قضايا وآراء

إبن بابل في برلين

 مهم بعد ان شارك في مهرجانات اخرى في امريكا .

لقد كان للفلم حضور كبير ضجت به صالة السينما رقم 7، وللوهلة الاولى يقرأ المرأ في أعين المشاهدين الالمان دهشة من عنوان الفلم، فكلمة بابل تترك أثرا في السامع الالماني، ذلك الاثر الذي تركته بوابة عشتار في متحف بارغامون في برلين، ولذلك فهم يحملون شوقا من نوع ما لمعرفة من هو ابن بابل على الرغم من المقدمات التي وضحتها البوسترات المرافقة للفلم .

ولست هنا اضع تصوراتي النقدية للفلم فتلك سأتركها لمقالة أخرى ولكني أود ان اذكر للقاريء الكريم ان فكرة الفلم كانت جوهرية ومكثفة اختصرت فيها مأساة ربما ستنسى كما نسيت غيرها، اعني المقابر الجماعية، فكان الفلم واضحا جدا في كشف هذه الجريمة البشعة من خلال الاجواء العاطفية والانسانية التي تخللت رحلة الام الكردية الباحثة عن ولدها في مقابر الجنوب، معبرا عن مجموعة اكتشافات هي خلاصة أولى لقراءة تلك الجريمة البشعة .

هذه المقابر لم تكن مقابر خاصة بكليتها، إنما جمعت تحت ترابها عراقيين من كل لون وهي الفكرة الرئيسية للفلم، غير ان افكارا ثانوية برزت بشكل مهيب ايضا منها الروح العاطفية وتأثيرات الفقد على اهل المفقودين، وهو، أي المخرج، اختار شخصية الام الباحثة عن ولدها باعتبار ان هذه الرابطة هي الاكثر عمقا وان تاثيرها هو الاكثر قسوة، فكان الاشتراك بالمأساة عاما يجعل كل من يشاهد الفلم يحس بمأساته هو، وان جثة ما تعود لحبيب او قريب يمكن ان يجدها في تلك المقابر لا فرق بين عربي وكردي، حتى انني خلت ان بعض الالمان سيجدون احباءهم هناك ايضا .

ربما تجد الفيدرالية على ارض الواقع غير ان المقابر لا فدرالية فيها، اختلطت العظام بالعظام، وصارت الجماجم متشابهة، امتزجت الاجساد وانصهرت فكانت عراقا صغيرا في القبر .

تلك المساحة من الاجرام التي سلط عليها محمد الدراجي الضوء تفتح بابا واسعا لهذه الثيمة التي تستحق معالجة أوفى واكبر، وتلك القضية بالتأكيد بحاجة الى وعي بالسينما وتخلصٍ من دسائس المسطرة الطائفية والقومية التي تلقي بظلالها على أي عمل فني حين يراد له ان يدعم من جهات حكومية، ولهذا فأنا حزين جدا لأن الدراجي طرق ابوابا حكومية للدعم فوجد خلف بعضها اناسا لا يفقهون في الفن شيئا يحكمون على الصور ومظاهرها ولا يعرفون قيمتها السينمائية او التعبيرية فما بالك بقيمتها الفلسفية .

لقد كان الفلم مؤثرا فعلا على الرغم من بعض الملاحظات، فليس من السهولة ان تقف امام اشكالية الاحتلال والتحرير، فلقد وقع اخرون في ازدواجية حين اادوا معالجة الاحتلال ورفضه والخلاص من نظام دكتاتوري دموي، وحين خاطبوا العقيلة الغربية صدمتهم كيفية تقديم هذه الاشكالية، فأن تقدم فلما يوافق على الاحتلال بحجة الخلاص من صدام سيكون غير مقبول لدى المتابع الغربي ولا سيما الالماني، الا اذا استطعت ان تخرق هذه العقلية بعمل كبير وربما سوف تحضى بالقليل من الانصار، وكذلك ليس من السهولة ولا المقبولية ان تقدم فلما يدافع عن النظام البائد بحجة ان الاحتلال كان اسوء وان عدد القتلى كثير ايضا بعد الاحتلال في دول تحترم حقوق الانسان ولا ترضى ابدا بتمجيد الدكتاتوريات، انها اشكالية حقيقية بالنسبة للمخرج أيا كان، ربما ستكون سهلة جدا لدى الانسان ان يقول انا راض بهذا او رافض لذاك، وقد تجادل وتجادل دفاعا عما طرحت، أما ان توصل فكرتك عن طريق الفلم فلن يكون عملا هينا لتقدمه الى شعوب اعتادت ان تذهب الى السينما ولديها ذائقة عالية بهذا الفن .

لقد كان محمد الدراجي ذكيا حين ابتعد عن هذه الفكرة في فلمه، لكنه لم يتركها، فقد بين بشكل ما ان الاحتلال عمل مرفوض ولم يقدم أي مبرر له في الفلم، لكنك وانت تشاهد المقابر ومأساة الناس تشعر ان ثمة قبولا به يتسرب الى داخلك، واضعا امامك ما يمكن ان يجعلك لا تقف على رأي، منسيك في اجواء الفلم، رغم طائرات الهليكوبتر والسيطرات الامريكية والهمرات، قضية الاحتلال لتذهب معه بعيدا بالبحث عن اسرار ذلك النظام البشع، فيجبرك على ان تمد يدك وتبحث مع الامهات والرجال في المقابر لعلك تساعدهن على الخلاص من قسوة المجهول الذي يلف حياة الاحبة، حتى تلك اللحظة التي تظن فيها انك ساعدت احداهن باكتشافك هيكل عظمي لمفقود ستكون لحظة قاسية وبشعة وحزينة حين تراه قطعا من العظام وبقايا هويات احوال مدنية واثار انسان كانت له ام وزوجة وابناء .

لقد استطاع المخرج ان يعطي الامل بشخصية احمد ابن ابراهيم المفقود منذ 1991 وبنفس مواصفات والده، تلك الفكرة التي دعمها بتعلم احمد للعربية واندماجه السريع مع اهلها وبحمله ناي ابيه على الدوام .

الحديث عن الفلم يطول .. سأترك الباقي الى مقالة اخرى وسيكون حينها حديثا نقديا يتلمس شيئا من ملاحظاتي الفنية عن الفلم .. لكني احب هنا ان اقول لمحمد الدراجي لقد كنت رائعا ومثابرا .. كان ياسر ( الطفل بطل الفلم ) والمرأة الكردية التي مثلت دور جدته رائعين وكنت موفقا جدا باختيارهما .

لقد قمت وفريق عملك بما اشعرنا بوجود سينما عراقية قادرة، لو وجدت الدعم، على تمثيل العراق في مهرجانات العالم .. اخترت ثيمة هائلة بالايحاءات وخليت بيننا وبين دموعنا فطهرتنا من رذيلة نسيان ما فعله النظام البائد .

ملخص الفلم :

مرأة عراقية كبيرة السن من شمالنا الحبيب، لا تتحدث العربية تقرر رفقة حفيدها ان تذهب الى الناصرية باحثة عن ولدها الذي اخذه النظام عام 1991 الى هناك، وفي رحلة مضنية يتخللها عزف احمد حفيدها للناي الذي كان يشتهر به ابوه ابراهيم تصل المرأة وحفيدها الى الناصرية في اجواء الحرب بعد سقوط النظام (احداث الفلم جرت عام 2003 بعد السقوط) وحين تبحث مع الباحثين يعلمها اخرون ان مقابر جماعية اكتشفت في المحاويل فتنتقل الى هناك وتبحث في المقابر وتجلس مع الهياكل العظمية بينما يروح الولد يبحث في الهويات المدفونة ليقرأ بعض الاسماء التي تنوعت بتنوع العراق، وحين لم يجدوا شيئا يقررون العودة وتموت العجوز في الطريق لانها لم تتحمل هذه الفاجعة) .

اسامة العقيلي

برلين

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1318 الاثنين 15/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم