قضايا وآراء

الفلسفة الإقتصادية والإستثمارات الأجنبية في العراق

 للإستثمارات الأجنبية نظرة فيها كثير من الحذر والتوجس والريبة على اساس انها تمثل في كثير من الأحيان حصان طروادة الذي تتسلل من خلاله القوى الأجنبية لتمارس انشطتها (المشبوهة) او تأثيراتها ذات الصبغة غير الوطنية وغير القومية

كان ذلك في الماضي . غير ان العقود الأخيرة حملت افكارا جديدة وتغيرت امور كثيرة وافكار كثيرة . تغيرت الأيديولوجيات وتغيرت النظريات وتطورت الأمور في مجال الأفكار والنظريات الاقتصادية . بل وصلت الى النقيض تماما . ففي الوقت الذي كان فيه الإستثمارات الأجنبية خلال سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات تبحث عن الميادين المناسبة التي تستثمر فيها من دون ان تحظى بالترحيب الكافي من جانب الدول النامية بل وتجابه بالصد والنفور غالبا ، اصبحت هذه الدول في الوقت الراهن هي التي تبحث عن الإستثمارات الأجنبية وتشرع لها القوانين وتمنحها التسهيلات وتقوم باصدار التعليمات التي تساعدها وتمنحها المزيد من المغريات وتوجهها الى تلك الميادين التي تناسبها داخل البلد ووصل الأمر الى درجة التي اصبحت فيه هذه البلدان تتنافس بشدة من اجل الحصول على الإستثمارات الأجنبية واصدرت اغلب الدول النامية بما فيها الدول العربية القوانين التي تشجع الإستثمار الأجنبي وتمنحه الإمتيازات .

في العراق الذي كان يعيش في عزلة كاملة عن العالم علميا وثقافيا وفكريا ما تزال الأفكار القديمة عن الأستثمار الأجنبي تعشعش في العقول واذهان الكثير من العراقيين ليس فقط على مستوى ابن الشارع البسيط بل حتى في اروقة الجامعات . فما يزال الكثير من الأكاديميين العراقيين يتبنون نفس الأفكار القديمة التي عفى عليها الزمن وذلك نتيجة لعزلتهم وعدم احتكاكهم بالعالم الخارجي وابتعادهم عن حركة تيار الفكر العالمي .

بعد سقوط النظام السابق ارتفعت بعض الأصوات الداعية الى انفتاح الإقتصاد العراقي وضرورة الترحيب بالإستثمارات الأجنبية فقامت الدنيا ولم تقعد وثارت ضجة هائلة وتصاعدت الإتهامات حول بيع العراق والإقتصاد العراقي للرأسمال العالمي وللاجانب ، ولكن تطورات الأحداث الأقتصادية والمالية في عراق ما بعد صدام وظهور مافيات الفساد وتناميها الى شبكات رهيبة ابتلعت عشرات الميليرات من اموال العراق من ان تجد من يقف بوجهها و ظهر ان الدافع الحقيقي ليس الحرص على البلد وموارده الإقتصادية بل هو الأنفراد بالكعكة المالية الضخمة وصادرتها من دون حسيب او رقيب .

عندما يتم التطرق لموضوع الإستثمارات الاجنبية يتحدث البعض عن امكانات العراق المالية وثرواته ومن انه لا يحتاج الى راس المال الأجنبي لأنه يمتلك ثروات كثيرة الى اخر هذا الكلام الساذج وغير العلمي وكان الإستثمارات الأجنبية تقتصر فقط على موضوع راس المال . ان الإستثمار الأجنبي هو ليس فقط راس المال كما يتصور البعض خطأ بل انه بالدرجة الأولى يشمل نقل التكنولوجيا الحديثة التي اصبح العراق بامس الحاجة اليها بعد عقود من التخلف ، كما يشمل الأساليب الحديثة في الإدارة وادخال تقاليد العمل الجديدة وتدريب الكوادر الوطنية سواء في مجال الإدارة ام في مجال التكنولوجيا وتشغيل القوى العاملة العاطلة عن العمل ومشاركة العالم في النهضة العلمية الحديثة وتطوير ثقافة العمل الى اخر ذلك من الفوائد الكثيرة التي يمكن ان يجنيها الإقتصاد العراقي والشعب العراقي .

اما الحديث عن زيادة النفوذ الأجنبي والتاثير على القرار الوطني فهو حديث فيه الكثير من التبسيط حيث ان التداخل في الأنشطة الإقتصادية في العالم والتشابك فيما بين مختلف الميادين والحقول اصبح من الشدة لدرجة اصبحت فيه المصالح مترابطة بشكل كبير وبالتالي اصبحت القرارات مشتركة بين مختلف الأطراف وبذلك لا يوجد طرف ضعيف وطرف قوي بل يوجد مفاوض ضعيف ومفاوض قوي وذلك ان كل الجهات لها دورها في عملية اتخاذ القرارات ولا يمكن تجاهل رأي اي جهة لأن ذلك يخلق خللا في البنية الإقتصادية المشتركة وبالتالي يؤدي الى عدم تحقيقه اهداف النشاط الإقتصادي ككل .

ان نشاط الشركات (متعددة الجنسية) او ما تسمى احيانا (عابرة القومية) ازال العقد القديمة حول تصادم المصالح القومية او الحساسيات الوطنية بمعناها السياسي وحل محلها مصالح لشركات غير منتمية سياسيا وقوميا بل هي عبارة عن كيانات اقتصادية هدفها الأول تحقيق النجاح الأقتصادي وتعظيم الأرباح والمكاسب المادية وهي بذلك منظمات بلا حدود . لقد فهمت بعض الشعوب والبلدان جوهر العصر وتعاملت مع معطياته بانفتاح وتفاعل لذلك نجحت امارة صغيرة مثل دبي مثلا في ان تختزل الزمن وتقفز خلال ثلاثة عقود فقط وهي نفس الفترة التي كانت فيها العراق يحارب (ويناضل) و(يكافح) من اجل تحقيق الأهداف (العليا) نقول نجحت هذه الأمارة الصغيرة بالقفز خلال هذه الفترة القصيرة من عصر البداوة الى عصر المعلوماتية . وقبلها فعلت سنغافورة وتايوان وكل النمور الأسيوية .

لقد بدأت كوريا الجنوبية التي كانت تدعى عميلة الإمبريالية الأمريكية بنفس السنة والتاريخ الذي بدأت فيه كوريا الشمالية (الحرة المناضلة) وهي سنة 1953 تاريخ انتهاء الحرب الكورية ولكن الأولى فتحت ابوابها للإستثمارات الأجنبية في حين ان الثانية بنت حول نفسها سياجا حديديا بحجة الحفاظ على الهوية الوطنية والخوف من تسلل النفوذ الاجنبي الى اخر الحجج الواهية والجاهزة التي تتذرع بها بعض القيادات السياسية . وهكذا قفزت كوريا الجنوبية خلال نصف قرن الى مصاف الدول الصناعية الكبرى في العالم في حين بقيت كوريا الشمالية عاجزة عن اطعام شعبها وعن ايقاف موجات المجاعات التي تتكرر سنويا .

ان احدى اكبر الدول المستقطبة للأستثمارات في العالم حاليا هي الصين الشعبية وهي نفس الصين التي كانت قبل ثلاثة عقود فقط تعد من اكثر الدول انغلاقا في العالم ولكنها الأن ادركت طبيعة العصر واشرعت ابوابها للاستثمارات الأجنبية وانفتحت على العالم لذلك فأن منتجاتها تغرق الأسواق الأمريكية والأوربية وتنافس منتجات تلك البلدان في عقر دارها . وقد عملت المستحيل لكي تدخل الى منظمة التجارة العالمية ودخلت بالفعل وازيلت من امامها المعوقات والحواجز . لقد تغيرت فلسفة العالم الأقتصادية واصبحت الشعوب تقيم النظم الإقتصادية من خلال المكاسب التي يتم تحقيقها على الأرض وليس من خلال النظريات الطوباوية والكلام المنمق .

ان راس المال ليس له وطن . واذا كانت هذه السمة ملازمة لراس المال دائما فقد اصبحت الأن اكثر وضوحا حيث تعبر عن نفسها بالسعي الى البحث عن الأمن والأستقرار والفرص المتاحة في اي بلد يوفر لها ذلك بصرف النظر عن الجوانب السياسية والقومية والوطنية . هنالك مئات المليارات من الدولارات العربية التي لايعرف حجمها بسبب سريتها وكثرتها ، ويقال انها بلغت عدة ترليونات والتي تتجول في القنوات المالية على شكل استثمارات سواء في سوق الأسهم والسندات ام في اسواق العقارات ام في اسواق المضاربة والبورصات ولكن لم يقل احد انها استعمرت العالم اقتصاديا او زادت من نفوذ العرب السياسي . انها اموال بلا هوية وطنية او قومية ، بل هي استثمارات تبحث عن فرص في اجواء امينة وهادئة ومستقرة لزيادة مردودها الأقتصادي وتعظيم ارباحها . كما ان الدول الغربية اصبحت دولا مفتوحة بالكامل للأستثمار الأجنبي ومشجعة عليه بشكل كبير ولكن ذلك لم يجعلها دولا فاقدة للسيادة بل على العكس فالدول التي اصبحت سيادتها مهددة هي الدول المنغلقة سياسيا واقتصاديا .

اذا كانت هناك مصلحة مشتركة بين المستثمر الأجنبي والبلد المضيف لأن كلاهما يربح من عملية الإستثمار فإن البلد المضيف بالتالي هو اكبر الرابحين لأن نتاج عملية الأستثمار سوف يبقى على ارضه ويسجل لصالحه من خلال ما احدثه من تطوير في البنية الأقتصادية وتطوير المهارات ورفع مستوى الحياة .

 

 

صحيفة المثقفwww.almothaqaf.com     العدد: 1055  الجمعة 22/05/2009    (ارشيف الاعداد)

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي الصحيفة بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.

في المثقف اليوم