قضايا وآراء

الروائي الامريكي ديفيد فوستر والاس ..

انهم يأتون مع كل عقد من الزمان أو أكثر واشعر انني قد فقدت صديقا ولذا انا احب ديفيد فوستر والاس لاسباب عديدة .

 

العالم الحقيقي لن يفرض علينا إفتراضات بقدر ما يفرضه من رجال ومال وسلطة ودندنات مرحة، وخوف وغضب واحباط وشغف وعبادة ذات، هذه القوى هي التي تحدث عنها والاس في كثير مما كتبه، أما ثقافتنا الحالية فهي تسخير لهذه القوى - كما يعتقد - واسفرت عن ثروة غير عادية شكلت مركزا للخليقة كلها بجانب الحرية التي لها انواع مختلفة لكن الاثمن فيها هي الحرية الشخصية عموما التي تنطوي على الاهتمام بالوعي والانضباط وقادرة حقا ان تكون اداة فاعلة في المجتمعات ولاتخلو هذه الحرية من تضحية وبدون هذه التضحية سوف لن تكون هناك حرية بل تكرار لوسائل لاتعد ولاتحصى محسوبة عليها .

 

هذا الفهم أو هذه الفلسفة كان والاس يبشر بها وكأنه راهب في احدى الكنائس، لكنه ومع كل ما يحمله من عبقرية ادبية وكاتب قد لايأتي مرة مع كل جيل وله كتب مدهشة فعلا أقدم على الانتحار ليشكل خسارة ثقافية قد لايجود بها الزمان، فقد وجدته زوجته ميتا في منزله في " كليرمونت " بولاية " كاليفورنيا " بعد ان شنق نفسه كان ذلك في العام 1996 ولم يتعدى عمره آنذاك ال 46 عاما .

 

ويتمان الذي قرأ كل ماكتبه والاس يقول عن اسلوبيته المتفردة :( انه مبهر حقا باستخدام اللغة، وقد توقفت مرات عديدة لقراءة صفحة واحدة أو اثنين ليس لانني لم افهمه في المرة الاولى لكنني أريد أن أعود لتذوق جمال كلماته لانها ليست مجرد كلمات، وليست مجرد عبارة شاردة، انها رؤية كاملة لكاميكاز ادبية عالية الاحساس ليس فيها هرج ولا ينافس تلك الرؤية الا رأفة قلبه وتصارعه مع القضايا الأعمق ) (1).

 

الا ان حادث انتحاره شكل مفاجأة للجميع نقادا وقراءا، الا زوجته التي كانت عائدة الى المنزل مساءا فوجدته متدليا وقد ربط على رقبته حبلا سميكا وكأنه كان قد أعد العدة كاملة لانتحاره فاتصلت بالشرطة وصمتت بعد تلك الحادثة دون ان تعطي تفاصيل اخرى لموته .

 

ومع ان ذلك الانتحار ضل غامضا على الجميع الا ان اوراقا قديمة كانت تتحدث عن ولادته في " والاس " عام 1962 بنيويورك سربها والده الاستاذ الجامعي الذي قال عنه انه كان يعاني ومنذ عشرين عاما من كآبة اشتدت عليه في الشهور الاخيرة ولم يعط هو ايضا ايضاحا آخرا عن دوافع تلك الكآبة، مع انه تخرج من جامعة أريزونا عام 1987 ووضعه المالي كان مستقرا فقد كان مدرسا في كلية بومانا بكاليفورنيا استاذا لمادة الكتابة الابداعية، كما كانت علاقته بزوجته " كارين " علاقة حميمة منذ زواجهما، انتحاره بالتالي شكل صدمة لانه كان ظريفا دائما، بارع في النكتة والكتابة الساخرة الهزلية، والكوميديا السوداء احيانا، فكيف يقدم على الانتحار من يتمتع بكل هذا الثقل الحياتي الجميل، انه لغز قد تكشف الايام سره .

 

حقق والاس قبل موته شهرة واسعة بعد صدور روايته " دعابة بلا حدود " عام 1996 والتي اعتبرتها مجلة " تايم " من ضمن افضل مائة رواية صدرت مابين 1923- 2006 لكنه كان محظوظا حين نالت روايته الاولى " مكنسة النظام " اهتماما واسعا واستقبلها النقاد بالثناء، وواصل كتابة القصة القصيرة على صفحات العديد من المجلات الثقافية المرموقة منها " باريس ريفيو " و "نيويوركر " ولم تتوقف مقالاته عند موضوع معين، فقد كتب في مختلف المواضيع من حملة " ماكين " الانتخابية للرئاسة عام 2000 الى بطولة الولايات المتحدة المفتوحة للتنس .(2)

 

يقول عنه الناقد " ديفيد أولن " المحرر الثقافي في التايمز اللندنية: (كان والاس من اكثر الكتاب تأثيرا في العشرين عاما الاخيرة، كان واحدا من كتاب بارزين بثوا الطموح والمتعة في القصة، ومن الكتاب التجريبيين في الرواية في اواخر الثمانينات والتسعينات، واستطاع ان يعيد مفهوم الرواية كلوحة يمكن للكاتب ان يفعل ما يشاء عليها) .

 

وبعد صدور روايته الثالثة والمهمة " دعابة بلا حدود " عام 1996 كتب فرانك بروني في نيويورك تايمز قائلا: (أهمية والاس في الأدب مثل أهمية روبن وليامز أو جيم كيري في الكوميديا انه مبدع ويتمتع بحيوية جنونية، يسلي نفسه منحدرا الى الاعماق أو صاعدا الى اعلى طبقات الجو ليدور في محور لوحده) .

 

كانت آخر مجموعة قصصية له تحمل عنوان " السلوان " ومن بين القصص التي احتوتها المجموعة ثلاثة قصص قصيرة هي " الموت ليس نهاية المطاف " و " الانتحار نوع من العطاء " و " الرجل المكتئب "، في هذه القصص يسخر والاس بمرارة من الموت ومن الانتحار، لكن قصصه مع ذلك مشحونة بالخوف والقلق، وتتكرر فيها مفردات الهوس والجنون والحزن والإكراه، لكنها في قالب من السخرية فلا يتوقف عندها القارئ، وتميز الكاتب والاس بأن مزاجه المرح يقطر على صفحات كتاباته الإبداعية أو مقالاته الصحفية، وفي حين يبدئها بموقف حزين ينهيها باحداث ساخرة على خلاف ما انهى حياته .(3)

 

معصوب الرأس بمنديل وبذقن غير حليقة هكذا يطالعنا الروائي والاس في معظم صوره لكن كي يتمكن روائي شاب من انجاز رواية تتألف من 1079 صفحة في ثلاثة اعوام، هذا يعني ان ثمة جوهر يتسم بالكثير من الانضباط والرصانة والجدية يتخفى خلف مظهر اللامبالاة هذا،آمال نوار الكاتبة اللبنانية في صحيفة النهار البيروتية كتبت ذلك الكلام وتقول انه لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من العمر حين اصدر روايته الضخمة " دعابة لانهائية " وهي روايته الثانية التي حقق من خلالها شهرة واسعة وموقعا متميزا بين ابناء جيله من الروائيين الامريكيين امثال " فرانز وليتهيم " و " فوير " وآخرين، غير ان موهبته تألقت من خلال تعدد امكاناته الأدبية، وقدرته على كتابة المسلي الكئيب، والجدي الهجائي، والقبض على روح عصره ايضا من خلال تطرقه الى معظم ثيمات ادب ما بعد الحداثة .

 

قبل ان ينهي حياته بتلك الطريقة الدراماتيكية درّس في جامعة إلينوي لحوالي عقد من الزمن وانجز روايتان " مكنسة النظام " عام 1987 و " دعابة لانهائية " عام 1996، وفي القصة له ثلاث مجموعات هي : " فتاة بشعر لافت للنظر " عام 1990 و " مقابلات موجزة مع رجال شنيعين " عام 1999 و " النسيان " عام 2004، اضافة الى اعمال اخرى بين النقد والأدب والسياسة والرياضة والمجتمع وغيره وهي : " التدليل على جماعة الراب " و " الراب والعرق في الحاضر المديني " عام 1990 شاركه في تأليفه مارك كوستالو و " شيئ من المفترض أنه مسل لن أقدم عليه مجددا " عام 1997 و " الى الأعلى يا سيمبا " عام 2000 و " كل شيئ واكثر " عام 2003 واخيرا " فكر في الكركند " الصادر عام 2005 .

 

ومن الصعب إظهار والاس ككاتب مقالة من خلال اقتباس جملة أو فقرة في عينها، لأن اسلوبه في الكتابة عموما لايعتمد التكثيف، ولا الفاعلية أو التأثير المباشر حتى ولا البناء الهرمي التصاعدي أو الإستدلالي، انه يكتب بعيدا عن أي هارمونية ضمنية واضحة، إن لجهة تسلسل الافكار وترابطها أو لجهة تساوق المستوى اللغوي لمفردات تعبيره، انه يكتب اللغة المعاصرة لشباب الطبقة الوسطى في المجتمع الامريكي، والذين لم يترعرعوا على الكتب الأدبية، اسلوبا ومحتوى، شبيه الى حد بعيد بما فعله سالينجر بها في الاربعينات وريتشارد بروتيفان وسواه في الستينات، انه يقودها الى أن تتأمل نفسها في مرآة عصرها من دون مساحيق تجميلية أو مفاهيم موروثة من أجل ان ترى الى حقيقة الاشياء وتمعن النظر في بعض رموزها كي يتضح لها على سبيل المثال أن ما بات مرفوعا عاليا في يد تمثال الحرية الشهير، هو مجسم إصطناعي لشطيرة هامبرغر ضخمة، وليس ذلك المشعل القديم . (4)

 

صديقه الكاتب جورج سوندرز أبّنه بقطعة جميلة نشرها في الغارديان اللندنية، وهي مقالة احتوت على الكثير من اخلاقيات " ديف " كما يحلو له ان يطلقها عليه، فقبل بضع سنوات - يقول سوندرز : ( غادرت الى كاليفورنيا للقاء " بوذا الامريكي " المتصف بالرعب والحنان في آن واحد، ومع ان ذهني كان مهيأ لوعي مفاجئ جديد إلا انني صدمت بهذه الطقوس التجريدية والتي لم اكن اعتادها بسبب كون هذا الصديق تستيقظ فيه كل الحواس الأدبية سواء اكانت نثرية أم قصصية قصيرة أم رواية طويلة، انه ينظر الينا في كل الإتجاهات وعندما أجده يناقش في " فوكو " تأخذني الضحكات في قرارة نفسي لأن هذا الذي يتكلم يبهرك حقا وانت تشاهده يرتدي مايتي ماوس تي شيرت وكأنه " تيشخوف " في حكاياته الشهيرة، ديف تبقى صورته عالقة في الاذهان حتى بعد رحيله لانه وكما أراه صفحة من التاريخ يدعو الناس دائما لقراءته ) .(5)

 

أحمد فاضل

 

......................

الهوامش /

(1) أندي وايتمان / كاتب امريكي / مجلة باستي الامريكية

(2) عبد الجبار ناصر / كاتب عربي مقيم في استراليا

(3) نفس المصدر السابق

(4) آمال نوار / كاتبة لبنانية / صحيفة النهار البيروتية

(5) جورج سوندرز / كاتب بريطاني / صحيفة الغارديان اللندنية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1308 الجمعة 05/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم