قضايا وآراء

إشكالية الحداثة في الشعر السياسي .. يحيى السماوي أنموذجا (4)

وكذب الذين جاءوا مع المحتل في تنفيذها . فوق ذلك فإن هؤلاء الأدلاء قد قاموا بعكس ما أعلنوه، فبدلا من الوحدة زرعوا جرثومة الفتنة، وبدلا من الرفاه نشروا الفقر، وبدلا من الحفاظ على كرامة الإنسان كبناء لله هتكوا الأعراض . وسيلاحظ القاريء أنني كرّرت (بدلا من) ثلاث مرّات، وقد يجوز هذا في النثر، وقد يُستحسن أحيانا، لكن هذا التكرار من مقاتل القصيدة الحديثة، وهذا ما يدركه السماوي فنراه يذكر الفعل (وعدونا بـ) في استهلال القصيدة ثم يمضي ليكرّر حرف الباء فقط محققا التركيز ورشاقة الجملة الشعرية:

(وعدونا بالمصانع

فأقاموا السجون !!

بالمسرّة ..

فغرسوا الفتنة !!

بالميلاد ..

فأقاموا المآتم !!

بالمساواة كأسنان المشط

فجعلونا كأسنان التماسيح – شاهدة، ص 82) .

ولكن ما يهيض جروح الشاعر ويمزق روحه هو أن كلّ هذا الخراب والضيم من دماء ودموع وفقر وتهجير لم (توقظ " السيوف " من سباتها – ص 83) وكأننا أمام تحقق فعلي لبيت الشاعر القديم (لقد أسمعت لو ناديت حيّا ...) ولهذا تأتي ردّة فعله في صورة خيبة عنيفة جدا يحسب فيها الوطن كتابوت ممدّد لا رجاء من استجابته . وهنا ينبغي أن لا نقع غي سوء تفسير لموقف الشاعر يرى أنه يقف ضدّ بلاده كما حصل من سوء تأويل لقصيدة الجواهري عن بغداد التي اعتبروها ذمّا لعاصمته الحبيبة . وهذا خطأ فاحش إذ أنه يهدر مسيرة الشاعر المقاومة طوال عقود من عمره ومسيرته الشعرية المديدة من جانب كما أنه لا يفهم طبيعة اشتغال ردود فعل الشاعر على المؤثرات المريرة من جانب آخر . إن نقمة الشاعر الهادرة على وطنه هي صيحة استغاثة من أجل هذا الوطن، صرخة تحفيز وإنهاض لأبنائه من خلال الإمعان في تصوير تمزّقاته، إنها تشبه صرخة الأم المذهولة: يمّه .. إبني مات !!، وهي ترى دم ابنها العزيز ينزف من جرح في جسده مهما كان هذا الجرح صغيرا، إن نقمة الشاعر في الواقع تعبير عن أقصى درجات حبه الممزوج بقلق الفقدان:

(.. إن لوحاً خشبيا في بحر

قد يكون البديل

عن وطنٍ

يتمدّد كالتابوت

في خارطة العالم !

من أين للوطن الغريق

بلوح خشبي .. أو طوق نجاة؟

أما من جواز سفر مزوّر

لوطنٍ رؤوم

نكّس ترابه خجلاً

من قادته المدجّنين؟ - شاهدة، ص 83و84) .

ولعل ما قلناه يجد دليله المعبر عنه بدقة في لوعة الشاعر وهو يلوب بفعل ضياع الخيارات الإنقاذية وعودته المحكمة إلى ما يؤكد أن محنة وطنه الفاجعة هي نتاج الأدلاء " الرجال " الذين لا يستحون كما أعلن في عنوان القصيدة . وهذا ما يعود الشاعر إلى معالجته بوضوح في القصيدة التي تلي القصيدة السابقة مباشرة وهي " إلى من لا يهمهم الأمر " حيث يعود إلى " الرجال " الذين كانوا أدوات نشر الخراب الذي صمّمه المحتل، هؤلاء الجالسون خلف المسرح في الكواليس وهي تورية دقيقة عن مكمن هؤلاء في " المنطقة الخضراء " فهي بالنسبة لمشهد المسرح العراقي الهائج هي الكواليس فقد قال عنها قبل قليل بأن أبوابها لا تنفتح إلا بالمفاتيح المشفّرة وأنها أعتم من بئر كهف (راجع قصيدة: المنطقة الخضراء) . وهؤلاء لا يستحون فهم الآن يسرقون من البيدر ليس على قدر سعة حواصل العصافير ولكن بسعة جوف التماسيح . ثم ينعطف ليؤكد ما قلناه عن حبّه لوطنه من هؤلاء الذين لا يستحون والذين ينتشرون كالسرطان في جسد الوطن:

(سأبقى خائفا على وطني

طالما بقي في " قصر الخلافة ":

سياسي فاسد واحد

انتهازي واحد

تاجر دين واحد

إرهابي واحد

عميل واحد

ولصّ واحد

هؤلاء كالطحالب

سريعو الإنتشار مثل بثور الجدري – شاهدة، ص 86و87) . ولكن هذا لا يمنع من إبداء تساؤله المندهش من تعطّل رد فعلنا تجاه هؤلاء الذين يتعلمون البطولة بأطفالنا والفحولة بأعراضنا كما يقول، وهي دهشة مشروعة حتى لو كانت شديدة الفوران لأن شاغلها المحبة والحرص على حاضرنا ومستقبلنا:

(كيف نبدو وديعين كالحمام الداجن

حين نراهم في المقاعد الأمامية

دون أن نستعير

من الصقور مخالبها

ومن الجرّاح مبضعه

لاستئصال الإصبع المسرطن

قبل أن يصل إلى الرقبة – شاهدة، 87)

وفي الدعوة لـ (الإستئصال) عودة للتذكير بخطر استئصال وطن الشاعر رغم أنه ليس زائدة دودية كما قال في القصيدة السابقة: " الوطن استحى ...".

 

وقفة:

ولكن من أين جاءت روح اللصوصية هذه التي طفحت في سلوك هؤلاء الجالسين خلف الستارة؟ إليكم جزءا ممّا كتبه العبد الفقير في جريدة (السيادة) عام 2005 تحت عنوان: (لصوص .. فلا تأتمنوهم على العراق) :

(... لقد أصدر الرئيس الأمريكي " بوش الإبن " قرارا بتعيين السيد جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة السابق مسؤولا عن متابعة تسوية ديون العراق الخارجية . الخارجية . العراقيون أصحاب قلوب طيبة وذاكرة سمحاء سرعان ما تنسى، ولذلك لم يتساءلوا عن سرّ هذه الغيرة المفاجئة التي أصابت هذا الشخص جيمس بيكر وهو الذي هدّد بإعادة الشعب العراقي إلى العصور الوسطى !! تصوّروا هذا السادي، لم يهدد الحاكم الذي غزا الكويت بل يهدد شعب العراق بتحطيم كل بناه التحتية وإعادته إلى العصور المظلمة . نسينا هذا وصدقنا ما طلع علينا به السيد الرئيس بوش وقلنا من الجائز أنه لم يجد سياسيا محنكا وعطوفا على الشعب العراقي غير " بيكر " الذي كان واحدا من الذين أشرفوا على تحويل حرب تحرير الكويت إلى حرب تدمير العراق في عام 1991 . فانظروا الآن ماذا فعل هذا (...) بعد أن تسلم مسؤولية خفض ديون العراق؟

هاكم ما نشرته صحيفة (الغارديان) في عددها ليومي 13و14 تشرين الأول . تقول الصحيفة:

(عقد جيمس بيكر المسؤول عن خفض ديون العراق صفقة سرية مع المسؤولين الكويتيين لغرض استحصال 25 مليار دولار لهم من العراق مما يسمى بـ (التعويضات الحربية)، على أن يستقطع بيكر نسبة 5% من المبلغ لحساب شركته المعروفة " كارالايك " ولشركة أخرى تقودها وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة " مادلين أولبرايت " – انتهى الخبر - .

هل ستعيدون اعتراضكم علي وتقولون إن وصف " اللصوص " لا يليق بالخطاب السياسي الحديث والمتحضر؟ هل ستجدون أكثر سفالة من شخص يؤتمن على مصير شعب ممزق محطم مبدد الثروات مديون مهموم متعوب وحيد مستوحد مستوحش يعاني من قلة الصديق وانعدام الرفيق ومشقة الطريق وطول السفر، فيقوم هذا المؤتمن يقطع ما تبقى من اللحم الحي لأطفال هذا الشعب؟ أنا طبعا لا ألوم الطرف الثاني في صفقة الدنس والسحت هذه، لكنني أتحدث عن اللصوص (الحرامية) فلا تأتمنوهم على العراق المقدس) – انتهى المقال - .

 

- العزف على أوتار الحروف:

وهناك سمة اللعب الخلّاق على التركيب الحروفي للكلمة وتقطيع المفردة اللغوية الذي يقوم به الشاعر في كثير من الأحيان بطريقة تخلّف وقعا مأساويا مشوباً بالسخرية المريرة . إنه نوع من الكوميديا السوداء إذا جاز الوصف . وهذه تعكس في الوقت عينه ميزة من ميزات عبقرية اللغة العربية – والتي لها صلة بالفرضية النظرية التي طرحتها سابقا باختصار – هو أن الكلمة ملتحمة المعنى ولا توجد أي زيادة صوتية فيها كما قد يظن البعض في النظرة السطحية السريعة ممن يتهمون اللغة العربية بترهل مفرداتها والإفراط في مترادفاتها وغيرها من الصفات السلبية التي يلوكونها بلا علم:

- في قصيدة " أربعة ألواح من طين الوجع " وبعد أن يتحدث – ومقاطع السماوي مترابطة بقوة رغم أن القراءة السريعة تفككها وتشتت مفاصلها وهذا هو أخطر ما يمكن أن يصيب نصوصه – في المقطع الثالث عن حالة غريبة وشاذة تجتاح وطنه، بل العالم بأسره بفعل الطغيان الأمريكي الدموي والأهوج الذي جعل كل شيء يقف مقلوبا على رأسه معنى وقيما وأسس عمل في الحياة، حيث المتهم أخرس، والقاضي أصمّ، والشاهد أعمى، (فما الفائدة إذن، من فصاحة القانون، وبلاغة المعنى؟) كما يتساءل الشاعر .. فإنه يكشف ببلاغة هائلة كيف أن المعنى يمكن أن تمسخه حركة حروفية واحدة، فكيف إذا اتجهت نحوه أساطيل " التعريب " و"قاصفات " التأويل؟!:

(ضلوعي تساقطت نخلة .. نخلة

ساعة الزمن لم تتعطل

لكن عقارب المكان قد صدئت

أفراحنا ناقصة

كصلاة دون وضوء

ونهدٍ دون حلمة

وعراق دون " راء " – شاهدة، ص 74) .

أي أن السماوي وعبر تسلسل الصور المتقابلة الثلاث الأخيرة يمنح حرف الراء الذي ينقص الكلمة وجودا ماديا يوازي حلمة النهد الضائعة، أو – وهذا هو الأعظم – الوضوء الذي لا تكتمل الصلاة من دونه . لكنه يصعد بنا إلى ذرى تشخص جانبا اشد عمقا من عبقرية اللغة العربية التي يكشفها الشعر حيث تلعب " النقطة "، والنقطة المجردة دورا مخيفا، فالفرق بين " الفرد " والقرد " نقطة واحدة، والفرق بين " الرفيع " و " الرقيع " نقطة واحدة أيضا . ولكن أفق دور النقطة يتسع على يدي الشاعر لأنه سيضع هذا الدور ضمن إطار أعم وأشمل يرتبط بالمحنة التي يعيشها شعبه محتلا ومهانا:

0 الفرق بين الحرّية والحربة

نقطة واحدة

بين البحر والبرّ

حرف واحد

ومع ذلك

فإن شعوبا كاملة

غرقت بالدم

وأوطانا شاسعة سقطت من خارطة العالم نتيجة انزلاق نقطة

من موضعها في كلمة

أو خطأ في الإملاء – شاهدة، ص 66) .

وقبل أن ينتقل إلى معالجة موضوعة مضاعفات " الفرق " في بناء المفردة على أساس نقطة واحدة، فإنه يختم هذه القصيدة بما سيراه العقل الذي اعتاد التفسيرات السطحية السريعة وعدم تحمل عناء رحلة اكتشاف " المعنى الكامن – latent content " كما هو الحال في عملية تأويل الحلم التي عدّها معلم فيينا مفتاحا لفهم أغلب ظواهر الحياة البشرية، يختمها بالإشارة إلى حقيقة أن البحر رغم كبره وضخامته فإنه " أصغر " من أن يروي وردة عطشى، أي أنه أصغر من نقطة، نقطة ماء منعشة، وتحديدا تلك النقطة التي بإمكانها أن تحيل " بحر " إلى " نحر "، ثم يضع الشاعر النقطة الصغيرة، أو الشيء الصغير الذي تحتاجه الشعوب من أجل تحقيق سعادتها، وهو نقطة حكمة توازي بل وتفوق في ثقلها بحر الغطرسة:

(ما أكبر البحر !

لكنه ..

أصغر من أن يروي وردة عطشى

ما تحتاجه واحات الشعوب:

جدول صغير من الحكمة

لا بحراً من الغطرسة – شاهدة، ص 67)

... أقول إن الشاعر قد مرّ بنا من فعل النقطة، وعبر وقفة انتقالية لنصل بعد قصيدة واحدة إلى لعبة حذف الراء من اسم العراق، ثم - وبعد ثلاث قصائد - إلى مراجعة لفعل النقطة التي صارت معنوية الآن والتي يسبب عدم إدراك الطغاة لمعانيها ضياع أوطان وشعوب:

(إن قطرة قيح واحدة

تكفي لإفساد نمير الكوز

وصوتا نشازا واحدا

قد يُفسد النشيد الجميل

وأن قائدا سياسيا فاسدا

قد يؤدي إلى ضياع وطن

وتمزيق أمة – شاهدة قبر، قصيدة " إلى من لا يهمه الأمر، ص 86) .

- وفي لعبة حروفية جميلة أخرى نجد الشاعر يتعفف من ذكر طرفي الصراع الطائفي في بلاده، لكي لا يرسّخ هذا الأمر البغيض في أذهاننا، و " يصغّر " حجم التأثير النفسي للمفردة التي تمثل كلّ طائفة فيأخذ الحرف الأول منها:

(العراق - عجّل الله فرجه – متى يستفيق

لتقوم المواطنة العادلة

فيتساوى الجميع

مثل نخيل بستان واحد

لا فرق بين " شين " و "سين "

وعمامة وعقال – شاهدة، قصيدة: العراق - عجل الله فرجه - متى يخرج من البئر؟، ص 80) .

وكأن الشاعر يريد من ذلك أيضا، أن يصوّر الأمر لا كفوارق جذرية، ولكن كتنوع حروفي يكمل بعضه بعضا مثلما تلحق الشين السين في تسلسل حروف الأبجدية . - وهناك التقطيع المعبّر لكلمة الديمقراطية الذي يرسم أمامنا المعنى الحقيقي لتجربة شكلية زائفة مرّرت تحت أغطيتها مخططات الدم والموت والخراب:

(يلزمن حبل

من " هافانا " حتى " سانتياغو "

لأنشر عليه

صفحات الكتب السوداء

لراعي البقر الأمريكي

وهو يقود قطعانه عبر البحار

لإشاعة " الدم – قراطية " – شاهدة، ص 92) .

 

- حداثة الأبيض والأسود:

 وفي نصوص السماوي المقاومة هناك دائما ظاهرة الانتباه للأمور التفصيلية ومراجعة المكونات الجزئية للحدث الكلي الهائل: واقعة الاحتلال . وهنا يظهر دور عظيم يقوم به المبدع تجاه بلاده بعيدا عن الأطروحات الحداثوية وما بعد الحداثوية التي تسعى إلى إفقاد الشعوب المسحوقة واحدا من أمضى أسلحتها في مواجهة أعباء الحياة على الصعد كافة، ألا وهو سلاح الإبداع، وخصوصا الشعر بالنسبة للأمة العربية والفنون الأخرى بالنسبة للأمم الأخرى . وهذا ما كشفته المؤلفة الفرنسية لكتاب " من يدفع أجر عازف البيانو؟ " الذي عرضت فيه التمويل الهائل الذي كانت تقدمه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى " منظمة الثقافة الحرة " التي ورطت بعض المبدعين العرب، والتي اعتذر الناقد والشاعر المعروف " ستيفن سبندر " وكان رئيس تحرير مجلة " encounter " الشهيرة، عن أنه لم يكن يعلم أنها منظمة استخبارية مسخّرة لأهداف أمريكية، واستقال منها . إن سعيا حثيثا وغريبا لفصل الأدب عن المجتمع وهموم الشعب .. ترى ما الذي سيجده نقاد ما بعد الحداثة في المقطع الأول من قصيدة السماوي " من وحي تمثال الحرية في نيويورك " الذي يقول فيه:

(أيها الرب الرخامي المنتصب كالمشنقة

ليس مِشعلاً للحرية ما ترفعه

إخفض يدك

فالبنتاغون يراه فتيلا

لإحراق حقول العالم

وال " c.i.a " تراه سيفا

لاستئصال رقاب من يرفض الإنحناء

لآلهة " المعبد الأبيض " – شاهدة قبر، ص 90) .

هنا قد يطلع علينا ناقد ما بعد حداثوي أن هذه النصوص مباشرة ولا تحمل من الفن الذي يعتمد التورية والتكثيف والتركيز والنبر إلا قليلا !! وأنا أعرف أنهم يريدون نصا يتحدث فيه يحيى – ابن السماوة المعذبة (السماوة دميتي في حجرة الكون ... وفراشتي في حديقة العالم – ص 73) كما يصفها، عن هموم بروفورك وليلة عوليس .. إلخ .

 وكيف تكون الحداثة إن لم يعبر عنها " يحيى " بهذا التوظيف المتكرّر المفارق والفريد في كل وقفة . في القصيدة السابقة ختم المقطع الأول بالإشارة إلى " آلهة المعبد الأبيض " المميتة التي دمّرت سلام العالم وأمنه . ولكن كيف وصل إلى هذه الآلهة، وهذا التعبير عنها مرسوم على الصفحة التسعين من المجموعة؟ . لقد وصلها عبر سلسلة طويلة من الطرق المضني على سندان مقابلة السواد بالبياض، كبنيتين تحمل كل منهما مدلولات رمزية عميقة ومتشعبة لا تخفى على القاريء . تبدأ هذه المقابلة الباهرة من النص الافتتاحي الأول والأطول الذي قاله الشاعر في رثاء أمه الراحلة، ليتنامى مع كل قصيدة – مستترا أو مكشوفا – ليحكم حلقات التشبيه بما يحفظ الوحدة العضوية ليس لنصوص محددة بل للمجموعة كلّها . فحين يعلن الشاعر – مثلا – انتصار " الأمركة " على " العراقة " فهو يرسم معادلة انتصار السواد على البياض .:

(إنها أكثر صمما من حائط

وأعتم من بئر كهف

في ليل يتيم القمر والنجوم

أضيق من كفن

وأكثر من وحشة كمقبرة (عدنا إلى المقبرة: الناقد)

عشبها أشد وخزا من الدبابيس

فراشاتها الشظايا

وسقسقاتها أزيز الرصاص المخاتل

غزلانها بسيقان من الجنازير

شوارعها معبدة بالدبابات – شاهدة، ص 56)

في لقاء شخصي مع المبدع الكبير مظفر النواب دار حوار حول غموض ما ينشر من شعر هذه الأيام تحت غطاء الحداثة، قال: أنا أكتب الشعر منذ أكثر من خمسين سنة .. والآن لا أفهم الشعر الذي يكتب في الوقت الحاضر . وهذا ما أشار إليه أستاذنا الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) في كتابه (مدائن الوهم – شعر الحداثة والشتات) (دار رياض الريس – بيروت – 2002) وهو يحلل قصيدة لشاعر مهجّر:

(يرى بعضنا أن السوريالية وخليفتها الدادائية، من أنواع فقدان التوازن العقلي أو المنطقي . ويرى بعضنا الآخر أن ذلك مقبول في الشعر، لأن الشعر ضرب من الجنون كما أشار أكبر العقلاء: طيب الذكر أفلاطون . ونحن نقبل هذا القول على شيء من المضض، لأن في تراثنا الشعري مجنونا كبيرا من بني عامر، لكن، يردّ بعضنا الآخر، إن كلام ذلك المجنون في ليلاه " كلام مفهوم "، وهو لذلك شعر .. جميل . ولكن، أية فيافي شعرية دخلنا مع السوريالية والدادائية والبنائية والتفكيكية وبقية ذوات " الإيّة "؟! – ص 186و187) .

بساطة يحيى تجعل الشعر كما كان .. طعام النفوس المخذولة والمحطمة .. الكلمة الأمل للحيوات المكبلة بالخيبات والمحاصرة بسواد الإحباط .. الكلمة الطيبة بيضاء دائما .. ولهذا فهو يكمل صورة القصيدة الكلية التي اجتزأنا منها المقطع السابق:

(.. شوارعها معبدة بالدبابات

صالوناتها مكب لنفايات البنتاغون

ساحاتها مسيجة بالكتل الكونكريتية

ليلها أكثر ثقلا

من صخور الخطيئة

سادنها أقذر من طمث مونيكا لوينسكي – شاهدة، ص 56 و57)

ويكون الاستنتاج الطبيعي أن " مدينة " مثل هذه تجسد لبّ السواد، فالصمم سواد، والكفن سواد رغم بياضه ... وصخور الخطيئة سواد:

(فكيف إذن تُسمّى " المنطقة الخضراء "

تلك الطعنة السوداء

في جسد الوطن؟ - ص 57)

.. و" مونيكا لوينسكي " هي الشابة المتدربة في المكتب البيضاوي التي اعترف السيد الرئيس بل كلنتون وكانت تقف خلفه، وعلى شاشة التلفاز، زوجته المغدورة هيلاري مفتخرة وهي تقول: إنه شجاع .. لقد اعترف .. فبماذا اعترف رئيس أعظم دولة في العالم .. رئيس دولة ما بعد الحداثة؟ .. اعترف بأنه كان يواقع مونيكا – ودعوني أكون مثلهم صريحا فهم يريدون تربيتنا على هذه الصراحة – جنسيا، وكان يطلب منها أن لا ترتدي لباسا داخليا لكي تتم العملية بصورة أسرع بخرط الزنجيل !!! صدقوني كانت تلك رسالة أمريكية إلى العالم كله: أن لا أخلاق بعد اليوم ولا مباديء بل سوق لغرائز الموت والعدوان والسفالة !! سيقول قائل أن هذا سلوك شخصي، طيب طيب هذا سلوك شخصي .. لكن أين كان يتم هذا السلوك؟ .. كان يتم في البيت الرئاسي الأبيض ! وعند العرب يعد البيت الرئاسي مقدّسا مثل كعبة !! أي أنه بنية بياض مقدسة تقابل بنية سواد مدنسة . ويلحّ على الذاكرة الآن مشهد من رواية " المنطقة الخضراء " للمبدع " شاكر نوري "، مشهد يقطع القلوب، ومكتنز بالدلالات عن سيكولوجية المحتلين، وهو حقيقي يعرفه الذين قاتلوا المحتلين . في هذا المشهد يجري حوار في " المنطقة الخضراء " بين المترجم العراقي (إبراهيم) والكولونيل الأمريكي بعد أن وقع الأول عقدا مع الأخير للعمل كمترجم للقوات الأمريكية:

(تألم إبراهيم كثيرا بعد أن انتهى من توقيع عقد العمل مع الكولونيل الأمريكي الذي استقبله في مكتبه . وأثناء توديعه عند الباب، قال له:

" اسمي الكولونيل ديفيد روبنسون، ويمكنك أن تطلق عليّ داود "

" الكولونيل داود "

" عليك أن تشعر بالأمان هنا "

وأضاف:

" عندما دخلت فرقتنا الثالثة المنطقة الخضراء، فرّ سكانها منها، ولم تقاومنا إلى النهاية سوى فرقة عسكرية واحدة، قمنا بدفنها في مقبرة جماعية في هذا المأرب " وأشار بيده إلى المكان الذي كنا ندوسه بأقدامنا .

" يا إلهي، هل أنني أمشي فوق قبورهم؟ "

وكأن الكولونيل داود قرأ ما كنت أفكر به في تلك اللحظة، فسارع إلى القول:

" هذه هي الحرب، أما ان تقتل أو تُقتل "

ثم أضاف مبتهجا:

" ولكن أرجو أن لا تتصور أن الحرب تعيسة إلى هذا الحد، يوجد هنا ما لا يقل عن ست حانات .. "

وضحك ثم علّق بدعابة:

" يجب مزج الحرب باللعب حتى لا نشعر بالملل – ص 49و50) . وبالمناسبة فقد افتتح شاكر نوري روايته بمجموعة من المقولات في مقدمتها، وأول هذه المقولات هي: " المنطقة الخضراء .. تلك الطعنة السوداء في جسد الوطن " ليحيى السماوي .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1317 الاحد 14/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم