قضايا وآراء

إشكالية الحداثة في الشعر السياسي .. يحيى السماوي أنموذجا (1)

لم تعُد تسيل عسلا

فما الذي أغوى

كل هذا الذباب البشري

لدخول العراق؟)

- (أوشك أن أؤمن

أن الله

يحب العبد

على قدر كراهيته

لآلهة البيت الأسود في واشنطن)

- (أيّا كانت مآسي الغد

أيا كان غضب الأعاصير

البراكين .. الطوفانات

الزلازل .. والأوبئة

فأجيال الغد لابدّ أن تكون أحسن حالا

مادام أن الغد

لن يشهد ولادة وحش جديد

اسمه:

" جورج بوش الحفيد ")

 (يحيى السماوي)

 (شاهدة قبر من رخام الكلمات)

 

- درس من "رسول حمزاتوف":

هذه هي المرة الثالثة التي اقرأ فيها كتاب رسول حمزاتوف " داغستان بلدي " خلال عقد من السنين، وهو الكتاب الذي كتبت على صفحات الصحف العراقية قائلا أن في نفسي غصة أن يكتب مبدع عراقي كتابا عن بلده أو عن مدينته مثلما كتب رسول عن بلده داغستان، علما أن داغستان عبارة عن كتلة صغيرة صخرية لا يزيد عدد سكانها على المليون – أقل من البصرة وأقل من السماوة مسقط رأس يحيى السماوي - – وفيها عشرات اللغات والقوميات !! . قد أعود إلى هذه الملاحظات لاحقا، لكنني كلما قرأت كتاب رسول اكتشفت دروسا وعبرا عظيمة وأهمها الذي يتصل بالسلوك الإبداعي للمبدع . خذوا مثلا هذه الحادثة / الدرس، يقول رسول:

(.. كان الخان - إذا لم تشغله أعماله أو نساؤه - يحب أن يستمع إلى الشعراء، وفي يوم من الأيام سمع أغنية تتحدث عن قسوة الخان واستبداده وجشعه . فأمر الخان وهو غضبان، بالبحث عن الشاعر، الذي حرض على عصيانه، لم يستطع أحد العثور على مؤلف الأغنية، وعندئذ أمر الخان وزراءه وجنوده بالقبض على جميع الشعراء . وفي صباح اليوم التالي جاء الخان ليرى الشعراء المسجونين: - حسنا على كل واحد منكم أن يغني أغنية واحدة يمدحني فيها . وبدأ الشعراء يغنّون ويمجدون الخان وقلبه الطيب، أطلق الخان سراح من غنّاه من الشعراء . ولم يبق في السجن غير ثلاثة شعراء .. ظن الناس أن الخان نسيهم .. ومع ذلك فقد عاد الخان بعد ثلاثة أشهر ليرى الشعراء المساجين: - حسنا على كل واحد منكم أن يغني أغنية مديح واحدة . قال أحد الشعراء أن الأرض لم تشهد مثل هذا الخان في عظمته وعدله . وأطلق الخان سراح الشاعر وبقى شاعران رفضا الغناء .. فأمر الخان بنقلهما إلى محرقة أعدت في الساحة العامة . وقال الخان: سنلقيكما في النار . هذا إنذار نهائي . غنياني إحدى أغنياتكما . واحد منهما انخذل وبدأ يغني للخان فأفرجوا عنه، ولم يبق إلا واحد هو الذي أبى أن يغني، وأمر الخان: أربطوه بالجذع وأشعلوا النار . وعندئذ أنشد الشاعر وهو مربوط بالجذع أغنيته الشهيرة عن قسوة الخان واستبداده وجشعه، تلك الأغنية التي كانت سببا في كل ما حدث . وصرخ الخان: - فكّوا حباله . أخرجوه من النار . أنا لا أريد أن أفقد الشاعر الوحيد الحقيقي في بلدي) .

لست واعظا وأعتقد أن استدعاء ما يمكن أن يقوم به الخانات العرب مع شاعر من هذا النوع يجعل ما سطره حمزاتوف – في نظر القاريء العربي عموما والعراقي خصوصا- يدخل في باب التمنيات الخيالية . لكن من الضروري أن يُحفظ توازن الوجود ويلجم بطش الخانات شاعر من هذا النوع . وهذا ما ختم به حمزاتوف حكايته حين نقل تعليق الشاعر " أبو طالب " على الحكاية:

(- الحق أني لا أعتقد كثيرا أن هنالك خانات في مثل هذا الذكاء، وفي مثل هذا النبل، ولكن في الواقع إن وجود بعض الشعراء من هذا النوع ضروري) .

- يحيى السماوي .. الحلم المقاوم يتهشم:

.... ويحيى السماوي هو من نمط هذا الشاعر الجسور المقاوم، لكن الذي تلغي حكايته الموازية نبالة خان حمزاتوف . فخان السماوي أوشك أن يقطع رأسه حتى وهو لم يطلق أغنيته التعرّضية التي كانت محتبسة في أعماقه . لكن الشاعر حاول أن يقوم بفعل مقاوم يسقط من خلاله الخان المتجبر – وتفصيلات فعله صارت معروفة – فأُجهض فعله، واضطر إلى أن يتغرب في جحيم المنافي، وهناك بدأ يجهر بنداءاته الجريحة .. نداءات حارقة ضد الطغيان والاستبداد من أجل الحرية .. ضد الموت من أجل الحياة .. ضد ظلام القهر من أجل نور الإنعتاق . إنها نداءات من بعيد .. نداءات طير طرد خارج قفص الأسر الذي حبس فيه شعبه وظل ينظر إليه بانكسار عبر الحدود .

لكن الكارثة هي أن حلم الشاعر قد تهشم .. ونداءاته التي جرّحت روحه وأدمت أوتار حنجرته قد ضاعت طاقاتها . فبعد الطغيان يأتي الإحتلال، والأدق يعود إلى بلاد تخلصت منه بالدماء والنضال والتضحيات الجسام .. يعود إليها مع سرب من أدلاء الخيانة؟

وتتجلى مفارقة حارقة تدمّر وجود الشاعر وتشعره بهباء تضحياته الهائلة: حدثتني السيدة أم الشيماء زوجة الشاعر عن الرحلة الرهيبة التي سارت فيها مشيا على الأقدام من السماوة إلى الحدود السعودية حاملة طفليها الصغيرين: علي والشيماء، في أرض صحراوية مخيفة لتلتحق بزوجها الشاعر الهارب من مخالب البطش، والذي كان يتقلب على جمر القلق فزعا من أن تطال يد الجلادين عائلته بعد هروبه عام 1991 وتفصيلات الرحلة تصلح سيناريو لفيلم درامي من أفلام هوليود . هذه التضحيات صممت من أجل هدف اعتبره الشاعر نعمة لشعبه، وإذا به يصبح نقمة ترجع شبح الاحتلال الخانق . يصوغ الشاعر هذه المفارقة بصورة فنية محكمة في قصيدة " أطلقوا سراح وطني من الاعتقال "، وهي صيحة تعكس جانبا مطلبيا مباشرا وحازما، لكن إكمال قراءة القصيدة سوف يكشف مفارقة تصعّد درجة الإنفعال إلى حدودها القصوى . ولنمضي مع الشاعر الذي يخبرنا وبوضوح - بعيدا عن تلغيزات " الحداثة " المصطنعة – أن جيوش المحتلين قد خرّبت الحياة على صعدها كافة، لم تبق ولم تذر أي شيء جميل على المستوى الشخصي والجماعي والوطني، على مستوى السعادات الشخصية والاجتماعية والوطنية، حتى الطبيعة المجردة خربتها مخالب هذه الجيوش:

(القادمون من:

وراء المحيطات

الغابات الحجرية الأشجار

مدن الثلج والنحاس

فنادق الدرجة الأولى

اصطبلات رعاة البقر

المباغي الأيديولوجية:

أفرغوا حنجرتي من الصوت

وعيني من الدموع

وشفتي من الابتسامات

ومئذنتي من التراتيل

وصباحاتي من الألق

ومساءاتي من النجوم

وحديقتي من الورود

وحقولي من البيادر

وبيتي من الطمأنينة

والشارع من البهجة – شاهدة – ص 35و36)

وليس من الممكن أن " تخلق " الحماسة شعرا يتمتع بالشروط الجمالية الآسرة، إنها من الممكن أن " تصنع " خطابا شعريا تعبويا متحمسا، أو بصورة أدق تُصدر هتافا شعريا – باستثناء أن تصدر الحماسة عن أرواح الشعراء الكبار المنفعلة – وتعبويا . هناك فارق كبير بين أن تنادي أمك بكلمة " أماه " في لحظة استرخاء وبين أن تطلقها في لحظة توتر، ويصبح الفارق شاسعا حين تصيح بها في لحظة ثكلان، فهنا لا تنطلق المفردة من أعماق الحنجرة تركيبا حروفيا منجرحا، بل من أعماق اللاشعور بكل ما اختزنه من شحنات حبية عاصفة تجاه الأم بكل حمولاتها الرمزية الثقيلة: البيت، الحبيبة، الحديقة، الأرض، الزوجة، رغيف الخبز، الجماعة، العقيدة، رائحة القمح . شعار الشاعر من الأم جئت وإلى الأم تعود بعيدا عن التورية القداسية المعروفة: من التراب جئت، وإلى التراب تعود، والتي تتأسس على البعد الرمزي للتراب كممثل أصيل للأمومة استلبته السلطة الأبوية القامعة . وهنا يفصّل الشاعر تمظهرات عملية " الإستبدال " التاريخية المناورة، هذه التي تجري بأصابع خبيثة وبطريقة مبيتة، حيث يُستبدل بكل ما هو أصيل وراسخ في الوجدان الشخصي والجمعي من معاني الشرف والجمال والقداسة، ما هو دنيء وقبيح وموغل في الدنس:

(استبدلوا:

بكوفيتي خوذة

بحصاني دبابة

بحديقتي خندقا

بنخيلي أعمدة كونكريتية

بأساوري قيودا

بـ " زهور حسين " " مادونا "

بالقرآن مجلة ستربتيز

ودماً بمياه الينبوع

وساندويشة ماكدونالد بخبز أمي – ص 36)

ويحكم الشاعر قبضته على التسلسل الحروفي المعبّر عن الموجات الانفعالية الصاخبة حين يتحول بعد سبع استخدامات لجمل تبدأ بالباء " الاستبدالية " المكانية، بجملة إضافة تبدأ بالواو " الزمانية " ليخلق انفتاحا شاسعا مدويا بعد طول احتباس – وتوصيفا المكان والزمان لحرفي الباء والواو مستقان من نظرية العلامة العراقي الراحل عالم سبيط النيلي - . لكن المفارقة التي تصدم تجربة الشاعر في صميمها تتمثل في أن من جاءوا بالاحتلال يتصورون أنهم قد أطلقوا سراحه – وهو خارج البلاد فعلا وأطلق سراح ذاته قبل مجيئهم – في الوقت الذي حبسوا فيه البلاد بكاملها، إنها لعبة شديدة المكر أن تفرج عن الضحية وتعتقل أمّها التي انتظرتها دهورا . وأتذكر هنا قصة للروائي الفلسطيني " أميل حبيبي " تتحدث عن سجين كان يلح على الجلاد في أن يرى عائلته، وذات يوم جاء الجلاد بالعائلة كلّها ليسجنها مع السجين المتلهف قائلا له: ها قد حققنا رغبتك !! . في بلاد السماوي لم يتحقق حتى هذا الحل المسموم، فقد أطلقوا سراح الإبن المتلهف لرؤية أمه، واعتقلوا الأم المتلهفة لرؤية ابنها:

(أطلقوا سراحي من قبضة الخرتيت

واعتقلوا الوطن – ص 36و37)

ولا تتعادل كفتي ميزان " الربح " الفردي " و" الخسارة " الجماعية أبدا، نحن هنا ننظر إلى كفة واحدة من ميزان الوجود تهوي صائتة بمهانة مزدوجة . يضاعفها أن الغزاة يعطون الشاعر المستلب قلما وورقة ليكتب عن الحرية، وهذا أمر مستحيل مع سلب حرية الوطن الأم حتى لو كان الإبن قد تخلص من القبضة المميتة، وبهذا لن يكون له أي دور في ترتيب عملية الاختيار، فنحن هنا – وفي ظل سطوة الخراتيت الغزاة – أمام خيار واحد ذي شقّين، أحلاهما حنظل: مهانة تبعية الوشاية المقيتة لصالح المحتل – كتابة التقارير - التي لن تكون عودة إلى مهمة محتقرة أفرزها الطغيان والتي كان شرطها الابتعاد عن دائرة كرسي التسلط والغناء لها، بل الكتابة الغادرة عمّن يشكلون ضمانة بقاء البلاد .. بقاء وحدتها الاجتماعية وتماسكها الوجداني ورهافتها الإنسانية وخصوصيتها الوطنية وحساسيتها الحياتية من خلال حرص روحهم الانتقادية . وفي هذا المقطع التصافقي الذي يعرضه الطغاة الجدد على الشاعر الذي شبع سجونا وتعذيبا ومهانة وتشردا تجد لعبة الاستبدال مستمرة بتعويض الباء التي هي حركة انبثاقية انفجارية تكرارية بالحرف " على " الذي يبتديء بحرف العين الذي يعني حقا – والرأي للعلامة النيلي – اتضاح معالم الحركة المبهمة، فـ " العين " حركة جوهرية داخلية نهايتها اتضاح الحركة المبهمة .. وتكتمل الحركة فيه من داخلها بدون زيادات لتظهر واضحة المعالم – عالم سبيط، نظرية اللغة الموحدة – ص 263) وكأننا – فعلا – أمام محاولة الانبثاق الخطيرة للطرف المعطل الذي يسبق الحرف (على) والذي كُبت طويلا، فهم – الغزاة – يريدون منه أن يكتب ليس عمّن يعطلون حركة الحياة أو يخربونها، لكن أن يبطش وشاية بمن يريدون إنهاضها وإشاعة البسمة على محياها الكسير، هذه المهمة التي نذر روحه من أجل تعزيزها وتفجيرها . هو الذي كان مضطهدا عليه أن يشي بالثوار، ومسحوقا بالمنسحقين، ومعدما بالمذلّين .. صار عليه أن يشي بمن كانوا يقارعون معه الطغيان، لا بمن يسندونه ويعزرونه:

(لأكتب .... تقارير

عن الذين يرفضون تحريض:

النار على الأكواخ

والقحط على الحقول

وأكياس الرمل على الشرفات

و " ابن طالب " على " ابن الخطاب "

و " أبي ذر الغفاري " على " القديس أوغسطين "

والخنادق على الحرائق

والسيوف على الرؤوس

والسيارات المفخخة على الأسواق الشعبية

والأكفان على مناديل العشق

والدخان الطائفي على قوس قزح

والرذيلة على الفضيلة

واللصوص على الوطن – ص 37و38)

ولو تتبعنا النص منذ استهلاله وحتى هذا البيت لوجدنا أن الإفصاح عن هوية الطرف المقابل المحتل الذي خرب أحوال البلاد ودوّخ العباد تم بصورة تصاعدية مع تصاعد زخم الانفعال المرافق للمنحنى التقربي من هضبة الإفصاح الموجع . ليست مهمة الشعر إخبارية .. أبدا .. ولا هي إعلامية .. ولا فلسفية .. ولا سياسية .. إنها – وهذا ما يدركه يحيى بحدة – كلّ ذلك، كل هذه المعضلات مجتمعة، بل أكثر منها، ولكن ولا واحد منها كخبر أو كإعلام أو كفلسفة أو كسياسة .. إنها تأتي متخفية ومنسربة تحت أغطية الفن الباهرة . وبعد كل الأشواط الطويلة هذه من " الإستبدالات "، باستبدال ما هو قائم جماليا ومؤسسا حياتيا – حتى لو كان في ضمير الماضي - حاضرا فاجرا يتلخص بعد طول تفصيل معاني ببيت واحد مفاده:

(تحريض " الأمركة " على " العراقة " – ص 38)

لكن هذا ليس الفعل الشعري كله .. ولا أدناه، إن لم يحمل الروح الممزقة على أن تقف أمام مرآة انقهارها في سطح صقيل من جنس المعاناة، وها هو الشاعر يقف بين الرمضاء والرمضاء، بين الموت والموت، ويتضح هذا في حالة نادرة لا تتكرر في شعر السماوي حين ينفض يديه من تراب مسؤولية وطنه، مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن ظاهرا، ها هو يصرخ:

(... فهل ثمة من يلومني

إذا صرخت ملء حنجرتي:

أعيدوني إلى زنزانتي

وأطلقوا سراح وطني – ص 38)

والشاعر الحديث " يخطط " ويرسم مسارات مشروعه ولا ينطلق ليعالجها فطريا، صارت الفطرة - الشاعر المفطور - عبئا على الحداثة أو أنها ضدّها . وعلى سندان الاحتلال البغيض كان الشاعر يشاهد - مفجوعا - كيف تُطرق أحلام عمره الهشة وتحطم، فيستولي شبح الخيبة على كل ما يكتبه من نصوص بعد تلك الكارثة . يستولي حتى على عنوانات قصائده، هذه قصيدته " إحباط " التي يفصح عنوانها بنفسه عمّا سنشاهده على خشبة مسرحها . هي اللحظة ذاتها التي تداس فيها الآمال العريضة . وهنا ترتبط بنزعة " التخطيط " الضرورية، القدرة على " هندسة " القصيدة التي يفتتحها الشاعر بـ " شخصنة " وطنه المتوفى .

 

وقفة:

وكنت أقول كثيرا أن قصيدة النثر لا تصلح لنوعين من فنون الشعر هما شعر الرثاء والشعر السياسي ففي الأول يتطلب الرثاء الإنفعال السريع الذي يعطّله اللعب الذهني وتعقيد الصورة وغيرها من خصائص قصيدة النثر، أما في الثاني فإن المتلقي يحتاج وضوح الصورة والرؤية والنفس التعبوي – وليس الموقف التعبوي الفج – وهذا ما لا يتوفر ي قصيدة النثر ولكنه يتوفر وبقوة في القصيدة العمودية وفي شعر التفعيلة، وفي الأول يقف الجواهري الكبير في المقدمة بلا منازع، أما في الثاني فقد ضرب المثل الأجود شعراء المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتهم المبدع الراحل محمود درويش . أي أن الشاعر – مثل يحيى السماوي – الذي سيقدم على هذه المحاولة سيواجه مأزق الموازنة الحرجة بين الاشتراطات الفنية للقصيدة وفعلها النفسي المباشر .

 

عودة:

ومما يصعّد من عاصفة الإحباط في روح السماوي عاملان إضافيان، الأول هو أنه كان يبشِّر ويستشرف تغييرا حاسما بطريقة تقرب من " النبوءة " وذلك في نصوص كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر رباعيته الثانية التي ضمتها مجموعته الشعرية (زنابق برية)، والتي يعود تاريخها إلى الرابع عشر من ديسمبر / كانون الأول عام 2001 حيث نشرها في صحيفة (المدينة المنورة) آنذاك:

يا نداماي أتاني حلمُ دُكّ فيه للخطايا صنمُ

شبّ في الأرض ربيع ومشت في الفيافي بعد قحط نِعمُ

وعلى بغداد رفّت غيمةٌ أمطرت نبضا فقامت رِممُ

ورأيت الناس – كلّ الناس – لا مقلة تبكي ولا يأسى فمُ

ولا تضعف موقف الشاعر " النبوئي " كون نذر التغيير المقبل قد جاءت في صورة حلمية، فليست أحلام الشعراء محض أضغاث وأوهام، إنها رؤى " النبوّة " التي تعكس اختمارا مديدا وملتهبا في محتويات لاشعوره التي تختزن أوجه المحنة الشخصية والجماعية، وتتفاعل في أحشاء هذا اللاشعور لتنعكس منسربة في أحلامه، خيالاته ونصوصه، نصّ الشاعر هو حلمه . والحلم هو – حسب معلم فيينا – الطريق الملوكي إلى مملكة اللاشعور، والذي يتساءل عن أهمية القيمة العملية لدراسة الحلم قائلا:

(.. غير أنني أسمع سؤالا: وماذا عن القيمة العملية لهذه الدراسة من حيث هي وسيلة إلى فهم النفس وإلى الكشف عن الخصائص المختبئة للأفراد المختلفين؟ أليس للإندفاعات اللاشعورية التي يفرغها الحلم قيمة القوى الحقيقية في الحياة النفسية؟ هل لنا أن نستخف بالمغزى الخلقي للرغبات المكبوتة – وهي رغبات تولد اليوم الحلم ولكنها قد تولد كذلك أشياء أخرى يوما ما . إني لا أشعر بحق في الإجابة عن هذه الأسئلة: فما ذهبت خواطري إلى أبعد من هذا المدى . غير أنني أعتقد مع ذلك أن الإمبراطور الروماني قد جانب الصواب إذ أمر بإعدام أحد رعاياه لأنه حلم باغتياله . فقد كان أولى به أن يحاول أن يحاول الكشف عن معنى الحلم، وأغلب الظن أن معناه كان يختلف من ظاهره، ثم إنه لو كان ثمت حلم مختلف المحتوى ولكنه تضمن هذا المعنى الآثم تجاه الذات الإمبراطورية، أفما كان ينبغي أن نذكر قول أفلاطون: إن الرجل الفاضل يكفيه الحلم حيث يقدم الرجل الشرير على الفعل؟ (تفسير الأحلام – فرويد – ترجمة مصطفى صفوان – مراجعة مصطفى زوير – دار المعارف – القاهرة – ص601) .

ولكن حلم المبدع هو نصّه، فهل يحق للـ "خان " أن يقطع راسه من أجل هذه الأحلام النصّية الصارخة؟؟

المهم أنه على ركائز صور تمنيات الأبيات الثلاثة الأخيرة الباذخة من المقطوعة والتي يتخيّل فيها فردوسا هائلا سيعم ببهائه البلاد والعباد بعد ظلمات ضيم وطول معاناة جسيمة، يتأسس العامل الثاني من عوامل الإحباط الساحق، والذي يتمثل في كارثة الاحتلال . يقف الشاعر منكسر الروح ومهشم الوجدان ومسحوق الذاكرة وهو يرى وطنه الذي تحرر منذ ثمانين عاما يعود ليقع بين براثن مخالب الاحتلال الممزقة . يحصل هذا والعالم بأكمله، أو في معظمه يسير نحو التحرّر الناجز وطيّ صفحة الإحتلالات والكولونيالية . يحصل هذا في بلاده التي ابتكرت ولأول مرة في تاريخ البشرية مصطلح " الحرّية " وكان اسمها " أمارجي " بالسومرية وتعني العودة إلى الأم كما قلنا في مناسبة سابقة . ويبدو أن هذا هو الفهم الحقيقي لمعنى الحرّية التي يصفها أحد المفكّرين بحق بأنها – أي الحرية – تعني " الحياة بلا قلق "، والمكان الوحيد منذ خلق الإنسان، وعبر مسيرة البشرية المديدة الذي لا يعاني فيه الفرد من أي شعور بالقلق ويحيا فيه للمرة الأولى والأخيرة بلا مخاوف هو الرحم الأمومي / فردوس الهناءة الأول، ولذلك أشاد " أوتو رانك " نظريته في " صدمة الميلاد " على افتراض أن كل شقاء الإنسان الذي يواجهه في حياته ينبثق من قلق الإنفصال عن الرحم المنعم . ألم نقل أن الحضارة العراقية بمراحلها الخمسة – لاحظ أن العالم بأكمله فيه ثلاث حضارات قديمة – هي حضارة أمومية الطابع؟! . والمصيبة أن كارثة لا تقل هولاً قد هزّت أركان ذاكرة شعبه وهشمت مفاهيمه الجمعية التي تأسست عبر آلاف السنين عن الحرية والتحرّر . فحين يسأل الطفل العراقي أباه أو معلمه عن معنى كلمة التحرير في السابق سيجيبه مطمئنا بأنه مثل تحرر العراق في ثورة العشرين مثلا حيث كان الهدف كما هو حال التحرير عبر التاريخ التخلّص من السيطرة الأجنبية معبرا عنها بالخلاص من الجيش الغازي . أما أن يتغيّر مفهوم الحرية والتحرير وتصبح عودة البلاد إلى الاحتلال الأجنبي – وبعد ثمانين عاما من تحررها من هذا الاحتلال البغيض بعطايا الدماء والأرواح المباركة – فإن هذا مسخ لكل معنى وتقويض لكل مفهوم جمعي حول معنى الاحتلال والسيادة . وهذا ما يعلن السماوي فيه عن فجيعة مشروعه الحلم الذي بشّر به في سلسلة من الإحباطات المتكررة في نصوص متلاحقة . في قصيدة " إحباط " والتي كما قلنا يعكس عنوانها الدلالة الواضحة على ما قلناه يعلن الشاعر عن فاجعة مرعبة وهو يلقي نظرة الوداع على جثمان وطنه ويصور موت بلاده التي سوف تُدفن في مقبرة الطائفية:

(زرته كي

ألقي النظرة الأخيرة عليه

قبل دفنه

في المقبرة الطائفية – شاهدة ص 45)

وهذه صورة مباشرة هي التي أشرت – قبل قليل - إلى أنها قد تهدّد فنية قصيدة النثر، هي مقولة متواصلة ومتسلسلة لا تقطيع صوري أو نبري فيها، ولا لعب استعاري يشكل روح المجازفة اللغوية الشعرية . لكن السماوي الذي يمسك بثقة واقتدار بسرّ الفعل الشعري الذي يحول تراب اللغة إلى ذهب الشعر، يبدأ بتشخيص مظاهر مضاعفات هذا الموقف المَرَضية التي مسخت وجوده، فيستعير " علامات الترقيم " المعتادة ويجعلها بقدرة محكمة مشبهات بها يصوغها " تشكيليا " – وصار ارتباط الشعر بالرسم حقيقة راسخة ومعلما حداثيا يميّز الشاعر الحديث – ليستفيد من معاني أشكالها المظهرية ومن معانيها اللغوية المعبّرة عن فعل اندهاش اللاشعور البدائي – ولاشعور الشاعر هو الوحيد الذي يبقى بدائيا بين البشر وذلك في لحظة الخلق الرهيفة - .

... أقول أن السماوي استفاد تشكيليا من رسومات علامات الترقيم ليخلق سلسلة من صور التحولات الانمساخية التي أصابت شعوره باعتباره الذاتي وهو يقف مشيعا جثمان بلاده بنظرة الوداع . ولأن الثقافة مترابطة في مكوناتها، ولأن الأدب هو مفتاح من مفاتيح دراسة الشخصية القومية، فقد أحالني هذا " القبر الطائفي " الذي يتحدث عنه يحيى إلى التحذيرات الكثيرة التي أطلقها العلامة الراحل " علي الوردي " من أن الطائفية ستتفجر يوما في العراق وستبتلع كل شيء، وذلك عبر خمسين عاما من عطائه الثقافي، وهذا ما أثبته في مخطوطة كتابي " ورديات " والذي سوف يصدر بعد وفاة الكاتب إن شاء الله . ويقدّم السماوي هذه السلسلة " الترقيمية " لمراحل التشوّه الوجودي في حلقات مترابطة تنطلق من علامة التعجب لتمر بعلامة الاستفهام وعلامة الفارزة لتنتهي من خشية الإنكماش الختامي والمميت في علامة النقطة:

(دخلتهُ

وأنا منتصب القامة

مثل علامة التعجب

تجولت فيه

وأنا منحني الظهر

مثل علامة الإستفهام

فغادرته

وأنا ضئيل

مثل علامة الفارزة

خشية

أن أنتهي مجرد نقطة

في كتاب مقبرة

ممسوح السطور – شاهدة، ص 45و46) .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1310 الاحد 07/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم