قضايا وآراء

ثقافة المسلم الشيعي في عالم مضطرب (1)

 لقد وضع علماء الاجتماع عشرات التعاريف للثقافة، الأمر الذي حدى بالكثير من مدارس علماء الاجتماع إلى حذف مادة تعريف الثقافة من الدراسات الاجتماعية، ولكن نحن هنا نريد أن نطرح منهجا ثقافيا عمليا، منهج تدبير، منهج مواجهة، تدبير المعاش، مواجهة ضغوطات الحياة، والزمن القاسي، وتكالب الاعداء، وعاديات المفاجآت التي لم يعد من السهل التحكم بها، وهذا كله من صلب الثقافة في تصور الكثيرين، إنها ثقافة الخبز النظيف، والمهنة الشريفة، والوظيفة المؤمِّنة، واللباس المناسب، والبيت الآمن، والماء الصحي، والدواء المأمون، والمدرسة الممتازة، والاسرة الناجحة، ووسيلة المواصلات البسيطة ...

وبصراحة ربما مذهلة وصادمة ...

هناك من يقول إن هذا ثقافة، بل هذا هو المقصود من المصطلح فيما اردنا أن نسبر الكثير من التصورات والافكار المطروحة عن الثقافة، وعلى هذا المنوال نمضي .

إنها الثقافة التي يغلب العملي فيها على النظري، لا يعني هذا إننا ضد الثقافة النظرية، فيما يتعلق بالعقائد، أو فيما يتعلق بشؤون الحياة، والنظر الى الوجود، ولكن نهدف هنا الى الثقافة التي تشق لنا عملا وتعليما في خضم الحياة، ثقافة الممارسة، وثقافة العمل، و ثقافة المبا شرة ... ثقافة الميدان بكل معنى الكلمة .

إنها الثقافة التي تغلب فيها هموم الحياة على هموم الفكر الخيالي، على هموم الفكر الترفي، على هموم المعادلات الفلسفية المستعصية، ليست ثقافة تعلمنا فلسفة العقل، بل ثقافة تعلمنا كيف نستعمل العقل، ليست ثقافة تمجد سحر المعرفة، بل ثقافة تعلمنا كيف نوظف المعرفة، هناك صراع عالمي حول المعرفة، لأن المعرفة قوة، وهي قوة لانها تُستخدَم، تُسخَّر، تُجيَّر، نريد ثقافة توظيف، ثقافة توجيه، توجيه في خضم السجال من أجل لقمة عيش كريمة، من أجل سرير مريح، من أجل بيت مستوف الشروط الصحية ....

ولكن !

أين نضع الروحي والزمني هنا؟

أن اللذة المادية في نطاق التعاليم السماوية والاخلاقية ممارسة روحية، نحن نبيع ونشتري، فإذا ما كان بيعنا وشراؤنا حلالا، شرعيا، مستوفيا شروط الشرع، نكون قد مارسنا عملا روحيا حتى إذا كانت ارباحنا خيالية، نحن نمارس الجنس، فإذا ما مارسنا هذه الغريزة كما يريد الله، نكون قد استمتعنا جسديا ولكن في نطاق روحي، أنه استمتاع مادي بحت، ولكن في نطاق روحي، هو عمل مرض عند الله، وربما نُثاب عليه كما تنص الروايات الشرعية .

نريد ثقافة جديدة، ثقافة عمل، ثقافة حرث، ثقافة إنتاج، ثقافة صراع مع هذه المخاطر التي تهدد وجودنا ... مخاطر سياسية ... مخاطر اقتصادية ... مخاطر طائفية ... مخاطر تسلطية ... مخاطر صحية ... وما أكثر المخاطر التي تواجه المسلم الشيعي اليوم؟ بعضها يشترك بها مع غيره، وبعضها تخصه بالذات !

أليست هناك ظاهرة يمكن أن نسميها بظاهرة الفقير الشيعي؟

أليست هناك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة اليتم الشيعي؟

أليست هناك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة العزل الشيعي؟

أليست هناك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة الشك بالجواز الشيعي؟!

أليست هناك ظاهرة يمكن أن نسميها ظاهرة الشك بذبيحة الشيعي؟

وما أكثر هذه الظواهر !

آلاف القتلى من الشيعة في افغانستان والعراق وباكستان، وهؤلاء القتلى خلفوا آلا ف اليتامى والأرامل والضائعين والمشردين والسائبين، والمسافر مجرد أن عُرِف بأنه ينتمي إلى مدرسة آل البيت يخضع جواز سفره في كثير من بلدان العالم خاصة العالم الإسلامي إلى الشك ... الفحص ... التمعن ... التساؤل ... الغمز ... اللمز ... الابتزاز ...

الفقر ظاهرة واضحة في المناطق الشيعية في العراق، في البحرين، في السعودية، في مناطق كثيرة من بلدان العالم الاسلامي، لا ينفع الشيعي أن يستحصل لقمة عيشه من بيت المعصوم عليه السلام، ولا ينفع الشيعي أن يكون راتبه الشهري بسبب رشاشة يحملها، هذه ليست مصادر عيش حقيقية، إنها معرضة للخطر .

هل هي صدفة أن تمتلأ مياتم لبنان ومياتم العراق بالشيعة دون غيرهم، في ليلة واحدة يُقتل (15000) شيعي أفغاني في (هرات)، لا ندري ما الذي حلّ في أراملهم وأيتامهم؟

ليست هي جريرة العقول المتحجرة والقلوب القاسية وحسب، بل ربما نشارك نحن في الجريرة أيضا، وإلا هل ثقافة الا ستشهاد غير المنضبطة بضوابط العقلانية والشرع والدقة وا لموضوعية بعيدة عن مثل هذه النتائج المخيفة؟ هل إن ثقافة (إنتصار الدم على السيف) حقيقة أزلية لا تنخرم في مناسبة واحدة على أقل تقدير !

نسمع، نقرا، نكتب (الدم ينتصر على السيف)، ترى هل هو قانون أ زلي، نازل من السماء، وهل يعني ذلك أن نكون ثوارا طوال حياتنا ؟

هل يرضى أهل البيت عليهم السلام أن نكون أشلاء على الدوام ؟

لماذا خلق الله الحياة إذن ؟!

 

نعود الى صلب القضية ...

نريد ثقافة تدبير، تدبير المعاش، في زمن عسر فيه التدبير على من يجهل قوانين التدبير، معركة التدبير، إنها المعركة الضارية من أجل الخبز ...

في نص لأمير المؤمنين عليه السلام أو لأحد أئمة أهل البيت ( منْ لا معاش له لا معاد له)، وهي الرواية التي طالما نتحدث بها، ونحدِّث بها، ونستشهد بها، ولكن ترى أي معنى عميق تحمله هذه المعادلة الخطرة؟

منْ هو هذا الخائب الذي لا معاد له؟

في صلب المعادلة يكمن الجواب، إنّه ذلك الذي لا معاش له، ولكن ما معنى (لا معاد له)؟ بكل وضوح إنما يعني لا (دين له)، دينه يعاني من الارتباك، من القلق، من التذبذب، من الشك، لأن بطنه خاوية، والأثر يقول (البطون الخاوية لا تحمل المعاني السامية) !

لنمعن النظر في قوله (لا معاش له)!

أي معنى يحمل هذا الكلام الجميل ...

المعاش هنا يتعدى المستوى الاقتصادي بلحاظ مذخوري ومخزوني من النقود، إنه أعمق من ذلك، المعاش هنا المصدر الآمن، المصدر الذي أرجع إليه، يمدني، يسعفني، لا ينضب، يبارك الله فيه وبعطائه، ويُقال إن أمير المؤمنين قال: (صاحب منهة لا يجوع)!

هل صدر ذلك حقا عن أمير المؤمنين ؟

لنفترض أ نها كلمة منسوبة لسيد العابدين عليه السلام وحسب، ولكن واقع الدين، وخطاب القرآن الكريم، وأحاديث اهل البيت عليهم السلام تعطي مثل هذا المعنى العميق .

قال : (منْ لا معاش له لا معاد له)!

ولكن المعاش معركة ... سجال ... صرا ع ... علم ... زحام ... تزاحم ... تنافس ... فنون ... نظريات ... وعليه، ليس من لا معاش له لا معاد له، بل منْ لا يجيد ثقافة التدبير لا معاد له، فإن المعاش اليوم تدبير، وما أصعبه من تدبير !

خاصة بالنسبة للمسلم الشيعي، وفي كل مكان !

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1311 الاثنين 08/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم