولة (المعينيين) أيضا . أما في الشمال الغربي فقد قامت دولة (ثمود) التي قال عنها القرآن الكريم (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد). وفي الحجاز قامت دولة (الجرهميين) كما قامت دولتي (طسم) و(جديس) في اليمامة2

هذا وقد وثق القرآن الكريم بعض جوانب وأخبار هذه الحضارات وشعوبها كما في إشاراته إلى سد مأرب، وبلقيس ملكة سبأ مع نبي الله سليمان(ع) الذي حكم قبل ميلاد السيد المسيح (960-935 ق.م)3 وعليه أجد أن (جيوم) كان موفقا في استنتاجه الذي يقول فيه :(ومن الصعب أنْ نفترض أنَ شعبا قد رست أصوله في شمال الجزيرة العربية وجنوبها..والذي كان منظما تنظيما قبليا وسياسيا، وله قوة حربية ملحوظة..لم يكن له تاريخ تليد.. ومن المفروض أن نتوقع العثور على ذكر له في الوثائق التاريخية القديمة، ولكننا لم نجد إشارة إليه بهذا الاسم)4   إن عدم وجود إشارة واضحة لحقيقة هذه الحضارة المفقودة دفع الكثير من الكتاب والمؤرخين إلى إنكار وجود التحضر من الأساس، والادعاء بأن بداية تحضر العرب كانت متزامنة مع قدوم الإسلام، ومن هؤلاء جرجي زيدان في كتابه تاريخ التمدن و(رينان) الذي ادعى انه لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب امة فاتحة مبدعة .يقصد الإسلام . وكان المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون أحد الذين اعترضوا على هذه الإستنتاجات القاصرة واتهم هذه الآراء بالفساد فقال بعد مقدمة اعتراضية طويلة: ومما نبصر من خلاله ازدهار حضارة العرب الغابرة التي نسيها الناس في الوقت الحاضر5

وهنالك من المفكرين المبرزين من نجح في تحديد تواريخ تقريبية للحقب الحضارية العربية، ولو أني أظنه قد بالغ كثيرا لغايات إرضائية سياسية تتواءم مع طموحات حكام عصرهم، مثل الدكتور اليهودي الذي أشهر إسلامه احمد نسيم سوسة الذي يرى أن حضارة العرب مرت بثلاث مراحل خلال تطورها التاريخي تبدأ الأولى منها في حوالي 40000 سنة ق.م6  وهو رأي بعيد جدا عن الواقع، ويتعارض مع بعض الأخبار التي تحدد عمر الإنسان الحالي بما لا يزيد على عشرة آلاف عام،  بل إن المؤرخ أحمد سوسة يذهب لأبعد من ذلك فيدعي: إن العرب في مرحلة تطورهم الثانية نجحوا باختراع الحروف الهجائية (الأبجدية) فقال: ومن المتفق عليه أن الكنعانيين الذين هاجروا من جزيرة العرب واستقروا في فلسطين كانوا أول من استعمل الحروف الأبجدية في الكتابة بحدود عام 1850 ق.م7

 أما حوالي جزيرة العرب وقريبا منها فكانت هنالك حضارتان عظيمتان وعريقتان بلغتا شأنا عظيما من التقدم والرقي وهما الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية حيث كانت اذرعهما تمتد إلى عمق الأرض العربية وتبسط سطوتها وقوتها بالقسر والإكراه فكان مقر الفرس في المدائن وقاعدتهم تمتد حتى الحيرة قرب الكوفة، أما الروم فكان مقرهم في دمشق الشام.

كما كانت الديانتان اليهودية والمسيحية تشغلان حيزا مهما من حواضر الجزيرة ولهما حواضر خاصة بهما في يثرب والطائف وغيرها.فنتج عن هذا الوجود والتماس تلاقح فكري بينهما وبين مجتمع الجزيرة العربية أدى إلى اعتناق مجموعات من العرب لهاتين الديانتين.

أما باقي سكان الجزيرة الذين كانوا يعبدون الأصنام فأنهم بحكم معارفهم لم تكن قدرة الله خافية عنهم وهو ما أشار إلية الفريد جيوم بقوله : ولا شك مطلقا في انه {أي الله سبحانه} كان معروفا للعرب الوثنيين في مكة على أنه أعظم ما في الوجود8

فإذا كان هذا صحيحا، لماذا إذا يسمى ذلك العصر بالعصر الجاهلي؟ وهل أن التسمية جاءت من الجهل ضد العلم، أم ماذا ؟

وأقول جوابا، أن المقصود بهذه التسمية هو الزمن الذي سبق الدعوة الإسلامية، وأن القرآن الكريم هو من أطلق عليهم هذا الاسم. وان هذا الزمن يقسم إلى قسمين،

 الأول: هو عصر الجاهلية الأولى وهو زمن تطاول وضاعت أخباره وبادت اغلب القبائل التي شهدته والتي تسمى تاريخيا بالعرب البائدة.

 أما القسم الثاني: فهو نحو مائة وخمسين عاما قبل الدعوة الإسلامية حسب رأي الدكتور عمر فروخ9

أما مصدر التسمية فعلى أصح الأقوال أنه مشتق من الجهل الذي هو ضد الحلم وليس من الجهل الذي هو ضد العلم بدلالة عشرات الآيات القرآنية مثل: قوله سبحانه وتعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)10 وقوله سبحانه (قل أفغير الله تأمروني اعبد أيها الجاهلون)11 وقوله سبحانه (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين)12 وقوله سبحانه (خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين)13

 وقوله سبحانه (إني أعظك أن تكون من الجاهلين)14 .

 والملاحظ على هذه الآيات أنها جميعها مكية النزول، وإنها تقصد بتسمية (الجاهلين) أن توضيح حقيقة الذين البشر الذين كانوا يعبدون غير الله سبحانه (الأصنام) ولا يعرفون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا علاقة للتسمية بالأميين والمتعلمين.

ومصطلح (الجاهلية) المتداول حتى الآن تأسس على هذا الأصل، قاصدا نفس المعنى، وقد ورد في آيات السور المدنية على وجه التخصيص ولم يرد في آيات السور المكية، ومنه:قوله تعالى (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية)15 وقوله سبحانه (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)16 وقوله تعالى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ))17 وقوله تعالى ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى)18

 أي أن الله سبحانه وتعالى أطلق على أهل مكة عبدة الأصنام مصطلح (الجاهليون) وأطلق عليهم وعلى العصر الذي عاشوا فيه مصطلح (الجاهلية) بعد أن ابتدأ العصر الجديد، عصر الإسلام وأصبح ذلك العصر الجاهلي في ذمة التاريخ.

 

................

هوامش

1- ينظر الإسلام، الفريد جيوم، ترجمة محمد مصطفى ود. شوقي اليماني، ص 4-5

2- ينظر المجتمع العربي والإسلامي، د. عبد الحميد بخيت، ص 64- 65

3- ينظر اليهود وعلم الجناس، د. الفيل ص 83

4- الإسلام، الفريد جيوم، ص 1-2

5-  حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص 97

6- حضارة العرب، أحمد سوسة، ص15

7- ينظر حضارة العرب، احمد سوسة، ص 32

8- المصدر نفسه، ص 8

9- العرب ولإسلام، عمر فروخ، ص 16

10- القرآن الكريم، سورة الفرقان/63

11- القرآن الكريم، سورة الزمر/64

12- القرآن الكريم، سورة الأنعام/35

13- القرآن الكريم، سورة الأعراف/199

14- القرآن الكريم، سورة هود/46

15- القرآن الكريم، سورة آل عمران/154

16- القرآن الكريم، سورة المائدة/50

17- القرآن الكريم، سورة الأحزاب/33

18- القرآن الكريمن سورة الفتح/26

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1297 الاثنين 25/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم