قضايا وآراء

التناص وما بعد الحداثة.. التأثر والتاثير

 

مثل السمات اللغوية أو الأحداث بوصفها أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن دون الرجوع الي سياقها التاريخي. كانت نظرية التناص في خضم هذا المحيط المتلاطم الأمواج حين نُِبذ مفهوم التأثير influence لصالح التناص intertextuality بسبب القصور المتأصل في مفهوم التأثير. هذا المفهوم التقييمي الذي يتمحور حول المؤلف، ومن ثم كان أداة بالغة الأهمية بيد المؤرخين الأدبيين غير الموضوعيين. وكان من السهل إذا ان يفسح هذا المفهوم القاصر المجال لمفهوم التناص ولكن ذلك لا يعني بالضرورة محاصرة النقد المتمحور حول المؤلف بل توسيع المفهوم ليتناول علاقات متنوعة يمكن ان توجد بين المؤلفين.

التناص مصطلح نظري أدبي يحمل ملامح بارادايمية، وسيميائية، وما بعد بنيوية جديدة. وعلي الرغم من توظيفاته المتعددة إلا أن الغموض وعدم الوضوح متواجد في هذه التوظيفات. ويرجع ذلك إلي عوامل عدة من بينها:

1. إن هناك بعض التعديلات التي دخلت علي مفهوم التناص في تاريخ الأدب.

2. إن التناص بوصفه ظاهرة أدبية سيميائية قد شهد تغييرات في الشكل والوظيفة عبر التاريخ، وكان الموقف منها والوعي بها متغيرا من عصر إلي عصر، ومن شعرية إلي شعرية.

3. فضلا عن ذلك، هناك عدة مصطلحات مختلفة تشير إلي ظاهرة التناص.

4. وأخيرا حقيقة أنه لا توجد تنويعات اصطلاحية للظاهرة فحسب، وإنما اختلافات منهجية. فالتناص إذا ظواهر لغوية وفنية وأدبية و سيميائية متأصلة يمكن تقصيها في أدب وثقافة العصور القديمة، لكن توظيفه بوصفه مصطلحا نظرياً أدبيا وتصنيفاً معياريا نقديا ونظريا وشعريا جاء في العشرينيات من القرن الماضي تحت تسميات مختلفة: الحوار، البين ذاتية او التذات ، والاتصال بين النصوص، والسياقية.

من المتعارف عليه أن جوليا كريستيفا صكت مصطلح التناص عام 1966 بعد دراستها لنظرية الأدب لباختين الذي قال فيه ان الحوارية dialogism(1) لعبة مفتوحة النهاية تتحرك جيئة وذهابا بين النص والمرسل (الموضوع)، النص والمتلقي (الذات) ونص الثقافة. وبذلك يقدم باختين للا- استقرار الديناميكي الذي لا تسمح به الشكلانية التقليدية او البنيوية. هذه الحركة الدائبة بين النصوص جيئة وذهابا والمتأصلة في اللغة تنسف البنية المغلقة المفترضة والمعني الأحادي لأي نص مشرعة أبواب النص لمزيد من إعادة التخصيص وإعادة الكتابة وإعادة التصوير. من هذا المنطلق فان عمل جوليا كريستسفا يعد نقطة بداية حرجة، فقد وصفت في كتابها (رغبة اللغة) ـ مستلهمة عمل باختين ـ فضاء نصيا ثلاثي الإبعاد، إحداثياته الحوارية الثلاثة هي: الموضوع أو المؤلف، المتلقي أو القارئ المثالي، والنصوص الخارجية.

وقد ثبت تعريف كريستيفا ومنظري ما بعد البنيوية مثل رونالد بارت ودريدا النظرة الأوسع للتناص التي تقول بان كل النصوص هي تناصات، وان التناص هو أساس ومطلب كل اتصال وتواصل، وان كل النصوص والخطابات التواصلية مبنية دائما علي معايير ومدونات ثقافية موجودة بالفعل. ومن ثم فان النصوص هي " اقتباسات فسيفسائية " تفقد فيها قضية أصل النص أهميتها.

عالم السينما

لا تقتصر ظاهرة التناص علي الأدب، لقد تجاوزت هذه الظاهرة الاختصاص الأدبي منذ زمن بعيد، وأصبحت ذات أهمية مساوية في عالم السينما، ولكنها حملت مفهوما متخما بالدلالة: الشفرات التصويرية السينمائية المتشابكة تبادلياً mutualy interwined cinematographic codes، وينطبق المبدأ نفسه علي الموسيقي والفنون الجميلة والمسرح...وغيرها من الفنون.

إنه يتغلغل في جميع وسائل الإعلام، إذ أصبح جزءا لا يتجزأ من(وظيفة) الممارسة الفنية الحديثة التي غالبا ما توصف بالترابط الوسائطي والتواصلي intermediality، والتي تتعرض علي الدوام لمزيد من التطوير والتغيير. وانطلاقا من هذا المفهوم يبدو أن لمصطلح التناص مجالا بالغ الاتساع مما يؤهله لأن يكون حاضنة لكثير من الآراء التي تختلف حسب مجال توظيفاته(2).

إن أي حديث عن مكانة التناص في الفنون حاليا يقودنا إلي موضوع (ما بعد الحداثة). وعلي النقيض من (ما بعد البنيوية) التي غالبا ما تقارن بما بعد الحداثة فان مصطلح ما بعد الحداثة هو مصطلح يشير الي الحالة الاجتماعية والتاريخية والثقافية الحالية: وبهذا المعني فان ما بعد البنيوية ليست أكثر من جانب واحد من جوانب ما بعد الحداثة.

كان ما بعد الحداثة موضوع نقاشات عظيمة علي مدي العقدين الفائتين فالمصطلح نفسه حواري يتضمن دلالات سلبية وايجابية متنوعة وغالبا فانه يمكننا اعتبار مقالة والتر بنيامين " اشتغال الفن في عصر الإنتاج الميكانيكي " والتي نشرت العام 1968 نقطة مرجعية لتقصي المقاربات السلبية والايجابية لما بعد الحداثة.

أشار بنيامين الي الطريقة التي عملت بها الصيغ الحديثة للإنتاج وإعادة الإنتاج التقني علي تشظية الأفكار السابقة المتعلقة بالقيم الجمالية للعمل الفني والإبداعي. وتحديدا فان العالم التقني قد عمل علي تحطيم وبعثرة الهالة المقدسة التي تحيط بالعمل الإبداعي.

كان امتلاك النص الفردي في العصر الذي سبق الانتشار الهائل للكتب نادرا وذا قيمة بالغة. وعلي الرغم من تعلق المجتمع المعاصر بالهالة المقدسة للعمل الأصيل التي تتمثل في دفع أثمان باهظة للأعمال الفنية الكلاسيكية الأصيلة، إلا انه وبالنسبة لكثير من النقاد فان حقبة ما بعد الحداثة التي تميزت بإعادة الإنتاج التقني قد سحبت البساط من تحت أقدام الأصالة والإنتاج الأصيل(3) ولعل من المفيد هنا ان نعرج علي تناول ما بعد الحداثة في كتاب (النهاية القادمة للقرن The Coming Fin de Si?cle) لستيجيبان مستروفك:

"ما يمكن وصمه بما بعد الحداثة يتضمن هذه الظواهر المتنوعة، بل والمتناقضة في الغالب: أيديولوجية المحافظين الجدد، ما بعد العاطفية (4)، الكلبية(5)، تنحية البني السردية، المحاكاة الساخرة، التشويش الأسلوبي، المعارضة، الثقافة الفصامية، الثقافة البرازية(6) excremental culture ، والجماليات المضخمة hyper-aesthetics،تفضيل الصور المرئية علي الكلمات، الفانتازيا، التكافؤ الابستيمولوجي بين الماضي والحاضر، نهاية منظور التمركز الأوروبي، الروح التجارية، العدمية، والميل الي الواقعية المفرطة، التي لا وجود فيها للتميز بين الحقيقي وغير الحقيقي، وفوق ذلك كله، فان ما بعد الحداثة يعرف علي انه هجوم علي أسطورة الحداثة، وعلي الإيمان بان تحرير البشرية المتدرج يتم من خلال العلم.

ما يعنينا هنا هو مصطلح الواقعية المفرطة الذي يميز ـفي فلسفة ودلالات ما بعد الحداثة ـ عدم قدرة الوعي علي التميز بين الواقع والخيال، لا سيما في ثقافات ما بعد الحداثة البالغة التطور من الناحية التقنية.

الواقعية المفرطة هي الوسائل التي تميز أسلوب تعريف الوعي لما هو حقيقي في عالم استطاعت فيه وسائط الإعلام تشكيل وتصفية الحدث او الخبرة الأصيلة التي يجري وصفها. أما منظري هذه الفلسفة فمنهم المُفكر الفرنسي جان بودريار وألبرت بورغمان و امبرتو ايكو.(7) ومن ثم فان خبرتنا عن الفنون في المجتمع المعاصر تعود الي إعادة إنتاجها التقني ولذا فان الهالة التي تحيط بالموناليزا لم تعد موجودة او ربما أصبحت غير ذات صلة بهذه الأنواع الجديدة للإشكال الأدبية(8).

وإذا كان تناص بارت ـ الذي يشير إلي التحرر الجذري للدلالة ـ يمكن ان يكون سببا في نوع من السأم أو الضجر، فان التناص الذي ينظر إليه علي انه حضور الشفرات والاكليشيهات ضمن الثقافة لدرجة قد تحجب الأصل او تتفوق عليه، وانتصار الرأي المجرد doxa علي كل ما يمكن ان يقاومه او يعطله ، ويمكن أن يتسبب في نوع من التكرار او التشبع بالصور النمطية الثقافية. ويبدو أن هيمنة الشفرات والتطبيقات التناصية علي سياق ما بعد الحداثة يعود الي فقدان أي سبيل للحقيقة. وقد علق جيمسن علي أسلوب ما بعد الحداثة في اجتثاث الأفكار الأساسية التي أطلق عليها العمق بقوله: استبدل العمق بالسطح او بسطوح متعددة التي يطلق عليها غالباً تناصية وهي بهذا المعني تفتقد الي أي عمق) (9).

وعلي هذا الأساس يعد مصطلح ما بعد الحداثة اليوم مصطلحا أساسيا في دراسة الأدب، بل أن قائمة إيهاب حسن للمصطلحات المميزة للحداثة وما بعد الحداثة تتضمن التناص بوصفه مصطلحا يمايز حقبة ما بعد الحداثة .

تتضمن مصطلحات الحداثة حسب حسن: الغرض، والتصميم، والمركزية، والنوع الأدبي / الحدود، والتأويل / القراءة، النص المكتوب للقراءة التقليدية حسب بارت، الأصل/السبب التي يقابلها علي التوالي في ما بعد الحداثة اللعب، الصدفة، التشتت، النص/ التناص، ضد التأويل، القراءة المضللة، ونص الكتابة أو النص المكتوب أي نص التعددية القرائية، المفتوح، المتغير، المتجدد باستمرار، الإرجاء / الأثر(10)

اللغة واعتبرتها

ظهرت كتابات ما وراء القص في سبعينيات القرن العشرين وارتبطت بظواهر ما بعد الحداثة وهي في تعريف شديد التكثيف: القصّ الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه أو كما أطلقت عليه ليندا هتشيون السرد النرجسي، أي الرواية التي تتضمن تعليقا علي سردها وهويتها اللغوية.

لقد تعددت اشتغالات ما وراء القص، ولكن ابرز قضاياها كان اهتمامها بالعلاقة بين الواقع والتخييل. إن الواقع لم يعد قابلا للفهم وان التاريخ ليس أكثر من رواية. كما اهتمت بقضية اللغة واعتبرتها نظاما اعتباطيا استبداديا وناقشت الحالة المفارقية لسلطة المؤلف او أنها جعلته بلا سلطة أحيانا وأبرزت الي الواجهة خيالية الرواية والواقع علي حد سواء.

كان للتناص حضور مكثف فيما وراء القص لاسيما (ما وراء القص التاريخي) فقد أشارت سوزانا اونجا وجوس إنجيل غارسيا لاندا إلي "أن ما وراء القص يرتبط ارتباطا وثيقا بالتناصية ". إذ أن النص والشخصيات المتضمنة تشير دائما إلي نصوص أخري لمؤلفين آخرين. وبذلك يحقق ما وراء القص النظرية التي تؤكد أن " لا نص موجود بوصفه كلا مستقلا ومكتفيا بذاته عن النصوص الأخري: خبرة القارئ والكاتب عن النصوص الأخري تقرر في النهاية شكل النص وتفسيراته".

وظف ما وراء القص وسيلة أخري هي الاستيلاء appropriation. تماما كما يفعل مغني الراب شون كومبز الشهير ب " بف دادي"، فان كاتب ما وراء القص المعتدي يأخذ قصة راسخة ويتلاعب فيها كما يشاء هواه. لقد أعاد بف دادي إصدار البومات من السبعينيات . مثل " كل نفس تأخذه" و " روكسين"، و"كاشمير " بإيقاعاته وكلماته وتوزيعه وكورسه الخاص. وبالمثل فان كاتب ما وراء القص يأخذ غالباً قصصاً راسخة مثل رحلة " ذات الرداء الأحمر" في الغابة، ومشاعر جوزيف، و قبلة بياض الثلج الساحرة، ويعيد مزجها، وتقسيمها إلي عينات مختارة، وكتابتها تماما كلمسة بف دادي (11).

أصبحت معارضة الأساليب القديمة او المزج بين الأساليب والأنواع المختلفة أو "الباستيشية " Pastiche وسيلة ما بعد الحداثة للتعاطي مع الماضي: لإجلاله أو للسخرية منه. إنها تمثيل لمجتمع ما بعد الحداثة الفوضوي ، المتعدد الأجناس والمظاهر، المشبع بالمعلومات حد الإتخام.

لقد ذهبت أيام الاعتماد علي الإلهام وهيمنت فكرة أن كتاب ما بعد الحداثة لم يعد بمقدورهم ابتكار أساليب وعوالم جديدة. فهذه ابتكرت لتوها، والمتاح هو ابتداع عدد محدود من التوليفات التي تعتمد السرقة التناصية المخادعة للحبكات والأساليب والأنواع الأدبية القديمة بوصفها أحد أهم تقنياتها، حتي أن ريموند فيدرمان عرف متعة الانتحال pla[y]giarism(12)ـ في سبعينيات القرن الماضي ـ الذي جلب إحساسا بالنزوة والمتعة" "play للرواية والنقد، في وقت لاحق دمج الرواية والنقد في حدث واحد أ طلق عليه critifiction (13).

وقد ميزت ليندا هتشيون بين ظاهرتين في كتابات ما بعد الحداثة: ما وراء القص، وما وراء القص التاريخي. وفي تحديدها لما وراء القص التاريخي تعد هتشيون ما وراء القص التاريخي احد أنواع الرواية الما بعد حداثية التي ترفض إسقاط المعتقدات والمعايير الحالية علي الماضي، وتؤكد علي خصوصية وفردية الحدث الماضي.

إذا العلاقة الما بعد حداثية بين الرواية والتاريخ أكثر تعقيدا من مجرد التفاعل والتضمينات المتبادلة. وإن ما وراء القص التاريخي يعمل من اجل أن يموضع نفسه ضمن الخطاب التاريخي دون التنازل عن استقلاليته بوصفه رواية. انه نوع من المفارقة التهكمية الجادة التي تؤثر علي كلا الهدفين: التناصات مع التاريخ، والرواية التي تلبس حالة موازية (وان لم تكن مساوية) لإعادة التهكمية من الماضي النصي لكل من العالم والأدب.

المحاكاة الساخرة

يوظف الدمج النصي لهذه الماضيات التناصية،بوصفها عنصرا هيكليا تكوينيا لرواية ما بعد الحداثة، علي انه تسويق رسمي للتاريخية عالميا وأدبيا. قد يبدو للوهلة الأولي أن التلميح الثابت الساخر من الاختلاف في قلب التشابه هو ما يميز التهكم الما بعد الحداثي عن المحاكاة في القرون الوسطي وعصر النهضة بالنسبة لدانتي ودكتوراو، فان نصوص الأدب والتاريخ علي السواء، لعبه واضحة.

اليوم، هناك عودة في الرواية ـ تتابع هتشيون ـ إلي فكرة الملكية المشتركة غير الحدسية لما هو مضمر في النصوص الأدبية والتاريخية، ولكن هذه العودة إشكالية، بفضل التأكيدات العلنية الما وراء قصية بان كلا من التاريخ والأدب هي بناءات وتراكيب بشرية، وفي الحقيقة أوهام بشرية - لازمة ، ولكنها ليست اقل وهمية علي الإطلاق بسبب ذلك كله. المحاكاة الساخرة التناصية لما وراء القص التاريخي تمثل وجهات نظر مؤرخين معاصريين معينين: إنها تمنح الإحساس بحضور الماضي، ولكنه الماضي الذي يعرف من نصوصه وآثاره، سواء كانت أدبا أو تاريخاً(14).

في رواية ما بعد الحداثة نجد أن الاتفاقيات الخاصة بالكتابة التاريخية والرواية توظف ويساء توظيفها، تنصب وتهدم، تؤكد وتنكر في الوقت نفسه. فضلا عن أن الطبيعة الثنائية (الأدبية/التاريخية) لهذه السخرية التناصية، هي احد أهم الوسائل التي تكتب وتعرّف بواسطتها الطبيعة المفارقية لما بعد الحداثة نصياً. وهنا يتحدي ما وراء القص التاريخي كلا من المفهوم الواقعي الساذج للعرض، وأي تأكيدات نصية أو شكلانية ساذجة للفصل الكلي للفن عن العالم. ما بعد الحداثة هو فن وعي ذاتي ضمن الأرشيف، وهذا الأرشيف هو تاريخي وأدبي معاً.

تري هتشيون أن الاستكشاف النظري للحوار الضخم بين الأدبيات والتاريخيات الذي نصّب ما بعد الحداثة، ما كان ليحدث لولا جوليا كريستيفا بتجديدها المبكر للأفكار الباختينية عن التعدد الصوتي المتراكب، والحوار الروائي، و التغاير اللساني (الأصوات المتعددة) في النص. لقد طورت كريستيفا من هذه الأفكار نظرية شكلانية أكثر صرامة عن التعددية الغير قابلة للاختزال للنصوص ضمن أو خلف أي نص معطي، ومن ثم فإنها تزيح البؤرة الحاسمة بعيدا عن الفكرة الرئيسية للموضوع (المؤلف هنا) إلي فكرة الإنتاجية النصية. لقد شنت كريستيفا مع زملائها في مجلة تل كويل،في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، حملة جماعية ضد الموضوع المنشأ (المسمي الكليشيه الرومانتيكي للمؤلف) بوصفه أصل ومصدر إنشاء المعني الثابت والمقدس في النص، وبالطبع فان هذا يشككك بفكرة النص كلها ،بوصفها كيانا مستقلا ذاتيا، بمعني جوهري (15).

لا يسبب الربط الرسمي بين الرواية والتاريخ عبر المهيمنات المشتركة من التناصات والسردية، في العادة، اختزالا أو تقليصا في أفق وقيمة الرواية،بل علي العكس تماما، إنها تمنح توسعا وتمددا في الأفق والقيمة. أما إذا ما نظر إليها علي أنها محددات مقيدة لما هو مسرود دائما، فان ذلك يضاف إلي قيمتها الابتدائية كما في رؤية ليوتارد الوثنية، حيث لم ينجح احد علي الإطلاق في أن يكون السارد الأول لأي شيء، أو أن يكون أصل أي سرد،حتي لو كان خاصا به. لقد وضع ليوتارد هذا الحد عن قصد ليقابل ما اسماه" الوضع الرأسمالي" للكاتب بوصفة مبدع قصته الأصلي ومالكها ومتعهدها.

وتبعا لهذا المفهوم يشترك كثير من كتاب ما بعد الحداثة في هذا النقد الإيديولوجي المضمر للفرضيات المؤسسة لمفاهيم المؤلف والنص. وتمثل التناصية الساخرة الوسط الرئيسي لهذا الانتقاد. ربما لان السخرية ذاتها تحمل تضمينات ايديولوجية متناقضة افتراضاً. لذا يمكن النظر إليها بوصفها محافظة وثورية معاً، إنها صيغة مثالية لانتقاد ما بعد الحداثة، هي بذاتها مفارقة في تنصيبها المحافظ ثم نضالها الراديكالي ضد الاتفاقيات.

تري هتشيون أيضاً أن مصطلح التناصية كان في كثير من الأحيان محدودا جدا لوصف هذه العملية، وربما يكون مصطلح لمنطق الداخلي interdiscursivity أكثر دقة للصيغ الجمعية من أشكال الخطابات التي تنهل منها ما بعد الحداثة بسخرية: الأدب والفنون البصرية والتاريخ والسيرة الذاتية والنظرية والفلسفة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع ويمكن للقائمة أن تتابع.

هوامـش :

( 1)يرى الدكتور منصور الحازمي في كتابه " ما وراء الأطلال " أن الترجمة الصحيحة لمصطلح باختين ليس ال Dialogism وإنما ال Intertextualit وهي الترجمة التي وضعتها الناقدة جوليا كريستيفا، وقد وظف تودوروف ترجمة كريستيفا في دراسته لباختين، وقد عرفه باختين في دراسته لدوستوفسكي(قضايا الفن الإبداعي عن دوستوفسكي ) بأنه مجموع العلاقات القائمة بين نص ما ونصوص أخرى. وقد ترجمه الى العربية جميل نصيف التكريتي في قضايا الفن الإبداعي عن دوستوفسكي بالعلاقات الحوارية .

(2 ) ينظر : Tracing Intertextuality, Zuzana Mito?inkov?

(3 ) ينظر : Intertextuality ,Graham allen, 2006

( 4) صك عالم الاجتماع الامريكي ستيجبان مستروفيك مصطلح "ما بعد العاطفية "في كتابة "المجتمع ما بعد العاطفي " عام 1997, والذي وضح فيه انه ليس الأفكار والسلوك هي الموجهة اجتماعيا فحسب وإنما العواطف والمشاعر أيضاُ .المشاعر التي كانت على الدوام تلقائية ولا يمكن تجنبها أصبحت اليوم مفبركة , كاذبة , يجري التلاعب بها خارجيا بتوظيف وسائل الإعلام الجماعي المعتمدة على الصور . لقد فقدت المشاعر أصالتها وأصبحت زائفة كاذبة .

( 5) الكلبية (بالإنجليزية: Cynicism) شكلت مجموع فلسفات اعتقد بها الكلبيون، و هي الفلسفة التي أوجدها أنتيسِتنيس (بالإنجليزية: Antisthenes) في القرن الرابع ق.م. رفض الكلبيون كافة التقاليد ، سواء كانت باسم الدين، الأخلاق ، أو كانت تتعلق باللباس ، أو اللباقة أو غيرها من القيود الاجتماعية، و أيدوا عوضا عن ذلك السعي وراء أسلوب حياة لامادي و بسيط يهدف إلى الفضيلة . بتعبير آخر، الكلبية هي مذهب يقوم على مجاراة الطبيعة و عدم المبالاة بالعرف.في القرن التاسع عشر ، تغير مفهوم الكلبية ليعني سلبية شديدة، و ارتياب عام في نزاهة دوافع الآخرين، خصوصا في القيام بالأعمال الأخلاقية. يمكن أن تتجلى الكلبية في الإحباط ، و خيبة الأمل و غياب الثقة تجاه المنظمات، السلطات، و نواحي أخرى من المجتمع.

(6 ) ينظر: آرثر كروكر : "المنظر ما بعد الحديث: الثقافة البرازية والجماليات المضخمة" The Postmodern Scene: Excremental Culture and Hyper-Aesthetics (آفاق العالم الجديد، مونتريال، 1988).

( 7) ينظر تعريف الويكيبيديا الاليكترونية

( 8) ينظر : Intertextuality ,Graham allen, 2006

( 9) ينظر :المصدر السابق

( 10) ينظر :المصدر السابق

(11 )التجريب في الأدب: يقظة من الافتتنان : دراسة فيما بعد الحداثة ,شاون فايدمار , ما وراء القص وما وراء القص التاريخي : دراسات نقدية . ترجمة : أماني أبو رحمة , كتاب تحت الطبع.

(12 ) pla[y]giarism :بإضافة حرف y" " إلى كلمة انتحال بالانجليزية plagiarism

( 13) critifiction : نوع من السرد يحتوي نظريته الخاصة ونقدها في الوقت ذاته , يطمس critifiction أنواع السرد الأخرى . عندما أعلن ريموند فيدرمان موت ما بعد الحداثة 1980 , عرف بنوع جديد من الخطاب " نقدي بقدر ما هو روائي". نحن محاطون بالخطابات "يقول فيدرمان" : التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطبية والقضائية ، وبطبيعة الحال الأدبية. "فلماذا لا نجمعها كلها ، بدلا من إبقائها منفصلة وموجودة "إما / أو " في عالم النص "

(14 ) ما وراء القص التاريخي : السخرية والتناص , ما وراء القص وما وراء القص التاريخي : دراسات نقدية . ترجمة : أماني أبو رحمة // تحت الطبع.

(15 ) المصدر السابق

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1316 السبت 13/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم