قضايا وآراء

ثقافة المسلم الشيعي في عالم مضطرب (3) مصادر الاستمداد !

صلابة موقعه في التاريخ يحس بالهزال، معركته عزلاء، غير قادر على اقتحام صعوبات الحياة بشراسة وإدامة وعنفوان، هل للمسلم الشيعي من مصادر استمداد تمده بزاد المسيرة الصعبة في خضم الحياة الصعبة، وهو يعاني من اتفاق دولي وأقليمي على عزله وتكبيله وتحطيمه؟

نعم !

ولكنها غير مستثمرة، أو هي مستغلة من قبل بعض محيطه لتهميشه وتحطيمه، أو هي مستثمرة من الآخر بدقة رائعة للتنكيل به !

المصدر الأول: هذه العقيدة البسيطة، عقيدتنا في الاسلام قبل ما طرا عليها من دخيل، ومعقد، وصعب، وخيالي، وفي تصوري تتجسد جوهريا ـ بعد توحيد الله ونبوة المصطفى ـ في نقطتين، هي الالتزام بفقه أهل البيت عليهم السلام والايمان بالغيب المهدوي الجميل، ويكفي لمذهبنا من فخر الأصالة انتسابه للأطهار محل حب واحترام كل المسلمين، ويكفي أنه يزرع الامل في وجدان التاريخ، وهذه التركيبة البسيطة تؤهله لسيادة الساحة العالمية بلا منازع، وتصدِّع كل محاولة لعزلنا، وكل محاولة لضرب طوق الموت على رقابنا، بحجة أو أخرى .

المصدر الثاني: هذه الجغرافية الإسلامية الشيعية الممتدة من أعالي آسيا تخترق إيران وتمضي بسلاسة وتواصل حميم عبر الشام الكبير، وتتوزع من هنا وهناك على جوانب المتوسط والبحر الاحمر على شكل نقاط فاعلة وحساسة ومثيرة، وتتجاوب مع بحيراتها المنتشر في مناطق متنوعة من جغرافية العالم، وقد استثارت الجغرافية (الهلالية الشيعية) خوف سياسين كبار، وأنظمة عالمية، لأنها تشكل قلب العالم الاسلامي الاقتصادي، ففيها النفط، والارض الخصبة، والكثافة البشرية، والتاريخ المشرق، والتداخل الاجتماعي، والتواصل الحضاري، وللاسف الشديد، ليس هناك من يدرِّس أبنائنا خصائص ومزايا وأبعاد هذه الجغرافية ودورها في صناعة العالم من جديد، وليس من شك إن معرفة ذلك والتفاعل معه سوف يشكل أحد أهم مصادر الاستمداد بالنسبة للمسلم الشيعي وهو يخوض معركة المعاش .

هذه الجغرافية إذا ما تحوّلت إلى ثقافة في ضمير المسلم الشيعي تتحول إلى أ مل، وتتحول إلى دافع حيوي من أجل المعاش وعلى أفضل المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فيما نصطدم بمفارقة غريبة في الواقع للاسف الشديد، حيث يعاني المسلم الشيعي من فقر وحرمان في جغرافيته الغنية هذه، فيما الأخرون ينعمون بخيراتها ونفطها ومائها على درجات متقدمة من المُكنة والتمكّن والحيازة والتصرف والاستفادة !

هل هي إلاّ حقيقة يعاني منها المسلم الشيعي في العراق؟

وهل هي إلاّ حقيقة يعاني منها المسلم الشيعي في السعودية؟

وهل هي إلا حقيقة يعاني منها المسلم الشيعي في الاهواز؟

أمثل أضربها كي تتضح الحقيقة، وما علينا سوى استجلاء وا قع هذه الجغرافية مع دراسة مقارنة موضوعية لموقع إنسانها من خيرا تها وبركاتها، إنسانها المتكثر، المتسيِّد على الصعيد الديمغرافي الذي هو المسلم الشيعي .

المصدر الثالث: ما قدمنا للتاريخ، ولكن يجب أن لا نبالغ ونغالي ونتبجح، هذه قضية يجب إجلاؤها بدقة وموضوعية وفن وعلم، ومن ثم تقديمها زادا ثقافيا لكل مسلم شيعي، وهو يخوض معركته الشرسة من أجل المعاش، فإن هذه الثقافة سوف تزوده بزخم الحق، حقه في الحياة، وحقه في المعاش، هذا الحق الذي حُرِم منه، وما زال محروما منه، المعاش الكريم، المعاش الذي يتناسب مع كونه إنسانا، وكونه ابن ذلك التاريخ الحي، التاريخ النشط .

إن التاريخ ذاكرة الامم، هذا ما تقوله النظريات القومية، ونحن هنا نريد من تاريخنا أنْ لا يكون ذاكرتنا وحسب، بل نريد أن يكون سلاحنا في معركتنا من أجل المعاش الكريم، والغريب أن بعضنا حول تاريخ الاستشهاد الاسلامي الشيعي إلى قانون تضحوي في سبيل الغير، باعتباره قدرا لا ينخرم، والغريب أ ن بعضهم حوّل تاريخ الجهاد الإسلامي الشيعي في تأسيس دولة العراق إلى شريعة استخفاف بالدولة والحكم، والغريب أن بعضهم جيَّر روح الاستشهاد والجهاد الإسلامي الشيعي الى حربة في صدر المسلم الشيعي بالذات، بحجة الوطنية تارة، وبحجة الاسلام تارة أخرى، وبحجة الوطن الاسلامي الكبير بحجة ثالثة، وهكذا حولنا مصادر إستمدادنا التي يمكن أن نستمد منها القوة والعزم على النهوض الاقتصادي والاجتماعي وا لروحي لشيعتنا إلى مصادر قتل وتدمير وتخريب وتقهقر وفقر ومسكنة وتخلف !

أية منعكسة تماما !

المصدر الرابع: (الكم البشري)، فنحن لسنا عددا قليلا، بل نحن أمة ممتدة في طول العالم وعرضه، نشكل أكثرية في بلاد مهمة من العالم الاسلامي، ونشكل مستوى وسطا من (كم) دول كثيرة، ونشكل اقليات قوية نشطة في بلدان أُخرى، وأعتقد أن تعريف أو تحويل هذا الكم البشري إلى مصدر شعور بالقوة والحيوية والحضور يفيد في شحن الطاقة لخوض معركة المعاش، ألم تخف أمريكا من تزايد عدد المسلمين رغم ما في هذا العدد من غث وهم وغم وتخلف؟

إنّه الخوف من هذا الكم بحد ذاته، أن يتحول إلى طاقة دافعة، إلى إيحاء بالقوة، ومن ثم، يتحول إلى دافع لخوض معركة المعاش با قتدار، وشراسة، وحق، نحن لم نتعامل لحد هذه اللحظة مع هذا الطوفان البشري الإسلامي الشيعي بايجابية، هناك نسيان لمصدر الإمداد هذا .

أكتفي بهذه المصادر الاربع، وهي كافية لئن تحفز في داخلنا كرامة الحضور، وقوة الكفاح من أجل المعاش الكريم، وارى أن يتولى أصحاب القرار الشيعي قراءة هذه المصادر، ومن ثم، تقديم دراسة عميقة لها، ومن ثم، تقديمها مادة تثقيفية بلحاظ إنعكاساتها على مستوى بناء الشخصية الشيعية، في سياق هذا اللهاث المزدحم من أجل المعاش، المعاش بجوهره المادي وجوهره المعنوي !

الحلقة الرابعة

ثقافة المسلم الشيعي في عالم مضطرب

تدمير ثقافة التدبير !

ثقافة التدبير شائعة في فقه أهل البيت، في روايات اهل البيت عليهم السلام، فنحن نقرا وما أ كثر ما نقرا عن فضل التُجار، وفضل الصنَّاع وفضل البنّاء، وفضل الخباز، وفضل النجار، وفضل الحداد، ونستشهد على ذلك بمهن الانبياء عليهم السلام، فهذا النبي كان حدادا، وذلك كان راعي غنم، وآخر كان نجارا ... الأئمة يسشتهدون بذلك، والاستشهاد في سبيل الحث على المُستشهَد به، أي يحثونا أن نمتهن النجارة والحدادة والتجارة ... ولا نلتفت إلى ما تَصفُ به بعض الروايات بعض المهن، بتلك الأوصاف التي تتناقض مع شرف العمل، وشرف الإنتاج، فتلك روايات مكذوبة على هؤلاء الاشراف الطيبين، فمهنة (الحياكة) تقي جلود البشر حر الصيف وبرد الشتاء، وتقي عواراتنا من الفضيحة والقبح، فكيف يصف الإمام عليه السلا م صاحبها ومبدعها بتلك النعوت السيئة اللفظ، المتدنيِّة الفكرة، ومثلها مهنة ( القصابة)، تُرى من يقول أن القصابة تقسِّي القلب؟ هذه أفكار لا أتصور أنّ لها مصداقية من وحي الحياة، وليس لها من نصيب التجربة ما يؤيد أو يسدد، ومن قال أن معلم الأولاد رائد السفاهة وربيب التخلع والصبيانية في الفكر والمزاج، فهل هو غير المعلم يخرِّج الاجيال، ويحمي الضمائر من تخريب أهل السوء والبذائة، وهل هو غير معلِّم الصبيان يرسم لهؤلاء الصبيان المستقبل؟! ومن قال أن مهنة الزرع دلالة العجز الفكري، وعلامة على تردي الإرادة صوب ما يشحن همتها بالمزيد من رقي العطاء، ومزيد من رقي المهنة والممارسة؟! هل نأكل إلاّ من يد الفلاح والزرّاع، وهل القرأن الكريم يحث على حرث الارض وزرعها أكثر من أي ممارسة أخرى؟

أن ثقافة التدبير تستوجب منا أن نحترم كل المهن، مادامت في نطاق الإذن الشرعي، وما دامت تؤمِّن كرامة اليد من شر ومهانة الاستجداء، وتصون وجه صاحبها من إبتذال التخنع والتصنع لهذا البرجوازي القذر أو ذاك، يتسكع أبواب الجوامع ينتظر يقظة ضميرفي لحظة، ربما لن تعود فيما بعد أبد الآبدين .

لقد شكلت هذه الثقافة البائسة عقلا شيعيا متكاسلا، لا يتفاعل مع مفردات الحياة بموضوعية وفاعلية ونشاط، وليس لأحد أن ينكر ما لهذه الثقافة الهابطة من أثار سلبية على العقل الشيعي، فهذا أمر طبيعي وإن لم تظهر آثاره علنا .

وهذا اللون من التدمير، الذي يصب سلبيا وبشكل مباشر في صلب ثقافة التدبير، نجد إلى جانبه لونا آخر، أنه مكروهات الزمن المزعومة، فهذا اليوم يُكره فيه السفر، وذاك اليوم يُكره فيه العمل، وغيره يُكره فيه الزواج، وما إلى هنالك من أفكار وتصورات تجني على قدسية الزمن، وأهميته في الحياة، والفلاسفة يقولون أن الزمن إحدى مشخِّصات الشيء، فيا له من حظ (شيعي) تعيس !

هذه الأفكار تتعارض مع روح القرآن الكريم، وتتعارض مع روح الامام الكاظم الذي كان يتكيء على متني غلامين له يهرس الطين بقدمه لكي يعيش، ولا يتكسب ايادي الآخرين، والكاسب كما يقولون (حبيب الله) بل في رواية أن الله تعالى يغفر لمَن يكل متنه من الكسب في سبيل عياله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

تدمير ثقافة المعاش .... فكرة ... وزمنا ... وعضلة ... وعقلا ... وحاضرا ... ومستقبلا ... شخصا ... عائلة ... مجتمعا ... طائفة ... تدمير الحياة بكل معنى الكلمة .

ثقافة تدمير المعاش يجب أن تقابلها أو تواجهها ثقافة تدبير المعاش، نملك من الروايات والآيات التي تكسح هذه الثقافة التدميرية بشكل قاطع، فلماذا لا نربي عليها؟ نثقف عليها؟ نشحن بها إرادة المسلم الشيعي؟ من على المنابر، في المساجد، في الكتب، في النشرات، في المحاضرات ...

هناك تقصير هائل في نشر هذه الثقافة ...

نعم، هناك نشر فوضوي مخيف لثقافة الدم، والدم وحده، مراجعة بسيطة لخطب الجمعة وهي الخطب التي يجب أن تعبر عن روح الجماهير وإ رادتهم وطموحاتهم، سنرى أنها عبارة عن قطعة من (دم)، أ وقطعة من (رثاء)، أو قطعة من ا سترجاع الماضي (التليد)، أو قطعة من المدائح والمناقب وكأننا لم نسمع عن منا قب النبي وآله الكرام !

ثقافة المعاش تكاد أن تكون مختفية في خطب الجمعة، خطبة الجمعة عبارة عن أخلاق مجردة، أو سياسة مشبعة بالوعد والوعيد والتحليل الذي كثيرا ما يخطئه الواقع، يخرج المصلي من خطبة الجمعة وهو لا يملك حماسا لتوسيع قطعة أرضه المزروعة، ولا لتطوير صناعته، ولا لحث ولده على إيجاد عمل يقيه شر البطالة وشرور نتائجها، ولا هو متحمس لتشغيل باقة من العاطلين في مشروع اقتصادي ... يخرج إما خائفا من نار جهنم أم مسرعا إلى التفلفاز لعله يقع على خبر دموي جديد، أو يسمع عن اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، لا أقول ذلك بالمطلق، ولكن هذه هي ثقافة منبر الجمعة بشكل عام، كذلك هي ثقافة المنبر الحسيني بشكل خاص، وكما قلت ليس على نحو المطلق بل على نحو النسبي .

إن ثقافة تدمير التدبير تحتاج إلى ثقافة التدبير حقا، نريد أن يحتل التذكر محل النسيان، ويحتل الامل محل الياس، ويحتل التطلع محل الفرار، وتحتل المسؤولية محل الهروب، تلك هي ثقافة التدبير، وما أكثر روايات اهل البيت التي تحثنا على أن نحترف حرفة التدبير، لأنها مدخل الحياة، وبدونها نكون عبيدا لغيرنا .

أن ثقافة التدبير ليست موعظة سريعة، بل تبني، تعليم، تدريس، تمكين، محاورات، لقاءات، محاضرات، حث، متابعة، إ نها عملية تبني بكل ما يعني التبني من دلالة واسعة ...

كيف؟

يجب أن نكوٍّن جمعيات وتجمعات لنثقف على ثقا فة التدبير، لابد أ ن يكون لدينا منهج بل مناهج حول ثقافة التدبير، ومن ثم، يجب أن تتحول هذه الثقافة إلى سلوك، ليس بإلقاء المسؤولية على الفرد، بل أن تكون هناك خطط لتحويل ثقا فة التدبير من أفقها النظري إلى أفقها العملي، ولكن قد يسال البعض ويقول: ــ

هل هذا ممكن؟

نعم ممكن، فيما اخذ أصحاب القرار الشيعي ذلك على عاتقهم، بوضع الخطط العملية المباشرة، ولنا في المساجد، وفي الحسينيات فرص رائعة لمد الناس بثقافة التدبير عمليا، أو نفتتح لذلك النوادي والمقرات .

ما هو موقف شباب آل محمد وهم يقرأون دعوة لتعلم الطباعة؟ وما هو موقف هؤلاء الشباب فيما قراوا دعوة لتعلم زرق الابر؟ وما هو موقف هؤلاء الشباب لو قرأوا عن مشروع لتعلم تصليح الدراجات الهوائية؟

هناك (دكاين) لتلعيم اللطم، ولتعليم ضرب الزنجيل، ولتعليم ضرب (القامة)، دورات علنية، ومقابل مبالغ من المال، يتهافت عليها شباب الشيعة، بل أطفال الشيعة، فيما ليس هناك دورات لتعليم الاسعافات الاولية، وليس هناك نوادي لتعليم الخياطة السريعة، وليس هناك مدارس لتعليم الحاسوب بشكل واسع ومتميز وعملي ومنتِج تحت رقابة صارمة ووفق نظام تعليمي مسؤول، ليس هناك مشاريع لتعليم هؤلاء الشباب كيف يختارون المكان المناسب فيما إذا أرادوا فتح مشروع اقتصادي ...

تدمير التدبير مقابل ثقافة التدبير، هناك مساحة كبرة من مسيرة التدمير، هناك محاولات خجولة في مجال ثقافة التدبير ...

وهناك من يجني الثمار، من بعيد، من بعيد يجني الثمار ...

يتبع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1315 الجمعة 12/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم