قضايا وآراء

إشكالية الحداثة في الشعر السياسي .. يحيى السماوي أنموذجا (5)

(ما يلوح في الأفق

ليس بيتا أبيض

إنه:

جبل

من أكفان ضحاياه – شاهدة، قصيدة البيت الأبيض، ص 133) .

أي أن البياض المغدور والمتراكم يمكن أن يكون سوادا وبلا رحمة، ولكنه السواد اللعوب الذي لا يمسك بمعانيه إلا الشاعر الجسور المقاوم، الذي يدرك أن البياض بياض مهما حاولت القوة الغاشمة إلباسه سواد الباطل الزائف، وهذه حلقة من حلقات السلسلة المتناوبة التضاد بين ابيض وأسود، وبالعكس، والتي تلظم خرز مسبحة الصور المتسلسلة، والتي تستمر في أخذ بياض روح الأشياء الذي لا يصيبه الفساد (إذا فسد اللحم نعالجه الملح، فكيف إذا فسد الملح؟) مقابلا شكل الأشياء السود التي يلتحم جوهرها بمظهرها:

(مشفى أبيض

للقلوب السوداء

ثلاجة خرافية

للضمائر المحنطة

والشرف المتفسخ

تلال من الملح

مهيّأة

لنثرها في جراح الشعوب

شاهدة بيضاء

 في مقبرة العولمة

خُطّ عليها بالحبر السرّي:

هنا وُئدت السيدة " قوة الحق "

تنفيذا لأمر الحاكم " حق القوّة " – شاهدة، ص 134) ..

وهذا هو الذي يرسخ في الأذهان ما قلناه عن أن السواد الجديد سيمحق أي جزء من بياض الحياة والعدل والكرامة، ولكنه سيراوغ في تعبيراته بسبب جبروته المادي وعنفوان قوته فيصوّر ذاته بياضا متربعا على تلة السواد الكونية، وهذا مقلوب حاله الفعلي في البناء النفسي الداخلي . لكن مهارة يحيى الشعرية التصويرية تكمن ليس في توسيع هذا التصوير العام لخطوط الواقعة المتصارعة التي تجري على أرض بلاده كتمثيل لما يجري على الساحة العالمية حسب، بل في اختصاره وتركيزه وتكثيفه كما تفرض اشتراطات الحداثة . فالشعر كان قديما فن الإطالة والوصف واستعراض العضلات الشعرية اللغوية أساسا، أما الآن، وحسب التعبير الموفق للمبدع الراحل " محمود درويش " " فإن الشعر هو فن الحذف " . وفي المقطع الأخير من هذه القصيدة " امتلاء " التي تسبق القصيدة السابقة مباشرة فإن السماوي يختزل أبعاد المحنة الكونية، أو لنقل بطريقة معاكسة لا تخل بالاستنتاج أنه كان يريد بطريقة تقدمية أن ينطلق من نقطة ابتدائية يحملها معان كونية إلى نقطة جسيمة الأبعاد تتمثل في عذابات بلاده الذبيحة التي اتسعت لتتحول – وعلى الطريقة الصوفية أو البوذية - إلى ذرة الرمل أو الرز تلك التي تحمل في أحشائها الصغيرة العالم، بل الكون كله، وبالعكس . والمشكلة الامتيازية المضافة تتمثل في " الذرة / النواة " التصويرية التي يختصر بها الشاعر صراع الوجود الكلي المؤرق هذا:

(المشكلة

ليست في استحالة

إقامة الإلفة

بين القطة والسمكة

إنما

في استحالة

أن تتنفس القطة

تحت الماء

وأن تتنفس السمكة

خارج حوضها – شاهدة، ص 132) .

 

- النزعة التفاؤلية:

.. ولكن ما الذي سيفعله الشعر إذا تحول إلى نداءات شجب وغضب ونقمة ملتهبة فقط؟ وما هو دور الشاعر الإنقاذي الفعلي إذا كان يشجب الأفعال المدنسة ويصوّر أهوال الشدائد الفاجعة حسب مهما كان هذا الشجب والتصوير رائعا ومخلصا؟ . لا مراء أن هذه أفعال هامة وحاسمة، فهي تنتصر للحقيقة ولكرامة الإنسان وتعزز قوى جبهة التحرر في مقاومة قوى الطغيان وتفضح الأبعاد الوحشية للسلوك اللاإنساني للغزاة والمحتلين . لكن كثرة الطرق على الناحية الشاجبة والساخطة قد ترسخ النزعة التشاؤمية في نفوس المتلقين وتجعلهم يراوحون عند عتبات أبواب الخراب كحقيقة نهائية . إنها قد تصبح، في المآل الأخير، استعراضا للقوى الغاشمة، ولقدرتها على تحقيق كل هذا الخراب الواسع، وإمعانها فيه من جانب، وقد تجعل النفس البشرية بحفزاتها المازوخية المعروفة، تستمريء نصوص التشكّي والسخط والحرمان وتقريع الذات من جانب آخر . إن الشق المكمّل لهذا الموقف هو الحض على النهوض وتصعيد إرادة الإنعتاق وتحشيد رؤى المتلقين في إمكانية تحطيم قيود العبودية وسحق غيلان الشر . وهناك رأي شائع يتداوله العامة وهو أن (الكلمة لا تؤكل خبزا !!) بمعنى أنها عاجزة عن إحداث أي فعل تغييري حازم في الواقع الخانق القائم . ولا أريد الإنسياق خلف التبريرات الأسطورية والسماوية التي ترى أن الكلمة تحيي وتموت وأن الله كلمة وأنه يقول للشيء كن فيكون رغم أهمية هذه التبريرات الحاسمة . مشكلة هذا العصر هو أنه سحق المكون الأسطوري والروحي في اللاشعور الجمعي للإنسان وألقاه في مصيدة المقارنات المادية التي نتيجتها بالتأكيد ليست في صالح الإنسان المقهور . فمحنة الإنسان الدائمة هي أن الشر مسلّح بمخالب وأنياب (راجع الصورة النمطية للشيطان) في حين يتسلح الخير بالنوايا الطيبة . أقول لا أريد الانسياق وراء تلك التبريرات على الرغم من أهميتها الفائقة، وأميل إلى الأمور العملية الإجرائية . لنشاهد ما يكتبه السجناء السياسيون على جدران الزنزانات في المعتقلات وسنجد أن كثيرا منها من أبيات وقصائد الشعر المشهورة . إنها أكثر حتى من النصوص الدينية لأن جذوة الأمل بالماورائيات والميل إليها يضعف بمرور سنوات العذاب وتطاولها . حتى العبارات التي تنتخي بالأم أو الأولياء أو تستعيد الذكريات البعيدة تأتي في تعبيرات شعرية . لقد كانت الجماهير تخرج في تظاهرات حاشدة ضد السلطات بعد أن يكمل الجواهري العظيم قصيدته . فما الذي حصل الآن؟ إذا كان فقدان الشعر لدوره الإنساني المقاوم نتيجة لهذا المد المضلّل والذي أسيء فهمه وتوظيفه وذلك من خلال تحويله إلى أحاجي وألغاز وألعاب ذهنية يفهمها الشعراء أنفسهم، وأحيانا لا يفهموها ولكنهم يجاملون بعضهم بعضا، فوق أن أغلب النقاد يقعون ضحية ما يمكن أن أسميه بـ " الإرهاب الحداثي " عندما يعلنون مواقف مضادة لهذه الموجة التي غرّبت الشعر وجعلته فن نخبة النخبة، فهم سيتهمون فورا بأنهم متخلفون وتقليديون ولا يفهمون أسرار الحداثة . ولعل من الأمثلة على هذه المجاملات الأخوانية التي تدوس على رقبة الحقيقة وتمسخ الأخلاقيات الإبداعية ما ذكره الدكتور " عبد الواحد لؤلؤة " في كتابه " مدائن الوهم – شعر الحداثة والشتات " وهو يعلّق على مجموعة شعرية لـ "خالد المعالي" هي (عيون فكّرت بنا) فيقول: (لا يكاد المرء يصدق أن كلاما مثل هذا يجد طريقة إلى النشر في (مجموعة شعرية) باسم الحداثة .. على امتداد مئة وخمسة وخمسين من صفحات هذه المجموعة، لا تكاد صفحة تخلو من غلطة لغوية أو أكثر , نحوا أو صرفا أو اشتقاقا , و هو أمر لا يمكن التساهل فيه , إذا كان الشاعر يكتب بالعربية لا بالألمانية، كما يقال لنا في غلاف الكتاب . من لا يحسن كتابة الشعر الموزون لا يحسن كتابة الشعر الحر أو المنثور . ليس هذا رأي أصحاب الحداثة في الغرب وحسب، مثل (باوند) و (إليوت)، بل ثمة كثير من الأدلة على ذلك في شعر المعاصرين من أبرز شعراء العربية (...) رصف كلمات لا تفيد معنى ولا تثير إحساسا بإيقاع نغم أو تفعيله , تحت مظلة الحداثة في الشعر الحر تذكرني بزميل مصري خفيف الدم , يندر أمثاله (هذه الأيام؟!) كان بارعا في محاكاة صورة الشاعر (الحداثي) في إطراقته و نظرته الساهمة , يأتي كل صباح بقصيدة حرّة حداثية مازلت أذكر منها:

(وكما أحتقر الفضيلة أحترم رجال الدين و ألتهمُ برتقال الجيران فيلٌ في حمام الأطفال و الفوطة ...) ثم يفضح الأستاذ الشيخ (لؤلؤة) لعبة التواطؤ والمجاملات الإخوانية فيقول: (لكن المرء يعجب من هذه القدرة على رصف كلمات تخفق في إيصال أي معنى، إلى جانب افتقارها إلى أي إيقاع أو جاذبية موسيقية . يُقال لنا على غلاف الكتاب إن الشاعر ولد في صحراء العراق ويعيش الآن في ألمانيا وإنه قد حصل على جائزة أدبية ألمانية عام 1988 . وهذا كله جميل، ويدعو للزهو بأديب انتقل من جدب الصحراء إلى نضارة العيش في كولونيا . ويخبرنا [ صديقه؟ ] (عباس بيضون) : (أن نص خالد المعالي يحفر في موضعه .. يدمّر في موضعه .. يتفرّغ من صوره و معناه فلا يعود آخر الأمر سوى شخص للفراغ . هذا الفراغ إمارة العقل الأسود) .

لستُ أدري إن كانت اللغة العربية هنا تفيد المديح في وصف كلام " يتفرّع من صوره ومعناه " فيكون علامة " العقل الأسود " ! هنا " لا يتكوّن الكلام إلا ... بلاهة ونفايات " – ص 125 – 130) .

لكن يحيى السماوي يقدم النموذج الموفق الذي يحلّ هذه الإشكالية، إشكالية أن تكتب شعرا ملتحما بأرضه وآلام بلاده وهموم شعبه ويحمل في الوقت نفسه سمات الحداثة في الصورة واللغة والبناء . ولأنني قد استعرضت الكثير من السمات الأسلوبية لمنجزه الشعري في هذه الدراسة وفي الدراستين السابقتين، فسوف أتحدد بتبيين أبعاد نزعته التفاؤلية التي تبشّر بانتصار إرادة الإنسان – إنسانه العراقي تحديدا – في قصائد " مفهومة " تمنح القصيدة العربية حرية أكبر وقبولا أوسع من قبل قطاعات واسعة من المتلقين والنقاد دون أن تغرقهم ألغاز " الحداثة " المفتعلة أو يسلط على رؤوسهم سيف الإرهاب النقدي " الحداثي " . ولعل مسخ صورة المتجبّرين الذين قد يقع الأنسان المقهور في وهم تصوّرهم " سوبرمانات " خارقة يعكس جانبا من نزعته التفاؤلية . فبالنسبة إليه هؤلاء مهزوزون في أعماقهم وقلقون وعابرون في مجرى التاريخ:

(أمن ثقل وَزر الخيانة

أم الحبوب المهدّئة للأعصاب

تترنح سيقانهم؟

يريدون التحكم بمجرى النهر

مع أنهم

ليسوا أكثر من " واو " عمرو "

في تاريخ مجراه – شاهدة، قصيدة هذيان لا يخلو من حكمة، ص 43و44)

إن السخرية من هذه الرموز الخانعة التابعة التي هي (على أبناء جلدتها أسودُ) كتعويض عن تبعيتها ومهانتها في علاقتها بالغازي المحتل يضعها في موقعها الطبيعي كنماذج بشرية مزرية لا ككائنات خرافية:

(لا طاعة لحاكم محكوم

لماذا يمشي الطاووس متبختراً؟

ألا يعرف أنه ودجاج حديقة الحيوانات

يسكنون قفصا واحداً؟ - شاهدة، قصيدة كلمات متقاطهة، ص 126) .

ولعل من الصور الشعرية الرائعة والنادرة هي الصورة التي يستقيها من بيئته الصحراوية – وخالد المعالي من البيئة ذاتها – حين يصف الكيفية التي سوف يلفظ فيها التاريخ هؤلاء الخونة:

(مثلما ينفض البدوي عباءته بعد العاصفة

سينفض التاريخ من صفحاته البيضاء

الساسة الذين ملأوا:

مياديننا بالميليشيات

وحاراتنا بالملثمين

وبيوتنا بالنحيب – شاهدة، قصيدة ما قاله التاريخ، ص 54) .

وهو – في القصيدة عينها - يدعو حبيبته إلى نبذ اليأس، ويستشرف اليوم القريب الذي سوف تتدلى أعناق هؤلاء السياسيين من سقف الصفحات السود في كتاب التاريخ:

(فلا تقنطي ياحبيبتي

..................

ستتدلى حتماً:

الزهور من الشرفات

........................

وخونة الوطن من الحبال

الحبال المتدلية

من سقف الصفحات السوداء

في كتاب التاريخ – شاهدة، ص 55)

وستلاحظ هنا " إغلاق " دائرة القصيدة من خلال العودة إلى استهلالها الذي يستشرف الكيفية التي سوف يلفظ بها التاريخ هؤلاء الساسة المنافقين . وقد جاءت هذه العودة موفقة فنيا من خلال تحويل الصفحات البيض من كتاب التاريخ إلى صفحات سود، وذلك لأن البياض لا يتعايش مع العفونة والنفوس الشائهة، في حين أن السواد يتناسب معها، وهذا الوعي من اشتراطات الحداثة .

وحين أشرت إلى أن المعالي من البيئة نفسها فلكي أحيل إلى الكيفية التي يمكن أن تكون فيها محليا وحداثيا في الوقت نفسه . يقول المعالي في قصيدته (خطاب – 1):

(وقتي رأس حمار أشهب، ربما يضيع التسليم بأمور وأفكار وسيعة كهذه الذكريات التي تسيح كالتراب، إذ من أين للذكر والذي كان تافها ومرّا مَثَلي؟ [ مَثَلي كذا ] وهو يعدو باسطوانات المذيع ويذكّر الآخرين بالتواريخ . قال الصديق: وهو يشبهني عن ظهر قلب: هي الخطوات أن نتقاتل أو نحتفل، وقد أذكر، لكنها رسائل لا تصل، فيما أمضيت وقتي في التذكر أو مداعبة الوريقات ... الصديق الذي ذكرتُه .. كان يحمل لي مشورته ساهما كالحمار أمام نفسه – مدائن الوهم – ص 128) .

والشاعر – وهذه سمة عملية – ليس هتافيا بلاغيا يقع في شراك الحماسة العمياء التي تسهم في توسيع الآثار السلبية لما سمي بـ " العقلية الشعرية " التي تفضي إلى انتفاخ الشعور الذاتي وضعف اختبار الواقع والحسابات الخيالية والاستهانة بالحواجز الفعلية والتي تجعل الصدمة رهيبة عندما تحل أي هزيمة . هذه العقلية هي في الواقع عقلية عصابية، وهي واحدة من أهم أسباب هزائم الأمة وتدهور حالها . إنه واقعي في نزعته التفاؤلية . فأولا هو مبادر لا يخدع ذاته بالنظر إلى النصف المملوء من الكأس الفارغة كما تقول الحكمة التقليدية ولكنه يسعى إلى ملء النصف الفارغ:

(شوك التفاؤل أجدى لروحي

من حرير القنوط

لا أكتفي بالنظر

إلى النصف المملوء من الكأس

وحين يكون فارغا

لأملأه برحيق الأماني

وندى الأمل

وشهد الأخيلة – شاهدة، قصيدة امتلاء، ص 130) .

وهو يؤمن أن قدرات الإنسان على العطاء لا تحدها حدود، ليس بمعنى الانتفاخ النرجسي المرضي ولكن بمعاني العطاء الواقعي الذي يبدأ من الكلمة .. كلمة الدعاء الإيجابية . فالعقلية الشعرية السلبية هي عقلية التمنيات وأحلام اليقظة والآمال، في حين أن العقلية التي يدعو إليها السماوي هي عقلية الأفعال المبادرة الخلاقة مهما كانت بسيطة في الظاهر . فالكأس التي يتحدث عنها السماوي حين تفيض إنما تأتي من تجمع قطرات صغيرة . والمشكلة لا تكمن في الطرق الوعرة بل في الخطى الواهنة:

(هب أنك

أضعف من أن تغرس البذرة

..........................

لكنك حتما

تمتلك القدرة على العطاء

إن لم تستطع

سقي البذرة بعرق الجبين

فبماء دعاءٍ

تعضد به أيدي الغارسين

لا يوجد طريق وعر

توجد خطى واهنة

لنفوسٍ

آثرت التدثّر بريش الظنون

في وقت

هي بحاجةٍ إلى شوك اليقين – القصيدة نفسها، ص 131و132) .

ومعادلة ريش الظنون / شوك اليقين تعكس وعي الشاعر الحاد في تأمين وحدة قصيدته، فهي تقابل معادلة حرير القنوط / شوك التفاؤل التي استهل بها القصيدة .

ويلجأ الكثير من الشعراء الذي يكتبون نصوصا مقاومة إلى إطلاق خطابهم بصيغة " الأنا " التي تحل محل ضمير الجماعة . ومع تعاظم جسامة المسؤوليات التي ستتحول من كاهل الجماعة إلى كاهل الفرد لا يجد الأخير مناصا من يوازي تعاظم المهمات بتعاظم ذاتي مكافيء فنجد الإعلان عن القدرات الخارقة والطاقات المؤسطرة والتحولات الخرافية التي ستمحق القتلة الغادرين . لكن السماوي واقعي النظرة وعملي الروح يؤمن أن أي فعل تغييري شامل لن يتم إلا من خلال وحدة الرد الجماعي .. ويدرك أن الشفة الواحدة لن تكون فماً:

(لأنّ الشفة الواحدة لن تكون فما

وليس من نهر بضفة واحدة

لأن الوردة لا تكون بمفردها حديقة

وما من طير يكون سِرباً بمفرده

فقد آن لكل الجداول أن تتحد

لتصنع الطوفان – شاهدة، قصيدة: كي لا نُذل أكثر، ص 100)

وتتجسد هذه القناعة في أن أغلب قصائد " الأنا " الفرد تكون ذات روح تشاؤمية والقليل منها ذو تطلعات متفائلة، أما قصائد الجماعة: المتكلمة والمخاطبة، فهي على العكس من ذلك، فأغلبها ذو طابع متفائل نزّاع إلى الخلاص، في حين أن القليل منها تسيطر عليه روح التذمر واليأس والاستكانة . في قصيدته " الجنة ليست منجم فحم حجري " مثلا، وهي من قصائد " الأنا "، يعلن الشاعر تخلّيه حتى عن مدينته محاصرا بالموت والخراب واليتم والمفخخات:

(سأعود إلى صحرائي

وخيمتي ..

وناقتي ..

هذه المدينة مسلخ بشري

خفيفا سأخرج

ها أنا أعرض خردواتي على الرصيف:

عندي سيارات جاهزة للتفخيخ

ومن الأطفال ما يكفي لافتتاح

عشرين مقبرة جديدة – شاهدة، ص 117) .

أما في قصيدة " كي نغفو مطمئنين دون كوابيس " وهي من قصائد الصوت الجمعي فإن الشاعر يرسم طريق الخلاص من خلال الإلتحام العام:

(ستبقى حقولنا حطبا لمواقدهم

................................

ما لم نحصّن:

أنهار مسيرتنا بسدود اليقين

بصرنا بالبصيرة

وقلوبنا بالإرادة

لنغفو مطمئنين

تحت ظلال المآذن

دون كوابيس تقرّح أجفاننا

برؤية خنزير

من خنازير البنتاغون – شاهدة، ص 120و121) .

في قصيدة " ركض في منفى الشمس " وهي " تسرد " بصوت الأنا، والتي يشي عنوانها بانفتاح أبواب المحنة على مصاريعها الجهنمية، ينشغل الشاعر باجترار همومه الحارقة ومعاناة وحشته وضياعه وتشرده في المنافي:

(أليس من حقّ فراشاتي

أن ترتشف قطرة ندى

بعد طول هجير؟

وأن يكون لقدَمَيّ رصيف؟

ولرأسي وسادة؟

ولأطفالي هوية؟

ولخيمتي وطن من تراب

لا من حروف، كالذي يغفو خجولا

في جواز سفري المزوّر؟ - شاهدة، ص 112)

أما في قصيدة " كي لا نُذلّ أكثر " وعنوانها عملي يشي باجتراح طريق تفضي إلى الخلاص من المهانة وقيود المحنة، فإن تأتي بضمير الجماعة، وبدعوة ساخنة للتوحّد ومزج الطاقات للإطاحة بجدار الإحتلال:

(لنكن:

حجرا على حجر

كي ينهض الصرح

لونا إلى جانب لون

ليشع قوس قزح

..............

جدولا مع جدول

ليكون النهر العظيم

كلمة تقفو كلمة

ليكتمل المعنى

خطوة ترفد أخرى

لتتواصل المسيرة

ويدا إلى يد

لنُطيح بجدار الاحتلال – شاهدة، ص 100و101) .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1324 الاحد 21/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم