قضايا وآراء

يوميات الجندي المرقم 195635 (3)

بنى فيها منسوبوها الجنود غرفا من الصفيح، وأخرى من طابوق إسمنتي صنعوه بأنفسهم، وحفروا فيها عددا من الملاجئ يهرعون اليها كلما نعقت صفارات الإنذار معلنة عن زخة جديدة من مطر القنابل الإيرانية ... تقع المفرزة خلف " ملهى النصر" تماما، في شارع الوطني في مدينة البصرة لايفصل بينهما غير جدار واطئ من الطابوق .. أمام المفرزة يقع فندق ـ ما عاد مظلوم يتذكر اسمه ... فندق لا ينام فيه سوى راقصات ونادلات الملهى ... إنه حانة أكثر من كونه فندقا، ثمة فيه قاعة واسعة لتقديم المشروبات الكحولية، مفتوحة الأبواب طيلة النهار وحتى آخر الليل .. " مظلوم متأكد من ذلك .. فقد عاد لمنادمة الكأس أملا ً في نسيان كونه أضحى حيوانا في الإصطبل العسكري، وكثيرا ما كان يتسلل إلى تلك القاعة خلال حراسته الليلية ليملأ " الزمزمية " بسائل أبيض ذي رائحة كريهة يطلق عليه رفيقه جندي احتياط معاون طبيب " ناظم البدران " مسمّى " حليب السِّـباع " ويسمّيه العريف علي الأسمر " دواء الجمجمة " بينما مظلوم يطلق عليه مسمّى "العسل المرّ" ... يقسم مظلوم أنه رأى بعينيه ضابطا برتبة نقيب يرتدي ملابس القوات الخاصة ينزل من الطابق العلوي ملطخ الفم بأحمر الشفاه ... بل ويقسم أنه قال للضابط ـ ودون ان يؤدي له التحية: "رجاء سيدي إغلق سحّاب بنطلونك حتى الفرس المجوس ما ياخذون نظرة سيئة على ملهى النصر" فكان جواب الضابط ـ حسب زعم مظلوم ـ : " يا ابن الكحبة ليش هي القادسـية أشـرف من ملهى النصر؟ "

 

 في منتصف ذلك الليل الثلجي، وكان الظلام شديدا، سمع مظلوم صوتا يشبه صوت مزاريب السطوح وقت انهمار المطر .. وحين حدّق جيدا، رأى عسكريا يتبوّل واقفا مثل كلب على مقربة من الملجأ المحاذي لورشة التصليح ... ولأن مظلوم قرويّ، فقد صاح به: رجاء إرفع رجلك حين تتبوّل ...

 

 كان مظلوم يظن الذي يتبول، كلبا آدميا ً.. وبحسب ثقافته القروية، فالكلاب لا تتبول إلا واقفة رافعة أحد الساقين الخلفيين ... ثم أن مظلوم يعتقد أن للقبور حرمتها، فلا يجوز التبوّل عليها أو قربها ...هذا كل ما في الأمر ... مظلوم كان يعتقد أن جنديا من جنود وحدته هو الي أفرغ مياه مثانته قرب قبره الذي يُطلق عليه إسم ملجأ ... لم يكن مظلوم يتوقع أن ذلك المتبول، هو ضابط طيار يحمل نوطي شجاعة، والذي ربما كان في زيارة أحد اصدقائه الضباط في مفرزة التصليح، أو في زيارة للواء، فغالبا ما كان الزوار يتركون سياراتهم في رحبة المفرزة ومن ثم تقلهم الى الجبهات سيارات عسكرية مموهة بالطين أو بشباك تشبه شباك صيادي الأسماك ..

 

تقدم الضابط من مظلوم وهو يطفح غضبا ... ومن سوء حظ مظلوم أنه لم يغلق راديو الترانزستور تلك اللحظة ، فقد كان يستمع الى تقرير إخباري من إذاعة لندن حول معارك " الفاو " وما لحق بالجيش العراقي من خسائر جسيمة كان يمكن تلافيها لولا جهل وغباء ونرجسية القائد العام للقوات المسطحة .. عفوا، القوات المسلحة ..

 

 " عميل .. خائن .. جبان .. لا بد من عقابك .. يا سافل .." هكذا صرخ الضابط بوجه مظلوم حين عرف انه كان يستمع الى إذاعة لندن .. ويبدو أن الضابط قد نجح في استفزاز مظلوم، الذي أجابه بشيء من السخرية : أطبق فتحة سروالك أولا، واستعمل حفاظات بامبرز إذا كنت سريع التبول ولا تملك السيطرة على نفسك .. إستشاط الضابط غضبا فصفع مظلوم على وجهه فإذا بمظلوم يفقد أعصابه فيبصق على وجه الضابط ويرفسه في بطنه فسقط إلى الأرض ليس بسبب قوة رفسة مظلوم إنما من أثر السكر ... تعالى صراخ الضابط الذي اتضح أنه برتبة رائد .. وهرع رديف مظلوم في الحراسة الجندي " إسماعيل الفيترجي " إلى آمر المفرزة ليوقظه .. واستيقظ جنود المفرزة كلهم .. جاء آمر المفرزة الملازم أول " مسلم عبد درو " والذي وقف لمظلوم موقفا ً مشرّفا سيبقى محفورا في لوح ذاكرته أبدا .. قال للضابط الطيار بلهجة حازمة : لا أسمح لك سيدي الرائد بالإعتداء على جندي من جنودي اثناء تأديته واجبه .. وسنفتح تحقيقا بالموضوع .. يؤسفني أن أقول إنك اعتديت وأنت في حالة سكر شديد .

ومع أنني اعترفت لآمر المفرزة ببصاقي على غريمي إلآ أنني نكرت رفسي له، مدّعيا أنه سقط إلى الأرض بفعل سكره الشديد، فنصحني بأن أنكر بصاقي عليه ورفسي له .. لكنني كنت صادقا في قسمي بأنني لم أكن أعرف أنه ضابط، فالظلام كان حالكا وكانت رتبته المطرّزة بخيوط غامقة على بدلته الزرقاء غير واضحة ..

كان موقفا شهما وشجاعا من آمري الشاب النبيل ابن أحد فلاحي ريف الديوانية .. يومها اكتشفت أن أكثر الجنود هم طيبون ورائعون على العكس من الضباط فأكثرهم لا يتوانون عن استغلال جنودهم ـ وبخاصة أبناء الأثرياء ـ والقلة منهم طيبون .

 

 صحيح ان مظلوم يجنح الى الخبث أحيانا، لكن الصحيح ايضا، هو على قدر كبير من الطيبة والألفة .. فهو وإنْ كان خبيث القصد عندما طلب من المتبول رفع أحد ساقيه، إلا انه لم يكن يقصد إهانة المرسوم الجمهوري الذي منح الضابط رتبته العسكرية ... ولم يكن يقصد إهانة بطاقة عضوية الحزب التي اتضح فيما بعد أنه يحملها ـ على رغم قناعة مظلوم بأن بطاقة العضوية تلك لا تعدو كونها سُبّة وشتيمة لحامليها، وبخاصة بعد نجاح " المهيب الركن الذي لم يدرس العلوم العسكرية ولو في ثكنة شرطة " بإفراغ الحزب من معانيه الوطنية والقومية والإنسانية ، ليغدو مجرد تابع من توابع سلطته وأداة من أدوات نرجسيته المنفلتة برعونة وحمق ..

 

 أزعم أنني أعرف " مظلوما " بشكل جيد ... انه عنيد كالبغـل ..لكنه ايضا وديع كحمامة .. له قدرة على تحمل الضرب والصفع والركل والسياط والكيبلات، وحتى العضّ والرفس والنطح دون أن يصرخ أو يتأوه ـ قدرة قد لا يملكها حمار ابن مدينته " حمادة العربنجي " لكنه في نفس الوقت، يمكن أن تدمع عيناه لرؤية طفل حافي القدمين .. أزعم انني أعرفه تماما ... وبموجب هذه العرفة، أقول جازما، إنه كان يستمع ـ كلما سنحت له الفرصة ـ الى إذاعة لندن " وإذاعات أجنبية أخرى " مع علمه أن هذا الاستماع ممنوع ... الجنود كلهم كانوا يستمعون خلسة للإذاعات الأجنبية .. بل وحتى آمر المفرزة نفسه كان يستمع للإذاعات الأجنبية لمعرفة حقيقة الأحداث .. مظلوم شديد الكراهة للأناشيد التي تتحدث عن بطولات وهمية وانتصارات لا وجود لها إلآ داخل استوديوهات اذاعة صوت الجماهير واذاعة بغداد وفي أروقة الماخور الإعلامي الذي يشرف على إدارته "غوبلز " جديد في دولة رايخشتاغ القصر الجمهوري ببغداد لصاحبها الفوهرر " مطيحان " ..

 

 لقد اعتقد مظلوم أن السيد الضابط الطيار أراد من وراء اتهامه بتهمة العمالة، الحصول على اعتذار يليق برتبته العسكرية ودرجته الحزبية .. ولقد اعتذر مظلوم حقا .. اعتذر صادقا، وأقسم للضابط بالله وكتابه، أنه كان يعتقد أن المتبول هو نائب العريف " ناجي هجرس " أو الجندي المطوع " اسماعيل الفيترجي " الذي سبق وتبوّل واقفا قرب ملجأ الطباخين .. أما أن يصبح الاستماع الى إذاعة لندن جريمة تصل حدّ الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي، فأمر لم يكن مظلوم يتوقعه ، وكان يمكن أن يودي بحياته لولا شهامة الملازم أول عبد مسلم درو الذي أمر جنود المفرزة بالشهادة على أن الضابط كان ثملا ً وأنه هو الذي اعتدى على مظلوم .. لم يكتفِ بهذا، فاتصل بالنقيب " كاظم " ضابط التوجيه السياسي للواء والملازم أول " سلمان كريم " آمر سرية اللواء باعتداء الرائد على مظلوم خلال واجب الحراسة الليلية .. من جانبه ذهب مظلوم صباح اليوم التالي إلى مقر قيادة القوات البحرية ليلتقي ابن مدينته وصديقه العقيد " محسن علي عكلة " العضو المهم في المكتب العسكري لحزب مطيحان فأحسن استقباله ووعده بتدارك الأمر (مع عتاب يأخذ شكل التوبيخ والنصيحة لمظلوم الذي نقل له تفاصيل الحادث بصدق) ..

حين عاد مظلوم من مقر قيادة القوات البحرية، قال له آمر المفرزة : لقد أدرجت اسمك ضمن " قائمة الإجازات الدورية التي ستصدر بعد ساعات " رغم أن استحقاقك لها سيكون بعد اسبوعين، فعلينا إبعادك من المعسكر تحسُّـبا لتوقيفك ومحاكمتك في حال فشلت مساعينا لإقناع الرائد طه بالتنازل وتسوية المشكلة، فقد اتصل بي العقيد محسن علي عكلة وسيزورني عصرا لنبحث في إيجاد مخرج يقيك تبعات تصرفك ....

غادر مظلوم وحدته تجاه كراج نقل المسافرين في ساحة سعد ـ وليته أمضى إجازته داخل المفرزة !

 دلف إلى سوق " حنّا الشيخ " القريب من وحدته في العشّار ليشتري دمية لطفلته الوحيدة ... تحدث من هاتف عمومي مع زوجته وطفلته ليخبرهما أنه في طريقه إليهما .. فرحتْ شيماؤه حين أخبرها عن الدمية فسألته عن شكلها .. قال لها : دمية لها ضفيرتان طويلتان كضفيرتيك وعينان عسليتان واسعتان كعينيك وتبكي حين تخرجين " مصّاصة الرضاعة " من فمها ..

حين غادر المحل نسي مظلوم أن يلبس حذاء الرأس " البيرية " حتى إذا وصل جسر العشار سمع صوتا يُنادي : " أبو خليل .. أبو خليل " .. لكنه تجاهل الصوت ولم يلتفت إلى مصدره .. خطوات ويُفاجأ بأحد جنود الإنضباط يسحبه من قميصه قائلا بصلف : لماذا تتجاهل النداء ؟ أجابه مظلوم : لكنك لم تنادني يارجل .. قال الجندي : أنت تكذب .. ناديتك مرتين " أبو خليل .. أبو خليل " ... أجابه مظلوم : نعم سمعت هذا وظننتك تنادي شخصا آخر، فأنا أبو شيماء وليس أبو خليل .. (الجندي لم يعد ممسكا بالقميص ... بات ممسكا يد مظلوم بقوة خشية أن يهرب !) ..

 جاء جنديان آخران من جنود الانضباط فأرغما مظلوم على الصعود إلى سيارة الانضباط العسكري .. ثمة في السيارة نحو عشرة جنود .. حاول إقناع آمر مفرزة الانضباط بالسماح له بإخلاء سبيله ولو عطفا على طفلته التي تنتظر دميتها .. لم يكن آمر مفرزة الانضباط أصمّ بدليل أنه أجاب مظلوم : أكرمنا بسكوتك ..

توقفت السيارة في صحراء الشعيبة حيث موقع سجن انضباط قوات محمد القاسم .. أُدخِل مظلوم إلى حجرة من الصفيح ... يقسم مظلوم أن مساحتها لاتتعدى الخمسين مترا متربعا .. كانت حجرة تعليب بشري .. مُعتقل فيها أكثر من مئة جندي .. لاثمة بساط ـ لأن الغرفة لاتتسع للجلوس أساسا فما ضرورة البساط ؟ .. ولاثمة نافذة تعمل على تجديد الهواء .. ولا ثمة مدفأة تقلل من ارتجاف الخراف المعلّبة داخلها .. ولا ثمة ولو فتحة في جدار الصفيح تُـتيح لأحد فرصة " إخراج إحليله " ليتبول حين تحتقن مثانته ..

 مظلوم طلب بدء نزوله من السيارة الذهاب إلى مكان التبول فدفعوا به إلى داخل غرفة التعليب هذه .. وحين صاح من خلف الباب استنجادا، أجابه صوت ساخر : مسموح لك التبوّل على نفسك أو فاصبر حتى يحين موعد التبوّل !

للتبوّل إذنْ مواعيد في قادسية مطيحان !

 تنمّلت قدماه .. واستطاع بعد جهد الحصول على موطئ قدم قرب جدار الصفيح أراح ظهره إليه .. أكثر ما أرهق مظلوم انتفاخ مثانته ومحاولته إبعاد دمية ابنته عن الأجساد الملتصقة به .. لم يصدّق مسمعه حين تناهى إليه صوت شخير متقطع .. !! ومَنْ يدري ؟ فربما يكون مظلوم أيضا قد غفا واقفا، لذا سأل الجندي الملتصق به : هل شخرت أنا ؟ أجابه : لا .. لكن الدمية صدر منها صوت بكاء !

 قبيل الغروب فُتحت باب غرفة التعليب .. قال الحرّاس : سيخرج كل عشرة جنود إلى دورات المياه لمدة عشر دقائق للتبوّل ولشرب الماء ... ومن يتأخر يُعاقب ..

أفرغ مظلوم قِربة مثانته واقفا مثل كلب .. وشرب ماء من ذات الخزان الذي يُستخدم ماؤه للتنظيف ..

عند الغروب، أخرجونا جميعا إلى فضاء محاط بسياج من الصفيح : إنه موعد شِراء طعام العشاء : صمّونة بائسة وبيضة مسلوقة وشريحة طماطم مع كوب شاي أكثر بؤسا بنصف دينار !!! لقد وضح جانب من الصورة .. آمرية الإنضباط العسكري إذن وجدت في الجنود منجما ً لجني النقود !!

مظلوم ـ وغيره كثيرون ـ تظاهر برغبته تناول" سندويشة ثانية وكوب شاي ثان ٍ كي يُطيل فترة بقائه خارج حجرة التعليب الآدمي .. وكذا كان الحال مع فطور الصباح ومن ثم طعام الغداء حين خدمته المصادفة برؤية ضابط برتبة نقيب، يبدو أنه آمر المعسكر فشرح له ماحصل وأراه نموذج إجازته فنجح في إقناعه بإطلاق سراحه .. وصل مظلوم بيته في اليوم الثالث من إجازته وهو أكثر حقدا على مطيحان وقادسيته وجنرالاته وحزبه، وبدأ يخطط لهروبه في الوقت المناسب، معاهدا الله على أنه لن يرمي طلقة واحدة على الجيش الإيراني حتى لو وصل مشارف القصر الجمهوري حيث يقيم القائد العام للقوات المسطحة على مقربة من طائرته المهيّأة للإقلاع عند الضرورة !

  **

قرر مظلوم أن يُفاتح والده بشأن عزمه على الهروب من العراق .. (كان والد مظلوم يردد دائما : أمنيتي الوحيدة هي أن أرى نهاية مطيحان وهو يُسحل في الشوارع تدوسه أقدام ضحاياه) ..

 أجابه والده : تريّثْ وليدي .. هذولة ظالمين وعديمين الشرف والضمير .. إذا هربت راح ينتقمون من إخوانك وأخواتك .. تتذكر لمّا أحضروني آني وأمك وأخواتك وأخوانك السنة الماضية وهددونا بالتسفير إلى إيران حين كنت أنت موقوف وضربني الشرطي راجدي أمامك ؟سلّمْ أمرك لله وليدي واصبر .. كل شدّة ولها فرج .. بعدين ياوليدي عندي سؤال : ليش ماتترك عنادك وتسجّل بعثي؟ والله العظيم مدير الأمن بنفسه بعث لي خبر ويقول إذا تسجل بعثي يرجعونك للتدريس ..

أجابه مظلوم : نعم أتذكر كيف أحضروكم في مديرية أمن البلدة أنت وأمي وأخواتي وأخوتي لتهديدي بالتسفير .. وأتذكر أنك قلت له : سيدي آني شهادة جنسيتي عثمانية أصلية وعشيرة بني حِسَـنْ " معروفة بعروبيتها .. لكن يا حاج هل تتذكر أنت جوابي حين قلت لي : " أختك غيداء خطبها موظف حكومي كبير وعضو فرقة بحزب البعث " فما رأيك ؟ أتتذكر جوابي ياحاج؟ أتتذكر أنني قلت لك : إذاغيداء تزوجت عضو فرقة بعثي سأقتلها غسلا للعار؟

 الحاج عباس لم يقل سوى " حسبي الله ونعم الوكيل " ... ثم قال لمظلوم : اليوم بعد صلاة الغروب أنا مدعو للعشاء عند الشيخ شنان آل رباط .. أرجو أن تأتي ..

شعر مظلوم بفرح حقيقي ... فللشيخ شنان آل رباط عند مظلوم منزلة كبيرة وقد سمع عن رجاحة عقله وكرمه ومواقفه الوطنية .. منها موقفه حين أرسل إليه السفير البريطاني في العراق عام 1957 مندوبا للقائه فاستقبله الشيخ في مضيفه .. وخلال الحديث سأل المندوب الشيخ : هل الشيعة في السماوة هم الأكثرية أم السنّة ؟ فما كان من الشيخ شنان إلآ أن يقول لحامل " دلّة القهوة " : أعِدْ الدلّة للوجاق ... وقال للمندوب : كنت عقدت العزم أن أذبح خرافا عديدة وليمة لك .. أمّا وأنت تسألني هذا السؤال فإن جوابي لك : إخرجْ الان من مضيفي فلستَ أهلا ً لدخوله، نحن لانعرف مَنْ منّا الشيعي ومَنْ السنّي ...

الحاج عباس كان من بين شهود هذا الحادث وهو نفسه الذي ذكرها لابنه مظلوم الذي كان قد سمعها من أناس كثيرين .. لكن مظلوم كان ذاته شاهدا على حدثين آخرين عن حكمة الشيخ شنان وكرمه ... الأول عام 1963 حين تحصّن أفراد " الحرس القومي " في مقرّهم الواقع في شارع الجسر الحديدي / الصوب الكبير بقيادة آمرهم " كمال السامرائي الكليدار " معتزمين مقاتلة أهل السماوة الذين أحاطوا المقر ... دخل الشيخ شنان إلى المقر رغم الرصاص المنهمر من الجانبين ... وما هي إلآ ساعة أو نحوها وإذا بأفراد الحرس القومي يخرجون بـ " الملابس الداخلية " مستسلمين فحقن دما ً كثيرا ... والحادثة الأخرى بعدها بشهور، حين حدث الفيضان الكبير فأغرق جانبا كبيرا من السماوة، يومها حضر إلى السماوة رئيس الوزراء آنذاك "طاهر يحيى" ليشرف على جنود الفرقة الأولى الذين حضروا من الديوانية ... كان يوما عصيبا .. جميع أهالي السماوة من صبية وشباب وشيوخ ونساء شاركوا الجنود في ملء أكياس الجنفاص بالتراب لصنع سدّ على امتداد النهر ... الشيخ شنان أقام وليمة ربما هي الأكبر لا في تاريخ السماوة فحسب، إنما في العراق كله ... لقد أولم لأكثر من عشرة آلاف جندي ومدني ... وليمة ذبح فيها مئات الخراف أقامها في بستانه ولم يقبل أن يشاركه أحد من أثرياء السماوة ووجهائها والإدارة المحلية بتحمل فلس واحد من تكاليفها .

  **

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1310 الاحد 07/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم