قضايا وآراء

ثقافة المسلم الشيعي في عالم مضطرب (2)

تصور أعمق نقول، الوظية أو المهنة التي تؤمِّن لي حياتي اليومية ...

وكفى ..

تؤمِّن لي حياتي اليومية بالفعل أو بالقوة ...

وكفى ..

عقار ضخم ... وظيفة محترمة ... قطعة أرض زراعية ... مهنة ذات مردود جيد ... إذن يكون المسلم الشيعي قد أمن معركة التدبير، فهو لم يعد بحاجة إلى صدقات ولا بحاجة إلى اسعاف فوري من هذا الصديق أو ذاك، بل من دولته وحكومته ... ربما يملك بيتا مريحا، وربما يملك ما يسعفه فيما تعرض لمرض خطير، فهو متمكِّن !

يبدو لي أن مثل هذه التصورات متأثرة بمدى ضيق لما يمتد إليه معنى (تدبير المعاش) في هذا الزمن الذي ميزته أنه معقد للغاية .

لقد كانت لغة المعاش عبارة عن لقمة يوم واحد، ربما تتجدد أو لا تتجدد، زيادة مخجلة أو نقصان مثير للقلق، لباس يستر ما يمكنه أ ن يستر، مأوى يحمي يلجأ إليه صاحبه طلبا للراحة من أجل يوم جديد مشحون بالكد من أجل ذلك الدخل شبه الثابت .

لا ...

المعاش اليوم معادلة مركبة، وبذلك يجب أن نشن حملة شعوى على تلك الروايات التي تدعو الانسان أن يكتفي بقرصيه وثوبيه ونعليه، لأن الدنيا عالم البوار والفناء، ناسيا أن معنى المعاش أرحب وأعمق من ذلك، كما أن [ من لا معاش له (بالمعنى الحقيقي) لا معاد له (لا دين له) ]...

وللتذكير ...

لقد كُتِب الفقر على المسلم الشيعي في العراق لأسباب لا مجال لبيانها الآن، فماذا كانت النتيجة؟ الفقر ذاته استمر، وأنتج أجيالا من الزبالين والكناسين والجرخجية وشرطة الامن ونزاحي البالوعات ونواب عرفاء، وكان الآخرون يقولون عن (عقد) الهوى الساقط في بغداد (عقد النجفي) !

ذلك أننا فهمنا لغة المعاش بانها لقمة اليوم لا أكثر ولا أقل ...

لم يخرج علينا (لوثر) الشيعة كي يحطم هذه الافكار الجهنمية، كان نموذج (كالفن) هو السائد في الوسط الشيعة ... ثقافة القبر ... ثقافة الدم ... ربما نحزن لاننا لم نكتشف مقابر جماعية جديدة، وإذا اكتشفنا نحزن أ كثر وأ كثر.

كذلك الامر من المسلم الشيعي البحريني ...

ليس على نحو الشمول المطلق أ قول، ولكن هذه هي الثقافة العامة، ثقافة الروايات المكذوبة على أهل البيت عليهم السلام ..

إذن ما هي المعادلة الحقيقية للمعاش في هذه الايام؟

المسلم الشيعي ينبغي أن يؤمِّن ما يلي: ــ

أولا: إنتماء عقدي يضمن للمسلم الشيعي هدفيته في الحياة، إ نتماء عقدي واضح، سلس، بعيدا عن التفاصيل المملة، يستند إلى قناعة عقلية وا طمئنان روحي، والتشيع الذي هو لدينا أفضل فهم للإسلام قد أشبع هذه الحاجة، ولست من أنصار التفاصيل هنا، التفاصيل تقتل أو تضيع ثقافة المعاش، تزاحمها، ومن ثم حقا لو قالوا: الشيطان يسكن التفاصيل . التفاصيل لها أهلها وحسب .

ثانيا: مصدر عيش كريم، مهنة أو وظيفة،، أي مصدر شريف، من شأنه تأمين حياة كريمة تليق بالا نسان، إنسان هذا الزمان، مقايسة بواقع ومستويات تحقيق الذات المكتفية في ضوء الظروف والمقاسات الاجتماعية والعرفية السائدة، ولكن ذلك لا يمنع الزيادة في الطموح بطبيعة الحال، وثقافة المعاش اليوم تتضاد مع مبدأ (القناعة كنز لا يفنى)، لأن العالم مسكون بلغة الصراع، في شتى أشكاله وأساليبه .

ثالثا: هواية شريفة من شأنها تنمية الذات، وتوكيد الشخصية، وتطوير العقلية، فلم تعد الهوايات مجرّد هوايات، بل هي ضرورة وحاجة فعلا، ليس لقتل الوقت أو الفراغ كما كنا نسمع، فتلك معادلة متدنية في ميزان الفكر الحديث، بل لدخول التاريخ، والتعامل مع الحياة، بوعي وسعة، وملامسة حركة التاريخ، مهما كانت هذه الهواية بشرط عفتها، وسلامتها من المردود العكسي على تطور الحياة، وشحذ الاذهان، ودفع الا رادة باتجاه اثبات الذات اكثر وأعمق وآكد .

هل نعلم أن التطبيب بلا حدود هو هواية أقرب منه إلى كونه مهنة؟!

وهل نعلم أن محاربة التدخين أصبح هواية تسمح بقراءة الجغرافية بدقة ووعي وفهم ومسؤولية؟

وهل نعلم أن هواية جمع الطوابع تحمل في طياتها ثقافة بشرية وأنثروبولجية عميقة الجذور؟

رابعا: إنتماء جماعي، جمعي (حزب ... منظمة ... فريق رياضي ... جمعية ... تجمع ...) لا يهم الحجم بمقدار ما يهم واقع تنمية الفردية، وتعميق روح الحوار، وتحبيذ العمل الجماعي، والانشداد إلى المُنجَز التعاوني، وكلما كان الهدف في ذات الوقت خيرا ــ يفيد المجتمع، ويساهم في حماية الاخلاق، وتنمية الطاقات، وتحجيم المشاكل، وخلق الفرص الخيرة للناس ــ يكون هذا الانتماء اجدى وأنفع .

خامسا: ثقافة اجتماعية نيرة، يستعين بها المسلم الشيعي على الاندماج بالمجتمع، وتمكِّنه من أن يشارك نجما لامعا، ونقطة اشراق، وليس مجرد مستمعٍ متلقٍ، لا يأبه بما يجري، وبما يمضي، كالجدار الاعمى، أو دمية لا تملك من أمرها سوى الاستماع السلبي الميت .

سادسا: شبكة علاقات اجتماعية واسعة بحدود إمكانية الحفاظ عليها، وتنميتها على طريق تطوير الذات، وتجذير الحضور الاجتماعي .

سابعا: ثقافة إجمالية عن الحياة، ومشاكلها، ثقافة إجمالية عن شؤون العالم، ثقافة إجمالية في معارف شتى يختارها المعني بالموضوع، حسب قدراته، وميله، وذوقه، وأجوائه، كأن تكون في التاريخ أو الجغرافية او الصحافة أو الفيزياء أو المسرح، أو السياسة أو الترجمة، أي فرع معرفي آخر، ثقافة ليست موسوعية، ليست ذات فروع وشعب، بل ثقافة تعين على التدبير، وتمكّن الإنسان من إثبات وجوده، وإعلان هويته باعتزاز واقتدار .

ثامنا: ثقافة المهارات الحياتية الضرورية، هل يتصور بعضنا ـ حقا ـ أن إجادة (زرق الابر) عبارة عن فن بسيط وعابر وعلم مبذول تافه، ولا يعبِّر عن ثقافة؟ وهل يتصور بعضنا أنها حاجة هامشية؟ هل يتصور بعضنا إنها بمزلة الواجب الكفائي؟ ليست هذه الاحكام صحيحة في تصوري، تماما كما هي القدرة على قيادة السيارة، وتجليد الكتب، وكي الملابس، وطهي الطعام ... ليس هذا الفن البسيط العابر واجبا كفائيا في سجال اليوم، إنّه سجال مخيف، حول هذا الفن العابر الهامشي إلى حاجة في صميم اليومي، في صميم الوا قع ...

هذه مهارات (ثقافية) مهمة وضرورية، وربما لا أ غالي إذا قلت أنها تدخل في منظومة ثقافة التدبير في زمن السجال، السجال بين (أهل !) الا ديان والطوائف والقوميات، بين الاقوياء والضعفاء، في زمن النفي المتبادل للاسف الشديد، في زمن الانحياز الزائف بدل الانحياز الحق .

تاسعا: ثقافة الهم المصيري، فإن شخصية المسلم الشيعي لا تكتمل دون أن يحمل هموم أبناء وطنه، وخا صة أتباع خط أهل البيت عليهم السلام، هو شخص مهموم، ولكن الهم يزيد من عزيمته، ويزيد من طموحاته، يعمل بجد ونشاط في مواجهة اسباب هذا الهم، وفي سياق البحث عن علاج .

عاشرا: ثقافة إجمالية عن تاريخه وانجازاته، على أنْ لا يتصور أنّ هذا التاريخ قطعة ذهبية، وسيل من الانجاز الناجح، ففيه الصحيح والخطا، وينطوي على المُفرح والمُحزن، ويتناوب عليه النوري والمظلم، كأي تاريخ بشري .

عاشرا: ولأن السياسة اليوم (تموضعت) في كل شيء، حتى غدت مقدمة تعريف بالاشياء والعلوم والمشاريع، فيقولون (سياسة الحكومة)، (سياسة المنظمة)، (سياسة المدرسة)، (سياسة التبضع)، (سياسة الاعلان)، (سياسة الكرة)، (سياسة المدير)، فإن ذلك يدعو المسلم الشيعي أن يتزوّد بثقافة سياسية شفافة، تمكنه من التحليل السياسي، لا أقول على وجه الدقة والصرامة، بل على وجه الفهم العام، كي يتخذ موقفه الشخصي، وينفع به مواقف أهله وحاضنته البشرية، وليس من شك أن ذلك من صلب ثقافة المعاش اليوم، من صلب ثقافة الممارسة، ثقافة الفعل .

هذا في تصوري مجمل سريع عمّا يجب أن يتمتع به المسلم الشيعي من قدرات وامكانات وعدة كي يخوض معركة المعاش، في زمن معركة المعاش حقا .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1313 الاربعاء 10/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم