قضايا وآراء

ظاهرة البغاء بين الدينية والعلمانية (1)

صحيفة المثقف الالكترونية في موقعها يوم 10/ 12 / 2009 يقول فيها: (فأنا وبرحمة الله وفضله إنسان مؤمن ومتدين، لكن ذلك لا اعتقده يتعارض مع وجوب التضامن مع بعضنا البعض من اجل إغاثة إنساننا التائه في رعب الموت الذي يترصده ربما في كل لحظة. إنساننا ألغارق في أحزانه وفقره ومرضه والتشوه الحاصل لهويته ووجوده بما يعتقده العالم عنا ظلما.)

أنا بدوري رغم أن ما سأقوله في هذا البحث لا يلتقي مع نهج المؤسسة العلماني إلا أني أقول حسنا فعلت مؤسسة الحوار المتمدن العلمانية في إثارتها موضوعا بهذا القدر الكبير من الأهمية بغض النظر عن صيغة طرحها للدعوة أو مقاصدها ولاسيما أن هناك ـ وأنا منهم ـ من يرى أن الدعوة لم تأت لتجنيب الشباب والشابات مخاطر الوقوع في هذا المنزلق الخطير بقدر ما تبدو وكأنها دعوة لتحريم المتاجرة بالجنس من جانب مجتمعي كونها مهنة حقيرة ولكونها تخضع للقوانين التجارية والعرض والطلب وما في ذلك من استغلال واستلاب، وليس لأنها مخالفة دينية عقيدية باعتبار أنها تخالف النواهي التشريعية للأديان، أو كونها مخالفة أخلاقية لأنها تخالف منظومات الأخلاق العامة للمجتمعات. إذ يبدو أن ممارسة الجنس غير التجاري في رأي القائمين على المؤسسة أمر طبيعي مشروع استنادا إلى مباديء الحرية الشخصية إذا ما مورس طبعا بالتراضي القائم على نوع من المعرفة المسبقة بين الجنسين أو الطرفين حتى ولو كانا متماثلين ومن جنس واحد.

قد ترى المؤسسة نفسها محقة باتخاذ هذا الموقف من مسألة فيها الكثير من التفرعات لأنها مؤسسة يسارية علمانية تطرح ما يتوافق مع رؤاها العقائدية التي تتناغم عادة مع التوجه العالمي، لكن هذا لا يمنع أن يساير الفكر العلماني سنن المجتمع الذي يعيش فيه إذا ما كانت هذه السنن قد أثبتت صلاحيتها من قبل، كما أن من الواجب عليه وهو يطمح لتأسيس هويته أن يحترم عقائد الآخرين ورؤاهم إذا ما أراد منهم احترام عقيدته. وهو ما أشار له صموئيل هنتنغتن في كتابه "من نحن" بالقول : (يستطيع الناس أن يطمحوا إلى هوية ما، ولكن لا يمكنهم تحقيقها إلا إذا رحب بهم هؤلاء الذين يملكونها بالأصل.) وعليه يبدو طرح المؤسسة للموضوع من جانب واحد مشتملا على قدر كبير من المثالية البعيدة عن الواقع، فلو قمنا على سبيل المثال بسؤال أي علماني فيما إذا كان يرضى لأخته أو لابنته أو لأمه أو قريبته أن ترتمي في أحضان رجل غريب سواء كان صديقا لها أو عابر سبيل أو بسبب علاقة صداقة أو زمالة عمل لتشبع رغبتها الجنسية منه بدون مقابل مالي، أي بعيدا عما يوصف بالتجارة الجنسية؟ أم أنه سيثور ويعربد ويهدد ويتوعد وربما يرتكب جريمة تندرج في سجل جرائم غسل العار المخزية التي نسمع عنها اليوم بكثرة، إذا ما رآها على هذه الحال؟ الغاية من سؤالي ليست للتقليل من أهمية حملة الفكر العلماني أو للتشهير بهم فأنا أحترم الرأي الآخر، وأحترم شجاعة هذه المؤسسة بالذات، وإنما لأبين أن الإنسان الذي يعيش في مجتمع ما يتأثر حتما بالسلوكيات المعمول بها في ذلك المجتمع حتى لو تعارضت مع معتقده الفكري أو السياسي في بعض جوانبها! وهذا يعني أننا نقف أمام ازدواجية قد تكون مصطنعة بقصدية وتعمد.

إن كل عمل جنسي يمارس خارج المؤسسة الزوجية سواء سمي تجارة الجنس أو تجارة الرقيق الأبيض أو الدعارة أو الزنى أو العلاقة الحميمة أو ممارسة الحب أو الانحراف الجنسي أو الهوى أو أي تسمية أخرى تطلق على هذه العملية إنما المقصود بها: البغاء، ولذا علينا أن نعرف رأي اللغة العربية بهذه الكلمة لكي ننطلق من خلاله إلى رحاب تعامل المجتمعات معها ومع ممارستها. وليس شرطا أن نتكلم عن بلد عربي أو مسلم بالتحديد بل كل المجتمعات العربية والإسلامية تقع ضمن سلطة حديثنا كمحصلة، فمع أن الخصوصيات المجتمعية متميزة لكل مجتمع ومختصة به إلا أن المجتمع العربي من شماله إلى جنوبه يبدو للعيان وحدة واحدة في أنماط السلوك والتصرف والاعتقاد من حيث الكلية وليس الجزئية طبعا. ولذا تجد النموذج الموضوع تحت البحث والمراقبة من مجتمع في الشمال الأفريقي العربي مشابها أو قريب شبه بالنموذج المأخوذ من شبه جزيرة العرب في كثير من جوانبه. بل أنك لو أخذت أنموذجا من دول الجوار الإسلامي غير العربية مثل تركيا وإيران ستجد المشتركات بينهم وبين المجتمعات العربية واضحة جلية. كما أن النماذج العالمية تتقارب أوجهها مع هذه النماذج بشكل أو بآخر.

 

البغاء خدمة للبيع

جاء في مختار الصحاح (ص 58ـ59) في معنى البغاء : ب غ ى :البغي: التعدي، وبغى عليه استطال، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء. وبغى ضالته يبغيها أي طلبها. وتباغوا أي بغى بعضهم على بعض.

ولما كانت اللغة مقياسا أو ميزانا معياريا لواقع مجتمعها الإنساني الذي يتحدث بها فمعنى ذلك أننا نقف أمام مصطلح استنبطه الإنسان العربي الأول ليدلل من خلاله على العدوانية والتعدي على الحقوق الذي يترتب على عملية ممارسة البغاء، والخروج على القيم والمخالفة بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ولذا تجد انه مصطلح صيغ من جنس معناه ليدل على فعل غير سوي. ولكي أبعد تصور العلمانيين عن محاولة ربط هذا الاستنتاج بالمسألة الإسلامية أقول: أن المصطلح بمعناه المتداول الآن كان شائعا قبل الإسلام أي أنه ليس من مخترعات الفكر الإسلامي. وكأن المجتمع الجاهلي مع ما كان عليه من تحلل ومن سيء العادات، بما فيها إجبار نسائهم على البغاء أو إجبار زوجاتهم على قضاء ليلة حمراء مع وجيه من وجهاء المجتمع ليحمل الابن نتاج هذه العلاقة صفاته الوراثية، لم يكن ليستريح لفعل العاهرات فأطلق عليهن اسم البغايا أو الباغيات ومفردها: بغي. أي التي تتعدى حدود السنن. وفي هذا الاسم رمزية يغفلها عادة من يتناول موضوع البغاء من أحد جوانبه فقط دون البحث فيه كوحدة متكاملة، وتأتي رمزيتها من كونها تعد البغاء خروجا على النواميس والسنن والأخلاق سواء كان مقابل ثمن (تجارة) أو كان لإشباع رغبة (الجنس الحر)، أو خضوعا لأعراف بالية، أو بحكم صداقة بين جنسين أو بين طرفين من جنس واحد.!

تاريخيا ورد ذكر البغاء في تاريخ العراق القديم، وورد في مسلة حمو رابي وفي قصة الطوفان كذلك، بل أن قصة كلكامش "قلقميش" أعطت للبغاء معناه الخلقي وأشارت لتأثيراته الجانبية الحقيقية يوم نسبت إليه سلب براءة وعذرية وقوة وشجاعة البطل (أوتونابشتم) الذي خسر قوته الهائلة بعد أن عاشر البغي التي خدعته وأوقعته في حبائلها. وكأن قصة الطوفان أو الغضب الإلهي أرادت أن تنسب التخريب النفسي والجسدي للبغاء تحديدا.وأرادت التأكيد أن البغاء طالما أستخدم من قبل الأشرار لتلويث فطرة الناس وترويضهم وأستغلالهم!

 الكتب المقدسة من جانبها لم تخل من إشارات وقصص وحكايات عن البغاء، حيث لم تخل كتب الديانات الرئيسية (اليهودية / المسيحية / الإسلامية) من إشارات للبغاء صريحة مرة، وبالتلميح أخرى.فالتوراة اتهمت أحد أنبياء اليهود السابقين لموسى أنه بغى ببناته، وتحدثت عن أحد أنبيائهم الذي أمر جيشه الغازي بممارسة الجنس مع نساء العدو، وفي مطاوي التوراة المتداولة حاليا عشرات القصص الجنسية وبالأخص منها قصص البغاء. الإنجيل من جانبه فيه إشارات صريحة للبغاء منها ما نقله القرآن عن قولهم لمريم أم النبي عيسى يوم جاءتهم تحمله (ما كان أبوك إمرء سوء وما كانت أمك بغيا) وفي القرآن صور مختلفة للبغاء سواء من حيث فعله أو إجبار النساء على ارتكابه أو التشهير به وبمرتكبه، وتوعد مرتكبيه بالعذاب والخسران.

على مستوى التفكير الجمعي ارتبط جزء من البغاء تاريخيا بمفهوم المقايضة التجارية أو البيع (بيع خدمة مقابل ثمن) وأصبح المفهوم مرادفا لمعنى بيع الخدمة وشرائها وما يترتب على ذلك من استغلال إنساني، حيث ارتبط فعل البغاء بالثمن،وليس طبعا الثمن الذي تقبضه بائعة الهوى فقط بل الثمن الذي يقبضه الوسيط أو القائم بتنسيق العملية أيضا. وقد قال نزار قباني في قصيدته التي ألقاها في مهرجان المربد الشعري عام 1985:

      (مواطنون دونما وطن

      مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن

      مسافرون دون أوراق..وموتى دونما كفن

      نحن بغايا العصر

      كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن)

ومنه نستدل أن البغاء فعل رافق الوجود الإنساني منذ عصره الأول كعمل غريزي أولا، ثم تحول بعضه أو غالبيته إلى الجانب التجاري بعد أن عرف الإنسان التجارة، ثم أن بعض المجتمعات تخلت عنه أو امتنعت من ممارسته تبعا للقوانين الرسالية والوضعية التي كانت تقودها، وبالمقابل تأصل في شعوب مخصوصة أخرى دون سواها، أو فشا فيها بشكل كبير وتقلص في غيرها، ومن الأماكن التي أنتشر وتوسع البغاء فيها دول العالم الغربي عموما، ليس لأنها دول مسيحية بالتأكيد وإنما بسبب الطباع والسلوكيات المجتمعية الموروثة البعيدة عن الدين، وأستمر على سعته وانتشاره لحد الآن كواحد من المواريث الأخلاقية. أما أن يدعي بعض الكتاب أنه ظاهرة حديثة الانتشار في الغرب لأسباب بعضها عقائدية والأخرى نظمية نتيجة تأثير الرأسمالية في سلوك المجتمعات، أو كما يقول الكاتب عبد الله مشختي (ففي المجتمعات الغربية أمست هذه الظاهرة عادية بعد عصر الثورة الصناعية وتقدم المدنية والمجتمعات الديمقراطية الغربية التي كفلت دساتيرها الحريات الفردية وخرجت من تحت طائلة الالتزام بالتعليمات الدينية الكنسية) فهذا نقيض الحقيقة التاريخية التي وردت الإشارة لها في كتاب أدب الرحلات لأديب صعيبي في حديثه عن رحلة ابن فضلان، الوزير الذي أرسله الخليفة العباسي بسفارة إلى مملكة البلغار وهي عبارة عن قول للسفير روى فيه مشاهدته ومفادها: وأشد ما جلب انتباهي وأدهشني أني وجدت نساءهم ورجالهم يسبحون عراة من كل شيء في البحر سوية لا يستتر أحدهم من الآخر. ومعنى هذا أن تجارة البغاء في الغرب لم تكن من نتاج الثورة الصناعية أو التقدم والديمقراطية والحريات الفردية أو بفعل الرأسمالية. نعم الشكل القبيح الذي أخذته كان بتأثير حراك جشع الرأسمالية الذي يحاول تسخير كل المتاحات لتحقيق المكاسب وهذا أمر لا يمكن إنكاره لكن من المؤكد أن البغاء لم يصبح سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب بسبب الأفكار الرأسمالية كما في قول محمد البدري في محاولة للتدليل على مساوئها: (ولان النظام الرأسمالي وحسب قانون تعظيم الربح يعجز عن الوفاء بتشغيل كل طاقة العمل في السوق (رغم أنها سلعة حسب المفهوم الرأسمالي) بكونها قابلة للتداول وللاستغلال إلا أن هناك فائضا لا يملكه احد من طاقات العمل المعطلة سوي الغير قادرين علي استغلاله. هنا ظهر مبدأ تسليع الجنس لدي الإناث كبديل عن بيع طاقتها العضلية او الفكرية او الذهنية في سوق العمل الطبيعي.) لأن تجارة الجنس كانت موجودة حتى في المجتمعات الصيدية والرعوية الأولى ومراحل تجارة المقايضة أي قبل أن يعرف الإنسان قيمة الرأسمال الحقيقية ومفاهيم التجارة. كما أن الكاتب ناقض نفسه عندما ادعى أن العرب والمسلمين الذين لم يكونوا يفهمون شيئا في قوانين رأس المال استنبطوا (الدعارة المجانية "الجواري والإماء" التي كانت حكرا على الملاك وأصحاب العمل) ومع غرابة وعدم واقعية هذا الرأي المتحيز إلا أنه لا يمكن أن يعني أن الرأسمالية بمفهومها المعاصر هي المسئولة عن تأسيس مشاريع الزواج الرسمي أو تجارة الجنس ثم يعود الكاتب ليناقض نفسه من جديد فيقول: (تجري قيمة المتعة الجنسية في السوق بيعا وشراءا عندما لا تجد المالكة للمتعة من سيد يحوزها لصالحه حصرا. هنا انتقلت معها مفهوم التسليع مهرا ونفقة ومتعة إلي الزواج ولم يجد الرجل غضاضة فهو المشتري وصاحب راس المال لاي سلعة يمكن تواجدها في السوق. فكلها تترجم باموال. فالزواج علي طريقة العرب والمسلمين هي أقرب لتسويات نظام بيع المتعة.) وفي خلط متعمد للمفاهيم وتشويه للحقيقة التي أدركتها حتى الحيوانات يوم وجدت في العائلة موئلا للاستقرار فتزاوجت وأنشأت عائلات وأخلصت بعضها للبعض الآخر طوال عمرها، قال السيد البدري في حديثه عن المرأة الزوجة: ( تتحول الي صاحبة راس مال جسدي يمكن استغلاله في سوق بيع المتعة والي تحولها لبيت دعارة متحرك طالما وجد القادرين علي الشراء حتي ولو كان المسمي زواجا علي سنة الله ورسوله. اليس كلا الفعلين يتما عبر صكوك مالية وعقود ممهورة وشهود لتبرير الشرعية؟!) [[ لم أجر التصليحات اللغوية للأخطاء الكثيرة الواردة في النص]]

 وهذا الرأي الذي يمثل وجهة نظر علمانية بحتة ـ حتى لو لم يكن ممثلا لرأي المؤسسة ـ يضعنا أمام معادلة منطقية تقول: أننا كأفراد ومجتمعات إما أن نكون نؤمن بواحدة من الديانات الثلاث وبقوانينها وبذلك نكون ملزمون بالرضوخ لسننها ومنها سنة الزواج التي يسميها الكاتب (بيت دعارة متنقل)، أو أننا لا نؤمن بأي منها وبذلك نسقطها من المعادلة ومن حساباتنا فيتحول موضوع الجنس برمته سواء مورس عن طريق الزواج الرسمي أو عن طريق العلاقات الأخرى بكل أشكالها إلى مجرد حراك إنساني لا علاقة له بالسماء وبالروحانيات، وإذا كنا من مناصري الخط الأول فمعناه أنه غير مسموح لنا الاجتهاد مقابل النصوص التشريعية التي تناولت الزواج الرسمي والبغاء سواء كانت هذه النصوص ( تتفق مع / أو تفترق عن) القانون البشري الذي نؤمن به، وكما معروف هي سنن يؤمن ويعمل ويلتزم بها مليارات البشر، وهذا العدد له ثقله في ميزان الإحصاء السكاني. وحتى لو كان المؤمنون بها قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة فإن قوانين الحريات الشخصية الوضعية لا تسمح للآخر بالتعرض لمعتقدهم بالنقد الجارح تبعا لمبدأ المعاملة بالمثل. أما إذا رفضنا الأخذ بهذه الفرضية الثابتة فمعناه أننا لا نؤمن بوجود الأديان أو لا نؤمن بصحة عقائدها وبالتالي نصبح على طرفي نقيض معها نحكم بقوانيننا ونحتكم إليها دون أن يكون للعقائد الدينية علينا من سلطان. وفي كلتا الحالتين نحن ملزمون باحترام رأيها واحترام معتنقيه ولا يحق لنا بموجب قوانيننا نفسها أن نتطاول أو نعترض أو نعيب أو نشكك بهذه القوانين وبالمؤمنين بها. وعلينا إذا ما أردنا التحدث عن أمر لها رأي خاص به أن نشير لرأيها باحترام ومسئولية علمية دون تطاول أو تشهير أو نقد جارح أو خروج على الآداب العامة للنقاش. أليس هذا ما تقوله قوانين العلمانية أم أن هناك انتقائية كيفية يتم التعامل بموجبها مع ما يؤمن به الآخرون؟ وقد يكون مبدأ الانتقائية هو من يقف وراء كاتب مشارك آخر هو حامد حمودي عباس الذي قال مستهزئا بالفكر الديني ومدعيا أن الشرائع السماوية هي السبب في نكبة المجتمعات الإنسانية: (إن من دواعي الشعور بالشفقة على أمتنا المنكوبة بشرائعها وأعرافها، وما تعيشه من إنتكاسة في هويتها، هو إصرارها عند أهم مفاصل تلك الانتكاسة على تجنب الخوض فيما تعتبره خروجا عن الذوق وتعرض مشين للسمعة العامه) لأن النص كما هو واضح يدل على جهل الكاتب بالأمور الدينية، فمن نظريات الدين المشهورة قولهم (لا حياء في الدين) أي لا يجوز أن يستحي المؤمن من طرح سؤال ما يخص أمرا جنسيا ويبقى نتيجة حيائه جاهلا للحكم الشرعي الخاص به، لأن جهله لا يعفيه من المسائلة يوم الحساب.ولا يقف الكاتب عند هذا الحد بل يتهم حملة الفكر الديني بأنهم (حملة الفكر المتخاذل) وهو عين ما ذهب إلية حسن عجمية في موضوعه المعنون (الحب في دخول المرأة نظام الاعتبارات الإنسانية) حيث قال: (عندما يتحرر الوعي من القيود الفكرية وأنماط الجمود والعزلة والابتعاد عن القواعد السلفية في طريقة تحديد الأدوار المرتبطة بالجنس البشري)

هنا يجب أن لا ننسى أن موضوع العلاقة الجنسية بشقيه المباح والممنوع (القانوني/ وغير القانوني) أكبر من أن يحد بقانون أو نظام أو سنة وأكبر من أن يؤخذ من أحد جوانبه وتترك جوانبه الأخرى وأكبر من أن يحكم عليه بآراء شخصية، لأنه وحدة مترابطة في بنيويتها لازمت الإنسان غريزيا وعقيديا منذ وجوده الأول. ومع ذلك لا ينكر أن العقائد الدينية نجحت في تقنين العلاقة الجنسية بشكل فيه الكثير من الدقة والمسئولية والضبط. ومن المجحف حقا أن ينكر دورها هذا. كذلك يجب أن لا ننسى أن كل المجتمعات الإنسانية تعاملت مع هذه الظاهرة بطرائق فيها الكثير من التقارب فباستثناء بعض المجتمعات التي أباحت البغاء ومنها اليوم بواقي في الهند والصين(حيث تبيح بعض الديانات البغاء)، ولذا يتزوج شباب العائلة كلهم من فتاة واحدة تصبح زوجة لهم جميعا أو يسمحون لبناتهم بممارسة الجنس بلا قيود، أو يجبرونهن على بيع أنفسهن، صاغت المجتمعات الأخرى قوانين لتقييد العلاقة الجنسية ضمن قنوات محددة وواضحة، وهو نفس ما ذهب إليه عبد الله مشختي في قوله: (هذه الظاهرة موجودة منذ وجود المجتمعات ولكن في كل زمن كان هناك ضوابط وأعراف وقيود دينية أو أعراف اجتماعية أو قوانين وضعية كانت تتحكم بالسماح أو الرفض لهذه الظاهرة وخاصة البغاء أي ممارسة الجنس بشكله الواسع في بيوت خاصة أو أمكنة مخصصة لهذا الغرض) وربما تكون الأعراف ذاتها هي التي دفعت العالم الغربي لتصنيع الجنس وتحويله من ممارسة تخضع إلى كثير من الاعتبارات النفسية والجسدية والأخلاقية إلى مجال تجاري يدر مليارات الدولارات توظف فيه الأجساد البشرية للذكور والإناث بشكل مهين لتحقيق مكاسب ضخمة للقائمين على هذا التصنيع. ويبقى الانفتاح والانفلات والتساهل في شأن الممارسات الجنسية تحت ذرائع الحريات وفصل الدين عن الدولة من أهم الأمور التي يسرت لمصنعي الجنس مهنتهم وهو ما أشار إليه ريتشارد بولان بقوله: (تستتبع العولمة الرأسمالية اليوم مستوى من «التحويل إلى سلعة» غير مسبوق في تاريخ البشرية. و منذ ثلاثين سنة، تمثل التغيير المأساوي للتجارة الجنسية في تصنيعها وابتذالها ونشرها على نطاق واسع على الصعيد العالمي)

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1306 الاربعاء 03/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم