قضايا وآراء

إشكالية الحداثة في الشعر السياسي .. يحيى السماوي أنموذجا (3)

من خلالها ملتحمة بكلّ شكلها اللفظي وليس بأجزائه . ففي قصيدة " هذيان لا يخلو من حكمة " – في المقطع الرابع منها – تأتي صفتان متناقضتان هما: أوسع وأصغر، وهما طباق إيجاب، ولكن السماوي يضعهما في سياق صورتين شعريتين لا يمكن أن يكتمل دورهما الطباقي دون أن يكونا جزءا من كلّ يقلب دلالتهما إلى ما يعاكسها:

(آه ... ما أوسع وطني

كيف اتسع

لكل هذه المقابر الجماعية

السجون

الجيوش

المرتزقة

الدجالين

اللصوص

والسفلة؟ آه ... ما أصغر وطني؟ كيف أصبح منديلا في جيب سفير؟ - شاهدة، ص 40و41) .

أعتقد أن الطباق الشعري تختلف مواصفاته عن الطباق النثري .

أما في مجال الثنائيات الجناسية، فهي قد تأتي " معنوية " بمعنى أن التكامل الجناسي لا يقوم على تطابق الشكل الحروفي كجناس تام (قال تعالى: يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) (سورة الروم / الآية 55)، أو كجناس ناقص (قال تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) (سورة الضحى / الآية 26) . ولكنها تستند إلى تكامل المعنى . هذا ما نراه في نصوص كثيرة جدا للشاعر مثل قصيدته: " كي نغفو مطمئنين دون كوابيس ":

(ستبقى حقولنا حطبا لمواقدهم

وصدورنا هدفا لرصاصهم

وسيغدو ربيعنا مأوى للخريف

ما لم نتحد اتحاد:

العطر بالوردة

الجذر بالطين

الخيمة بالوتد

والعلم بالسارية

وما لم نحصّن:

أنهار مسيرتنا بسدود اليقين

بصرنا بالبصيرة – شاهدة، ص 120و121) . كما أنها قد تأتي بصيغة جديدة كجناسات " مشهديّة " إذا جاز التعبير في الصورة الشعرية والأفكار والمعاني التي تتبعها . فالشاعر يكرّر حرف النفي " لن " لينفي به فعل الصورة الثانية بعد أن ينفي فعل الصورة الأولى بالحرف " لا " . في قصيدة أنا مثلك يا أنطوان ..) يقول الشاعر:

(مثلك – أؤمن – يا أنطوان

أن الأيدي التي لا تجيد

غرس الرصاص

في صدور الطواغيت

لن تجيد غرس الفسائل في الواحات

والتي لا تُحسن نسج الأكفان للغزاة لن تُحسن نسج مناديل العشق – شاهدة، ص 88) .

 

- التوليد الصوري:

 وهناك سمة أسلوبية أخرى من سمات الإبداع الشعري لدى السماوي تتمثل في " توليد " الصور والمعاني وفق صلات قريبة من صلات العلة والمعلول أو علاقات السبب والنتيجة . وفي بعض الأحيان، وهو الأكثر دقة، هو أنها صلات وعلاقات الدال بالمدلول تقريبا:

(القادمون من

وراء المحيطات

(....................)

أفرغوا حنجرتي من الصوت

وعينيّ من الدموع

ومئذنتي من التراتيل

وصباحاتي من الألق

ومساءاتي من النجوم

وحديقتي من الورد – شاهدة، ص 35و36) وهنا يطول " نفس " القصيدة بحركات متسلسلة ومتوالية، حركات تمنحها إيقاعية داخلية آسرة . وتتكرر هذه الثنائيات كثيرا في نصوص السماوي مثل قصيدة " أكل هذا الكرم ويقولون العراق بخيل؟ " التي يحاول في مقطعها الأخير تصوير درجة الحرمان التي يعاني فيها من وطنه، وطنه الذي يطفو على بحيرات من الذهب، ويجوب على أرصفته فيه العدد الأكبر من الشحاذين في العالم، وطنه الذي يعدّه الناس واحدا من أغنى بلدان العالم في الوقت الذي لا يحظى منه سوى بالسخام والرماد والصفعات:

(لي من نفطه: السخام

من حقوله: التبن

من تنوره: الرماد

من بقرته: الروث

من عسله: الشمع

من بحار خيراته: الزبد

من سمائه: الرعود

من واديه: السبخ

ومن شرطته: الصفعات

عجباً !!!

أكلّ هذا الكرم ويقولون: العراق بخيل؟! – شاهدة، ص 105و106)

وعلى ذكر حالة "التضاد" هذه التي أسميتها " ثمار الفردوس الدامية " وهي التي ينطبق على حرمان العراقي من ثروات بلاده وصف " كالعيس في الصحراء " فإن أحد المفكرين " حمّل " بلاد الرافدين مسؤولية ويلاتها التي تنهال عليها وبلاء الأطماع الأجنبية التي تلاحقها عبر تعبير مجازي جميل حيث قال أن في بلاد الرافدين الكثير من العسل يجذب الكثير من الذباب (أحد اللصوص الجدد يبرر استمراءه سرقة أموال العراق بالقول: ما تخلص !!)، وهذا الحال يقلبه السماوي بصورة أكثر إيلاما من خلال استفهامه التعجبي:

(موائدنا تخلو من الدسم

قدورنا بيضاء

وأعذاق نخيلنا

لم تعد تسيل عسلا

فما الذي أغوى

كل هذا الذباب البشري

لدخول العراق؟ - شاهدة، قصيدة " هوامش في كتاب العمر، ص 144) .

 

- الاستثمار الخلاق للموروث الجمعي:

ورغم أن الشاعر يعالج محنة راهنة مدمّرة تعصف بوجود شعبه، إلا أنه يمتح من مخزونات مختلفة لتوفير الشكل الملائم للتعبير الفني . من هذه المخزونات ما استقر في وجدانه من موروث قرآني شديد الغنى، موروث حاضر أبدا ويبقى على الشاعر أن يحدد الكيفية التي يوظّفه من خلالها . ولا أعلم سرّ ابتعاد الكثيرين من الشعراء الشباب من هذا الموروث الذي يلامس وجدان المتلقي العربي أكثر بالتأكيد من رموز ومسميات توراتية وأغريقية:

- في قصيدة " إحباط " يستثمر الشاعر موضوعة اختلاط الخيط الأبيض بالأسود اللذين أضاع دخان المحنة قدرته على الفصل بينهما:

(كيف لي أن أميّز:

...................

بين الخيط الأبيض والأسود

إذا كان الدخان

يمتدّ من نافذة الصباح

حتى ستارة الليل – شاهدة قبر، ص 47)

وتتمثل مقدرة الشاعر في مضاعفة المقابلة اللونية بين لوني الخيطين المجرّدين هنا: الأبيض والأسود من خلال مقابلة زمانية بين اللونين ولكن على مستوى اختلاط الحقائق .. حقائق نافذة الصباح البيضاء بإرباكات ستارة الليل السوداء .

- في قصيدة " العراق – عجّل الله فرجه – متى يخرج من البئر؟، يستثمر الشاعر، كما هو واضح، محنة النبي يوسف الذي ألقاه إخوته في غيابة الجبّ . ولكن الاستثمار البائس هو الذي يأخذ الدلالات الحرفية القديمة رغم غناها، في حين أن التوظيف المقتدر يجب أن يعيد إلينا القصّة أو الأسطورة محملة بإيحاءات جديدة تغنيها وتثريها . والسماوي هنا يضفي على هذا الرمز القرآني ما يختزنه في لاشعوره الجمعي من معطيات راسخة عن أسطورة المنقذ التي أنجبتها الثقافة الرافدينية وانتقلت إلى بقية الحضارات القديمة، فيجعل الخروج المنتظر من بئر المحنة مرتبطا بانبعاث الخضرة في الحقول والأمن والسلام، والخلاص من الغزاة وأدلاء الخيانة:

(العراق – عجّل الله فرجه – متى يخرج من البئر؟

فيعود الخبز إلى المائدة

والخضرة إلى الحقول

والزورق إلى نهر الضوء الصوفي

والأمن إلى البيوت

والمشرّدون إلى الوطن

والغزاة إلى بلدانهم داخل توابيت

أو على ظهور الخيبة

وخلفه أتباعهم

كخراف خلف الراعي – شاهدة قبر، ص 79) .

ولن يربكنا استخدام الشاعر لشيء من موروثه الشيعي المتمثل في وصف – عجل الله فرجه – والذي يستخدم للإمام المنتظر لأن موضوعة الغائب المنتظر تجد جذورها في أسطورة الغياب والإنبعاث الممهورة باسم الإله دموزي / تموز .

- في قصيدة " ضعفاء ولكننا الأقوى " يعيد الشاعر إلى أذهاننا المواجهة بين فيلة أبرهة الغازي وطيور الأبابيل التي رمته بحجارة من سجيل فجعلته كعصف مأكول:

(.. فخذوا بنصحي:

عيونكم لا تقوى

على عواصف صحارانا

أفيالكم الفولاذية

لن تتحمّل " سجّيل أبابيلنا "

دارنا أصغر من أن تُقسّم

وأكبر من أن تُبتلع – شاهدة قبر، ص 99) .

وهو اقتباس مباشر قد لا يبدو فيه شيء من الإثراء للثيمة المعروفة، لكن ما هو مميز في موقف الشاعر في هذه القصيدة هو وحدة المتقابلات اللغوية والصورية، طباقات وجناسات كما رأينا . وفي هذه القصيدة يلعب الشاعر على وتر مزدوجات نفسية جوهرها كمون القوة في التواضع والجبروت في الصبر، والظفر في التحمّل .. أي انبثاق ما هو غير متوقع من مظاهر القوة من المكونات البسيطة والصغيرة، ولهذا جاء وصف " سجيل الأبابيل " متسّقا عزّز رؤية الشاعر وحافظ على زخم القصيدة النفسي .

- وفي قصيدة " كلمات متقاطعة " يلتقط صفات معروفة ومتداولة جاءت في النص القرآني ليصوغ منها صورة، ودائما يتقابل فيها توظيفان يحملان درجة من الروح التحرّشية التي تشعل المقارنة بين الحالتين:

(نحن الصعاليك

سيماؤنا في وجوهنا

من أثر تحديقنا بالأفق

أما الأباطرة

فسيماؤهم في " مؤخراتهم "

من أثر التشبّث بالكرسي

متسبّبين في إصابة الوطن بالبواسير

هم يلوّثون الجدران بتصاويرهم

ونحنُ

نطرّز فضاء الوطن

بالفراشات – شاهدة قبر، ص 129) .

وفي هذا المقطع – وهي من السمات الأسلوبية البارزة للمنجز الشعري للسماوي – هناك " إغلاق " معنوي للصورة التي بدأ بها، حيث قام الشاعر بتوسيع السيماء الأولى الناجمة عن التحديق في الأفق، وذلك من خلال السمة المتواشجة الأخيرة التي تأتي بضمير المتكلمين حيث تتوسع مديات الأفق بفعل إيحاءات زرع فضاء الوطن بالفراشات .

- وفي القصيدة نفسها يستعير صورة وتعبيرا قرآنيا يقلب دلالاتهما الأصلية ليصف السلوك المخزي لأدلاء الإحتلال، فهم بدلا من أن يتمسكوا بحبل الله صاروا يعتصمون بحبل المحتلين الغزاة، وبدلا من يتعففوا ويزهدوا صاروا يولغون في دماء شعبهم ويفترسون ثرواته:

(معتصمون بحبل الأجنبي

متعاونون على " المنّ والسلوى "

عاقدون العزم

على عقد الصفقات السرية

أهذا وطن؟

أم سوق نخاسة؟ - شاهدة قبر، ص 129) .

- وضمن استثماره للموروث الديني يوظّف ما هو راكز في لاشعوره من ثوابت مثل موضوعة الغائب المنتظر وهي – كما قلت – ذات مرجعية عراقية قديمة، سومرية تحديدا، فيصف غيبة العراق الصغرى في جب الطغيان ويقارنها بالغيبة الكبرى التي طوحت به إلى حبّها عاصفة الإحتلال . ولعل في استعارة صفة لها قداستها (عجّل الله فرجه) وإضفائها على العراق يمثل – رغم الانجراح الواضح – مزيجا من شحنة طاغية من نفاد الصبر ورعشة مهابة لائبة . وفي السنوات الأخيرة، ومع اشتداد لهيب المحنة صار تتزايد محاولات الشعراء في استعارة ما هو مقدّس ومنحه إلى ما هو يومي أو أرضي . مؤخرا أهدت الشاعرة العراقية (نجاة عبد الله) مجموعتها الأخيرة (ذات وطن) التي ستصدر قريبا إلى (وطني السعيد: العراق عليه السلام) .

 

- العزف على أوتار الفكرة والصورة:

ومن خصائص الفعل الشعري للسماوي عموما وفي مجموعته هذه خصوصا هو أنه يعيد الطرق على أوتار الصورة التي يصوغها في نص معين في أكثر من موضع ووفق سياقات جديدة . إنه يقلّب الصورة على أوجهها المختلفة غائصا في عمقها، مستخرجا معان جمالية ومضمونية مضافة . وتهمني إحالة القاريء إلى مسألة هامة وهي أنه ليس عفويا أن الشاعر قد افتتح مجموعته هذه بقصيدته الطويلة التي يرثي بها أمه التي رحلت إلى العالم الآخر وهو في المنافي – راجع دراستنا عنها: الرثاء في الشعر العراقي المعاصر - . إنها حركة مقصودة ومصممة مسبقا . فرحيل الأمومة يعني في مغازيه العميقة رحيل المكونات المركزية في الحياة .. حياة ستفقد رمز خصبها ونموها .. تفقد الرحم الحاني المنعم بلا حساب .. تخسر العدالة والحق والحب .. فكل عطايا السلام والحب والأمن والفن في الحضارات هي عطايا الأنوثة المباركة، أما نفثات العدوان والخراب فتأتي من عمق سيكولوجية النفس الذكورية المحملة بالعدوان . وكون الشاعر قد هز مقومات وجوده احتلال بلاده فإن أفضل ما يمكن أن يلخص أبعاد هذا الاحتلال هو رحيل أم . بلاده هي أمّه التي تُحتضر وهو بعيد عنها يرقبها بروح جريحة، بعد أن ثُكل برحيل أمه الأصلية وهو بعيد عنها أيضا . إن رحيل الأم يعني أن الموت سيصبح حقيقة بعد أن كان الفرد ينكره لاشعوريا . ولهذا تجد أن شبح الموت متسيّد في نصوص هذه المجموعة، مثلما تتسيد تمظهراته اللغوية مثل المقبرة التي كانت مفردة مفتاحية في النص الأول: شاهدة قبر، والنص الثاني: هذيان قد لا يخلو من حكمة .. ليعود الشاعر ويتناولها في النص الثالث: إحباط . ويستمر السماوي في تكرار استثمار موضوعة الموت وتمظهراتها المركزية: اللغوية والرمزية في النصوص المتبقية . فحتى في قصيدة " إخوانية " مثل " المدجج بالعشب والأقحوان " يهديها إلى صديق له يؤكد بأن المقابر سوف تتناسل كالطحالب:

(يقينا أن حرير الصبر

سيغدو حسكاً

والمقابر سوف تتناسل كالطحالب

ما لم نكن

نهرا يهزأ بالمسافات

لا ناعورا يدور حول نفسه – شاهدة، ص 58)

وقد يقول قائل إن الاستدراك الأخير يعكس نظرة تفاؤلية تجهض اليقين الخرابي الأول، ولكن الشاعر يعود سريعا ليؤكد المنحى التشاؤمي:

(أجزم أن الناعور

عراقي الولادة والنسب

ليس لأننا الأمة الوحيدة التي مابرحت

تدور حول نفسها من قرون

دون أن تجتاز العتبة

إنما:

الوحيدة التي تكتفي بالصرير

وبصهيل حصان معصوب العينين

بينما الغرباء يلغون في نهرها – شاهدة، ص 60و61)

وفي قصيدة: " أربعة ألواح من طين الوجع " يتأكد ما قلته من أن الشاعر لا يترك الصورة تذهب بعد معالجة واحدة ولكنه يعود ليعتصرها حتى ثمالتها الجمالية والصورية والفكرية . فقد تحدث في قصيدة " إحباط " عن الكيفية التي دخل فيها إلى الوطن كعلامة تعجب وخرج منه بمخاوف أن يتحول إلى نقطة في كتاب المقابر، فإنه يرجع ليصور لنا كيفية ثانية لدخوله وخروجه إلى وطنه المغتصب:

(عدتُ ولا بـ " خفي حنين "

دخلته وأنا تابوت

وغادرته وأنا مقبرة – شاهدة، ص 72) .

وإذا وقفنا عند هذا الحد فستكون استعادة الصورة السابقة تكرارا مباشرا لا جديد فيه . ولكن لو أخذنا – من جديد الصورة الكلية، فسنجد معالجة فريدة مشبعة فنا ورؤى . فهو مبتلى الآن بالكيفية التي يخرج بها وطنه من " وطنه "، إننا أمام مشهدية تلتقط بعدسة عين الفكرة السينمائية، وقد كثرت أيضا فكرة نقل " جثة " من الوطن إلى خارجه، أو من مكان، إلى آخر وبالعكس . ولكن السماوي، وبقدرة كلّية سحرية يريد نقل وطنه العراق كاملا من " العراق " إلى المنافي، وكأنه يريد توسيع تجربته الشخصية الباهظة فيمنحها بعدا خارقا وجسيما في أبعاده الجغرافية والمعنوية . ولكن هذه العملية الإنقاذية التي هي هروبية الطابع تُجهضها حتى قبل أن تبدأ احتمالات المخاطرة والإنكشاف التي تعظّم خصائص " الفقيد " المهرّب وعلاماته الفارقة:

(المعضلة:

لا خيمة منفى تتسع له

ولا عربة تقوى على نقله

وحتى لو تدبّرت له جواز سفر مزوّر

فإن علاماته الفارقة

ستكشف عن هويته

في أول نقطة تفتيش

لذا

تركت الوطن وديعة

عند السيّد الزمن – شاهدة، ص 72و73) .

وهناك التعبيرات المفرداتية عن موضوعة الموت التي تشيع في أغلب نصوص المجموعة مثل: المآتم، الموتى، الجثة، التابوت، الدفن، الخراب، القتل ..إلخ . - وهناك إعادة توظيف للفكرة .. للرؤية الداخلية .. للموقف الوجودي في صورة شعرية مغايرة تثري الصورة الأولى وتغنيها . وهنا تتجلى جوانب مهمة من قدرات الشاعر الذي يحمل رؤيا (بالألف) تحكم فعله الإبداعي وتجيب عن السؤال الخطير: (لماذا أبدع؟) . فكونك تحمل رؤيا عن أبعاد معنى دورك كخالق في هذه الحياة سيتيح لك استكشاف أوجه مضافة وأكثر عمقا لموقف فكري أو نفسي أو وجودي أو حتى ظاهرة حياتية بسيطة كنت قد نظرت إلى وجه محدّد منها سابقا . فمن ينتبه إلى ملاحظة مستخفة في الظاهر وشديدة الحكمة في الباطن إلى أننا نجلس على أعظم العروش بعجيزتنا، سيكتشف القيمة الزائلة والمتهافتة للقوة والتسلط . يقدم السماوي هذا الموقف البليغ مشخصا إياه من خلال مقابلة الإمبراطور بالشحّاذ إمعانا في إهارة الإنتفاخ السلطوي من ناحية وتوسيع دلالات الموقف الجمالية من ناحية أخرى:

(أيها الإمبراطور:

لا فرق بينك وبين الشحاذ

فكلاكما يجلس على عجيزته

الفرق:

بين رياش كرسي الأبنوس

وحجارة الرصيف

فعلام عجرفتك؟؟ - شاهدة، قصيدة: أيها الإمبراطور، ص 65) .

وبعد عدة قصائد يرجع الشاعر إلى التوقف عند الحكمة التي تحفظها أحط أعضاء الإنسان قيمة . وفي كتاب الجراحة الشهير المقرر على طلبة الطب في أغلب كليات الطب في العالم تقرأ " الحكمة " الأولى على الصفحة الافتتاحية: " ربي إذا أردت أن تقبض روحي، فلا تأخذها من خلال إحليلي". وبالمناسبة فأن كلّ الطغاة لديهم – كما يشير المحلل النفسي الشهير " إريك فروم " في كتابه " تشريح التدميرية البشرية " – درجة شديدة من " التثبيت الشرجي - fixation anal " والذي يحمل شحنات عدوانية سادية مدمّرة . ويمكن النظر – وهذا ما يمسك به السماوي من دون أن يكون محللا رسميا – إلى صور الطغاة الكثيرة التي تتم بها تغطية جدران شوارع المدن كتعبير عن رغبة في " التلويث " . لكن الشاعر يجعل بون المقارنة شاسعا من خلال تغيير طرف المقارنة الذي كان وحيدا في الوقفة السابقة (مؤخرة الإمبراطور ومؤخرة الشحّاذ) وجعله طرفين: سيماء وجوه الصعاليك التي امتلأ أفقها بالفراشات، ومؤخرات الأباطرة التي تلوث الجدران بالتصاوير:

(نحن الصعاليك

سيماؤنا في وجوهنا

من أثر تحديقنا بالأفق

أما الأباطرة

فسيماؤهم في مؤخراتهم

من أثر التشبث بالكراسي

هم يلوثون الجدران بتصاويرهم

ونحن

نطرّز فضاء الوطن

بالفراشات – شاهدة، قصيدة الأباطرة، ص 128و129) .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1315 الجمعة 12/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم