قضايا وآراء

الإكتشاف والامتثال الفرد / المجتمع / الدولة

والتشكل والوظيفة على مستوى الحس العام والمشترك،.. كيف ذلك؟ لأن الفرد لدينا ما زال فردا _في وعيه وحركته- يعيش خارج اطار الجماعة الإنسانية (المجتمع)، والجماعة السياسية (الدولة)، لذا لا نتلمس جوهراً حقيقياً لانتمائه المجتمعي والسياسي من صيرورات انسانية وسياسية مشتركة ومنتجة. وما زال المجتمع عندنا جماعات تعيش خارج اطار الدولة، فقد ارتضى المجتمع لنفسه عصبيات وعصبويات عرقية وطائفية واثنية وجد فيها الاعتراف والحماية وتأمين المصلحة، لذلك لم يكتشف المجتمع الدولة، ولن يكتشفها ما دام يعيش الانغلاق في الذاكرة والولاء والمصلحة.

والدولة لم تكتشف المجتمع، لأنها خابت في معاييرها العضوية عندما اعتمدت مفاهيم العصبيات والعصبويات العرقية والطائفية في التأسيس والولاء والمصلحة، ولأنها اختزلت ورهنت نفسها بالسلطة كدور ووظيفة،.. إن المواطنة والمواطنية، الديمقراطية والتعايش، الهوية والمصالح العليا.. اكتشافات وامتثالات متقابلة بين الفرد/المجتمع/الدولة، فإذا خاب الاكتشاف وانحل الامتثال، سيبقى الفرد فرداً دون أن يصل لمرحلة الإنسانية أو المواطنة، وسيتشيء المجتمع الى جماعات، والولاء الى عصبيات، والدولة الى سلطة، والسلطة الى سلطات بعدد العصبيات والعصبويات والعصابات،.. ليسود المشهد الكائنات الفردية أو الاجتماعية أو السياسية الهجينة اللا تاريخية.

 

المجتمع

المجتمع هيئة حاصلة من اجتماع مجموعة من البشر يعيشون في بيئة واحدة ويتألف بينهم الترابط من جهة القيم والأنظمة والقوانين والتقاليد والآداب والحوائج والأشغال والمصالح المشتركة.. لتنتج عنهم حياة اجتماعية. ويتشكل المجتمع أساساً عندما تنشأ العلاقات بين الأفراد بغض النظر عن نوع العلاقة نسبية أو عرقية أو دينية أو ثقافية، والحاجة الى العلاقة هي أس تكوين المجتمعات عبر التأريخ.

إنَّ الحياة الاجتماعية من الأمور الفطرية، فالإنسان جماعي بالطبع واجتماعي بالخلقة، أي أنها ميزة خَلقيّة طبيعية لا تتولّد عن الاضطرار أو الاختيار أو التعاقد، فالإنسان اجتماعي بالقوة، وإنما تخرج إنسانيته المجتمعية إلى الفعل والتحقق من خلال المجتمع، وهو ما نطلق عليه بالاكتشاف، ولنموه ورقيه يحتاج الى الامتثال.

ومع أنَّ وجود المجتمع –كوجود- يُعتبر وجوداً اعتبارياً، حيث أنَّ الموجود في الخارج هم الأفراد على سبيل التحقق، إلاّ انَّ وجود المجتمع وجود حقيقي بالتبع، لأنَّ الناتج من التفاعل القائم بين أفراد المجتمع إنما هو ناتج حقيقي وهو الروح أو الطبيعة الجماعية، وهذه الروح الجماعية هي في الحقيقة ناتج جديد حقيقي هي بمثابة نفس جديدة ناتجة عن النفوس الفردية الداخلة في التشكيل الاجتماعي، فالأفراد وحين انخراطهم في الهيئة الإجتماعية فإنهم يتفاعلون كوجودات حقيقية فيما بينهم من جهة الأفكار والمشاعر والأحاسيس والحاجات والمصالح المتبادلة، وهنا فالناتج من تفاعلهم الحقيقي هذا هي الروح الجماعية أو النفس الاجتماعية التي هي وجود حقيقي بدوره، فيكون للمجتمع وجود حقيقي وإن كان اعتبارياً من حيث الأصل. وعليه، فللمجتمع أصالة كما للفرد أصالة، فأصالة الفرد متحققة بذاته، وأصالة المجتمع متحققة من الروح والشخصية والإدراك والإرادة الجماعية العامة التي يؤلفها اجتماع الأفراد وما ينتج عنهم من تفاعل، فحياة وموت ورقي وتخلف المجتمعات حقيقة واقعية، فيمكنك أن تحكم على مجتمعٍ ما بالتخلف مع أنَّ صفة التخلف لا تصدق على جميع أفراده ففيهم الواعي والمتعلم والمثقف، وهنا فحكمنا جاء على المجتمع باعتبار أنَّ له وجوداً أصيلاً إلى جانب أصالة أفراده، من هنا كان للمجتمعات سُننها التأريخية الخاصة رقياً أو انحطاطاً مجداً أو ذلةً قوةً أو ضعفاً، وأنَّ لها أجلاً ومصيراً مشتركاً واحداً،.. لذا نعي: أنَّ العلاقة بين المجتمع وفاعليته وتأريخه هي علاقة تبعية بالضرورة، فالمجتمع هو الذي يصنع قدره ومصيره على أساس من ثقافته الكلية التي تشكل صيرورته ضمن وحدة متحركة لا تعرف الجمود على امتداد خط تفاعلها التأريخي.

 

ضرورة السلطة (الدولة)

لبقاء وتكامل المجتمعات، تبرز الحاجة لأمرين: إدارة الخلافات وتحقيق المصالح لعموم أفراد المجتمع،.. وهنا تتولد الحاجة الى النظام المتأتي من القانون، مما يولد الحاجة الى السلطة. وباعتماد السلطة يتشكل المجتمع السياسي تلقائياً، ومع تنامي حاجات ووظائف المجتمع السياسي تتنامى السلطة تأريخيا،ً والدولة أعلى بناءات المجتمع السياسي. صحيح أن الإنسان لا يجد نفسه إلاّ في المجتمع الإنساني، إلاّ أنّ المجتمع الإنساني لا يجد نفسه إلاّ في المجتمع السياسي (مجتمع السلطة)، كونه القادر على حل الخلافات وتحقيق المصالح نتيجة لتوافره على عناصر احتكار القوة والإلزام. من هنا يكون المجتمع السياسي شرطاً وجودياً لنشوء وبقاء السلطة، فهو مادة السلطة وجوهرها والوّلاد لها.

على أنّ تطور المجتمع السياسي رهن تطور المجتمع الإنساني في الوعي والثقافة والوظيفة والأداء، لذا كان رقي السلطات تعبير عن رقي المجتمعات، وكلما تطورت الأمة الإنسانية (المجتمع) تطورت الأمة السياسية (الدولة)، وسر التطور يكمن في الرابطة المعتمدة لتشكيل المجتمع السياسي، فكلما كانت الراوبط تقليدية، كلما تشكّلت سلطات تقليدية، والعكس صحيح.

 

رابطة الدولة

الدولة أعلى بناءات المجتمع السياسي، وبقاؤها وتماسكها وتطورها مرهون بتطور الرابطة المعتمدة كأساس للانتماء الى عضويتها. وكلما صدقت الرابطة على كافة رعاياها واشتملت على المساواة والتكافؤ.. كلما أنتجت جوهراً جمعياً متماسكاً يسمى الدولة. وتأريخياً تطورت رابطة الدولة بتطور الرابط للجماعة السياسية، من الروابط القبلية والقومية والدينية والطائفية.. إلى رابطة المواطنة.

أثبت تأريخ المجتمعات السياسية فشل كافة أنماط العضوية السياسية في الحفاظ على وحدة الدولة –كجماعة سياسية- وانسجامها وتطورها فيما لو أقصيت المواطنة. حيث تصدق وتشتغل روابط العضوية والانتماء العرقي والطائفي على الجماعة الإنسانية المكونة للمجتمع، لكنها لا تصدق ولا تشتغل على الجماعة السياسية المكونة للدولة،.. وكافة الروابط والانتماءات عدا المواطنة.. تشتغل في الحيز الإجتماعي الإنساني لا الحيز السياسي المشكّل للدولة،.. فالإنتماء إلى القوم أو إلى الطائفة مجاز وشرعي كونه انتماء بحكم الولادة أو الاختيار، وهو جزء من الهوية القومية أو الطائفية لهذا الفرد أو ذاك المكون. لكن القومية والطائفية محرمة، كونها إيديولوجيا وهوية سياسية بتحكيمها يتم العزل والإقصاء بحق المخالف عرقاً أو طائفة أو دينا،.. لذا لا تصلح لاتخاذها رابطة أو انتماء للجماعة السياسية المكونة للدولة.

أيضاً، ليس هناك مجتمع أو دولة لا تتسم بالتعددية داخلها، فإن كانت (صافية) العرق والقومية، فلن تكن (صافية) الديانة والطائفة والإثنية،.. إنّ اعتماد العضوية العرقية أو الطائفية في تكوين الدولة سيصدق عندها على مجموعة دون أخرى، وهو ما يؤسس للتمييز والصراع على حساب وحدة الدولة. والمواطنة هي الرابطة الوحيدة التي تصدق على كافة رعايا الدولة دونما تمييز، وهي الوحدة الأساس في التكوين للأمم السياسية، فهي من أشد أنماط عضوية الفرد اكتمالاً في الدولة الحديثة، وهي هنا ليست صورة باهتة لانتساب صورّي بين المواطنين ودولتهم المعينة، بقدر ما هي كينونة لجنس العلاقة الرابطة بين الفرد ومن ثَمَّ المجتمع بدولتهم التي يستظلونها وينتمون إليها. وهي على ذلك من مستلزمات الانتماء للدولة كوحدة سياسية متكاملة والتي تتألف من إقليم جغرافي ومجتمع ونظام وسلطات واعتراف دولي. ومثل هذا الانتماء يفرض حقوقاً ويستلزم واجبات كمنظومة متكاملة لا تعرف الفصل والتفكيك في أنظمتها واستحقاقاتها -إنطلاقاً من هذه العضوية المسمّاة بالمواطنة في ظل الدولة المعاصرة- والتي تكتسب بشكلٍ عام في ظل الأنظمة القانونية الحديثة على أساس الولادة في الدولة والانحدار من أبوين مواطنَين والتجنّس.

المواطنة على هذا الأساس صفة موضوعية عامة يتمتع بها كافة منتسبيها بشكل محايد لا تقبل التفاوت والتفاضل بذاتها، فليس بين المواطنين مَن هو مواطن أكثر من الآخر، وكافة الإختلافات العرقية والطائفية أو الامتيازات الاقتصادية والسياسية لا اعتبار تفاضلي لها في ظل هذه الصفة، من هنا تكون دولة المواطنة دولة الإنسان ودولة القانون التي تقر المساواة ولا تعرف التمييز والإقصاء، وهي دولة الرعايا الفعالين الذين يمارسون حقوقهم ويؤدون واجباتهم بوعي والتزام وحماس على أساس من الحريات والحقوق المدنية الثابتة.

خرجت المواطنة المعاصرة عن نطاقها التقليدي إلى حقٍ ثابت في الحياة القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الدولة ورعاياها، وهو ما يصطلح عليه بالمواطنية. ولا جوهر للمواطنية في ظل التعريفات أو الانتماءات العرقية والطائفية، ولا وجود لها في ظل النظم الدكتاتورية أو الملكيّة غير الدستورية أو الارستقراطية أو الثيوقراطية، فالمواطنة حصيلة ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة وما تقوم عليه من سيادة لحكم القانون والمشاركة المدنية السياسية الكاملة في ظل دولة المؤسسات.

الدولة (الثيوقراطية والقومية والطائفية والعشائرية والعائلية والفردية) هي دولة ما قبل دولة المواطنة، كونها تعتمد الروابط الفرعية المنحازة كأساس في العضوية السياسية للدولة، من هنا فهي دول تمييز لا مساواة، ودول امتياز لا حقوق، إذ تؤسس كيانها على وفق أسس الهيمنة والإقصاء والحجر في تنظيم العلائق والاستحقاقات بين المواطنين شركاء الوطن الواحد.

كافة أنماط المواطنة غير الديمقراطية هي مواطنة منقوصة، فالمواطنة المضطهدة والباهتة والمهمشة والمحجورة.. هي مواطنة ناقصة ومنقوصة إذ انَّ وجودها مقترن بالانتهاك القانوني والسياسي والثقافي بفعل التمييز. ولتمتع المواطن بكامل مواطنيته واستحقاقاتها يتوجب اعتماد النظام الديمقراطي الذي يعني دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى إدارة المواطنين واختيارهم الحر ومساهمتهم الفعّالة في إنتاج تجاربهم على أساس من الحرية والأهلية التامة غير المصادرة، من هنا يعتبر المواطن في الدولة الديمقراطية وحدة سياسية تامة.

 

ثلاثي النجاح المجتمعي والسياسي

يتأسس النجاح والتطور لأية أمة انسانية أو سياسية على وفق أسس: المواطنة والديمقراطية والتعايش،.. المواطنة كلازم لتشكيل الجماعة السياسية بعيداً عن الروابط العرقية أو الطائفية أو الجهوية، والديمقراطية كلازم لإنتاج  السلطات وإدارة الخلاف والمصالح، والتعايش كلازم لقبول الآخر وحقه الإنساني دونما تمييز أو إقصاء. والعلاقة بين هذه الأسس علاقة تبادلية وتضامنية لتعزيز التوزان في الدور والوظيفة بينهما، وهو ما ينتج النجاح والتطور للمجتمع والدولة المدنية الحديثة.

لا يمكن أن تقوم دولة إذا ما فشل المجتمع في إنتاج وحدته وتماسكه، ولن تنتج وحدة مجتمعية ويستقيم تماسك إنساني، دونما تعايش مشترك، ولن يستديم تعايش مشترك دونما روابط عضوية سياسية عادلة وتأمين مشترك للمصالح.

تتقوض فرص البقاء المجتمعي فيما لو اعتمدت رؤى التمييز ومناهج الإقصاء وقيم الكراهية القائمة على رفض التعايش المؤسَس على الاختلاف، وتضمحل امكانية التماسك الوطني والاجتماعي فيما لو سادت ثقافة العنف والتسلط والإكراه ومصادرة الحقوق، سواء في تطبيقات الدولة أم في تطبيقات المجتمع،.. من هنا فإنّ بقاء المجتمع والدولة يرتبط عضوياً بنمط القيم والثقافة السائدة، وقدرة هذه القيم والثقافة على تبني مقومات التماسك الإنساني والتناغم السياسي من مواطنة وديمقراطية وتعايش كأسس منتجة لإندماج مجتمعي ولدولة الجمهور،.. وأدنى ركون لمفهوم ورابطة المكوّن الفرعي في تعابيره الطائفية أو العرقية أو الجهوية الضيقة.. سيقضي على وحدة المجتمع الإنساني، ويصادر وجود دولة الجمهور الوطني ليؤسس لدولة المكوّن الفرعي، وهو ما يقود لإنتاج دويلات بعدد مكونات الدولة على وفق الهويات والمصالح الخاصة بهذا المكوّن أو ذاك،.. وهنا ستنتفي وحدة الدولة وتنشطر وتتكثر على مستوى الوعي والهوية والإنتماء.

وفيما لو فشل المجتمع (الإنساني والسياسي) بإنتاج ذاته على وفق أسس المواطنة والديمقراطية والتعايش.. فسيبقى مجتمعاً تقليدياً في بنيته يستند مفهوم وثقافة وولاء الجماعة الإثنية والطائفية والعرقية والجهوية الضيقة التي لا ترى غير إطارها الخاص ولا تدافع إلاّ عن مصالحها الذاتية،.. وبالنتيجة سيتم تغليب الجماعة على المجتمع كمفهوم واستحقاق، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغليب السلطة على الدولة، وهو ما يؤسس لسلطة الجماعة لا دولة المجتمع. ومع غياب الدولة لحساب السلطة وغياب المجتمع لحساب الجماعة.. تتعدد مراكز السلطة بتعدد الجماعات الإثنية والطائفية، ثم تتعدد السلطات بتعدد مراكز القوة والنفوذ والمصالح داخل الجماعة الإثنية أو الطائفية الواحدة،.. والناتج قيام سلطات بعدد المجموعات داخل الجماعة الطائفية والعرقية،.. وهو ما سيؤدي ليس فقط إلى تفكك الدولة وتلاشي وحدة السلطة بل سيقود أيضاً إلى تكريس السلطات المتكثرة بكثرة المجموعات التي ستطغى لتبتلع المجتمع كهيئة ودور.

 

 

معادلة الاكتشاف والامتثال

معادلة واضحة وبسيطة علينا كأمة اكتشافها والامتثال لها، هي: لإنتاج الأمة الوطنية (أمة الدولة) لا مناص من اعتماد الثلاثي العضوي، واقصد به: المواطنة المفعمة بالحقوق والواجبات، والديمقراطية العددية الصانعة للقرار السياسي، والتعايش المستند الى قبول التعددية الشاملة. وكافة البناءات الفوقية للمجتمع والدولة من اقتصاد وثقافة وتعليم وتنمية.. رهن هذا الثلاثي العضوي، وإلاّ، فدوامة التيه والتشرذم والاستلاب ستسود وتتسرمد.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1343 السبت 13/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم