قضايا وآراء

الدولة المدنية والدولة الدينية

 لا يمكن تأطيرها بشكل محدد من الأنساق الثابتة.

من خلال مراجعة النص القرآني لا نلحظ أية إشارة للدولة، بل الإشارة كل الإشارة إلى الأمة،.. وهي مسألة في غاية الأهمية، فالأصل هو الأمة، والمتغير هو نتاجها ومنه الدولة وأشكال السلطة، وهي مسائل متروكة لوعي وفاعلية الأمة وتحولاتها التأريخية،.. ويبقى على الأمة والدولة والسلطة أن تهتدي بالقيم لضمان إشاعة العدل والخير،.. وأتصور أنّ أي حديث عن الدولة الدينية هو حديث لا يسنده النص ولا التجربة الدينية الأولى، وحتى تجربة (دولة المدينة) التي أسسها الرسول الأكرم (ص) لا يمكن حملها على الدولة الدينية، بل هي أقرب ما تكون إلى الدولة المدنية.

- سأقتصر في الإستدلال هنا على فكرتي هذه بتناول المواطنة والديمقراطية وعرضهما على النص والتجربة التأريخية الدينية الأولى.. وأتصور أن الدولة المدنية ترتكز المواطنة والديمقراطية في عمق جوهرها القيمي والقانوني.

 

صحيفة المدينة وعقد المواطنة

يمكن الإستناد إلى (صحيفة المدينة) كأهم حادثة تأريخية جسدت المبدأ القيمي الأول للدولة المدنية، ألا وهو المواطنة،.. فبمجرد هجرة الرسول الأكرم (ص) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة سعى لتأسيس الجماعة السياسية (أي الدولة)، وتشكيل الجماعة السياسية يستلزم اعتماد رابطة موحدة للأفراد، وصادقة على كافة أعضائها دونما تمييز،.. لقد وجد (ص) لديه واقعاً لا يمكن بحال حمله كلياً على أساس العقيدة، حتى أنَّ المسلمين المتوحدين بالعقيدة لم يكونوا واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الأرض والإمكانات والإنتماء إلى الأرض على عكس المهاجرين.. مما اقتضى الأمر المواخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة، كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود والنصارى.. وهنا فإنَّ اعتماد العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف يصدق على قسم من الناس ولا يصدق على القسم الآخر، فالإخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلح لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط وضمن شروط لتجربة أخرى تأخذ بكافة أسباب ومقتضيات التجربة الدينية البحتة، وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقائدية والإجتماعية، وهنا فإنَّ لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقائدية، فكانت (صحيفة المدينة) التي هي عقد سياسي لتشكيل أمة سياسية، وهذا ما فعله الرسول(ص) عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، ونلاحظ أنَّ الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الإتفاقية بأنهم (أمة من دون الناس)، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة. لقد وصفت الصحيفة - مثلاً- أنَّ اليهود طائفة من المؤمنين، والمؤمنون هنا هم الجماعة السياسية المكونة لمجتمع المدينة الذي توحد على أساس صحيفة المدينة، وقد أكدت أيضاً أنهم الكفة المقابلة للمسلمين في هذه المعاهدة ((وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم))، وأنهم جميعاً (أمة واحدة من دون الناس). وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكّلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة،..وهذا يلتقي مع مبدأ المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفـراد المجتمع السياسي للدولة والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعاً.

إنَّ تلّمس جوهر صحيفة المدينة يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، فقد قامت على الإعتراف بالتعددية وإقرار حرية المعتقد وعضوية الإنتماء إلى الجماعة السياسية والشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات المعنوية والمادية، كما منحتهم التكافؤ والكرامة في ظل التجربة المشتركة التي تعتمدهم جميعاً. ومن الملفت للنظر أنَّ صحيفة المدينة أعتبرت الحقوق هبة الله تعالى وليس لأحد انتهاكها وأنها قرنت الحقوق بالواجبات في تأكيد جازم على ملازمتها لإنتاج حياة مسؤولة وهادفة، وأشارت إلى قدسية حقوق الإنسان من خلال تأكيدها على التعاون ضد الظلم والفساد والطغيان وحماية الضعيف، ولم تعط أي طرف ميزة خاصة، ووثقت مبادىء الإيمان والعدل والمساواة والتعاون بين بني البشر جميعاً،.. لقد اعتبر العديد من الباحثين المحدثين أنَّ صحيفة المدينة أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة العضوية بين أفراد الجماعة السياسية وأنها ضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرقية وأنها عقد مواطنة متقدم على عصره.

 

الإسلام والديمقراطية

يمكننا القول: أنّ الإسلام يلتقي في جوهره القيمي مع الديمقراطية، وهي الثابت الثاني المنتج للدولة المدنية.

ابتداءً، علينا الوقوف على المفهوم المعاصر للديمقراطية ومقاصدها أيضاً، ثم نعرضها على روح ومقاصد الإسلام لنرى إن كان هنالك تعارضاً أم اتفاقاً.

استقر الفكر السياسي الحديث على اعتبار أنَّ الديمقراطية هي الطريقة والآلية والمنهج الذي يمنح القدرة لكافة مواطني الدولة على حُكم أنفسهم من خلال ممثليهم بانتخابات حُرّة ونزيهة قائمة على تعددية حقيقية مفعمة بحرية التعبير والتجمّع والصحافة .. فالديمقراطية هي وسيلة تعتمد إرادة الكُل الوطني لإقامة السلطة .

ولعل بدايات هذا التطور المعرفي للديمقراطية المعاصرة تجسّدت على يد المفكّر جوزيف شومبيتر 1942 في كتابه المعروف (الرأسمالية والإشتراكية والديمقراطية) والذي يُعبّر عن الديمقراطية بأنها: عبارة عن الترتيب المؤسساتي الذي يؤمّن الوصول إلى قرارات سياسية والذي يتمكن فيه الأفراد من امتلاك القدرة على التقرير من خلال التنافس على أصوات الناخبين . وقد لاحظ صامويل هانتنغتون 1997 هذا المعنى الذي أطلقه شومبيتر، وقال: أنه منذ الحرب العالمية الثانية أصبح الإتجاه الغالب في تعريف الديمقراطية هو ذلك الذي يربطها بصورة تكاد تكون كاملة بالإنتخابات، بحيث صار يُنظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجموعة وسائل لإقامة السلطة ووضعها تحت طائلة المسؤولية وذلك في مقابل الوسائل الأخرى المُعتمدة في الأنظمة السياسية التي تمكّن الأفراد من أن يصبحوا حُكاماً عن طريق الولادة أو الثروة أو الإكراه. أمّا فوكوياما 1992 فإنه يذهب إلى ذات المعنى عندما يقول : أنَّ الديمقراطية عبارة عن الحق الشمولي في الإشتراك في السلطة السياسية، أي الحق الذي يملكه كل المواطنين في الإنتخاب وفي المشاركة في الحياة السياسية، والبلد الديمقراطي هو الذي يمنح الشعب حق اختيار حكومته بواسطة انتخابات دورية على أساس التعددية الحزبية وبالإقتراع السّري وذلك على أساس الإقتراع العام والمساواة في ذلك بين جميع أفراد المجتمع.

فإذا كان جوهر الديمقراطية المعاصرة يقوم على حق الأُمة في الحكم على أساس الإرادة الحُرّة والإختيار النـزيه وصولاً لمقاصد نفي الإستبداد وإشاعة العدل والمساواة والتكافؤ بين المواطنين لضمان السلم والتعايش الوطني… فهل تتعارض هذه المعاني والغايات مع الإسلام روحاً ومقاصداً؟!

إننا لا نرى أيّ تعارض جوهري يحول دون اعتماد الديمقراطية إنطلاقاً من:

أولاً : بعد انتهاء مرحلة عصر النص والوحي والعصمة، فإنَّ الحديث عن شكل الحكم يقوم على الأصل الثابت وهو (ولاية الأُمة على نفسها)، باعتبار (أنَّ مسألة الحكم في الوقت الحاضر لم تُعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً) كما قال السيد الشهيد محمد باقر الصّدر، فيكون الرجوع إلى أصل ولاية الأُمة على نفسها لتنظيم آليات حياتها بما يحفظ لها وجودها وبقاءها وتقدمها هو الراجح ما دامت الأُمة لا تتحدد بصيغة ثابتة للحكم ولكونها الأدرى بما يُناسبها لتسيير أمورها العامة وهي صاحبة المصلحة في كل ذلك،.. وعليه فلها حق الإختيار وحق التطبيق لصيغ الحكم التي ترى صلاحها لتنظيم وإدارة واقعها، ومنها الصيغة الديمقراطية .

وأيضاً، فلا دليل شرعي قاطع على كافة النظريات التي تُحاول طرح بدائل لمبدأ ولاية الأمة على نفسها وما ينجم عنها من صيغ متحركة تبعاً للواقع المتغير والمتحرك، فالنظريات التي تُحدد صيغة الحكم بولاية الفقيه أو الإمارة أو الخلافة .. هي نظريات اجتهادية بالأساس تُحاول تلمّس الدليل الشرعي هنا وهناك كما هو واضح من خلال استعراض أدلة روّادها،.. وهي في أحسن الأحوال لا تعدو أن تكون سوى قراءة اجتهادية للنصوص الشرعية المعتمدة، ولها المؤيد والرافض من داخل الدائرة الإسلامية بالذّات، وكونها قراءة اجتهادية يعني أنها قراءة إلى جنب القراءات الأخرى، وعليه لا تمتلك الشرعية القاطعة لنفي القراءات الإجتهادية المغايرة لها، وبالنتيجة لا يمكنها الإدعاء باحتكار التمثيل لوجهة نظر الإسلام بالحكم وبطلان سواها، وينتج عن ذلك الإقرار بأصل اختيار الأمة لبديل من البدائل الإجتهادية المطروحة وهو مصداق من مصاديق ولاية الأمة على نفسها بالتبع،.. فلها أن تختار الصيغة الديمقراطية لإقامة وإدارة السلطة والحياة السياسية العامة، وكما قال المرحوم الشيخ شمس الدّين (لا يوجد لدينا في الشرع على الإطلاق لا في الكتاب ولا في السُنّة ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل).

إنَّ الجزم العقلي (مع فسحة عدم وجود نص قطعي) يؤكد سلامة مبدأ اختيار الأُمة لأنسب الصيغ الممكنة التي ترى صلاحها لإقامة الدولة وصيانة وحفظ الهيكل القيمي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي للنّاس .. ذلك أن العقل يحكم بأنَّ إدارة الحياة الإنسانية وإقامة السلطة لتحقيق النظام وإجراء الحقوق وتطبيق الواجبات.. يستلزم رضا الناس وتحقيق إرادتهم واختيارهم لنمط الآليات التي تحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم، بما فيها آليات المشاركة والمحاسبة والشفافية .. وهو ما تجود به الديمقراطية كصيغة لإدارة أوجه الحياة العامة للنّاس وفي القلب منها السلطة.

إنَّ أية صيغة حكم لابد لها من شرعية تُلزم النّاس بها وتُحقق النظام والطاعة، ومع انتفاء النص الذي يُحدد صيغة الحكم في زمننا الحاضر، نعود إلى أصل مبدأ الإستخلاف الذي يقوم عليه مبدأ ولاية الأمة على نفسها، فالإنسانية المتمتعة بقوى الإرادة والإختيار والمتحملة للمسؤولية والجزاء هي المعنية بالخلافة والتي هي عبارة عن إنابة الجماعة البشرية في قيادة وإعمار الحياة والكون {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة ..} 30 البقرة، وعلى (هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله، ومن هنا كانت الخلافة أساساً للحكم، وكان الحكم بين الناس متفرعاً على جعل الخلافة) كما يقول الشهيد الصدر الأول، فشرعية الحكم هنا تتحقق استناداً إلى الإستخلاف الذي يمنح صلاحية إدارة الجماعة البشرية لنفسها .

إنَّ ثبوت مبدأ نفي سيطرة الإنسان على الإنسان إسلامياً، يقضي بالرجوع إلى رضا الناس وقبولهم لتحقيق الشرعية السياسية للحكم، وما البيعة أو العقد أو الإنتخاب سوى مصاديق كاشفة ومؤكِدة لرضا الناس واختيارهم بما يُحقق شرعية التسلّط من قِبل دولة أو حكومة أو كادر مُعين،.. والصيغة الديمقراطية هي الأنسب حالياً للكشف عن رضا الناس وقبولهم العملي بالسلطة وكادرها، كونها تقوم على إرادتهم واختيارهم،.. وإلاّ كيف يمكننا الإطمئنان إلى إحراز رضا الناس بالسلطة ؟ سيما وأنَّ الإسلام يعتبر السلطة مسؤولية وليست امتيازاً وأنها من حق الأُمة وأنَّ الأصل فيها نفي الإستبداد من خلال نفي سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان،.. من هنا فإنه لا يعترف بشرعية أية سلطة تقوم على التغلّب أو الوراثة أو الإكراه .

ثانياً : أما مقومات الحياة الديمقراطية إضافة لإختيار الناس لنوعية الحكم والسلطة، والتي تمتد لتشمل تداول السلطة وسيادة القانون والتعددية السياسية والمساواة والعدالة بين رعايا الدولة وإقرار الحريات في التعبير والرأي والعمل ..الخ، فهي مما اشتمله الإسلام كمفاصل رئيسة في رؤيته الكونية،.. وهي مسألة تُجمع عليها المدرسة الإسلامية بغالب خطوطها، وهذا يعني تطابقها مع مقومات الديمقراطية وشروط إنتاجها العملي، فكيف لنا الحكم بالتنافر والتضاد بين مضامين وغايات الديمقراطية مع روح ومقاصد الإسلام؟

لقد أقام الإسلام رؤيته للإنسان على أساس استخلافه لإعمار الأرض {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة ..} 30 البقرة، ومن مقتضياتها العقل والإرادة والإختيار الحر، فالإستخلاف هنا حركة واعية وحُرّة، ولا جوهر لها مع انتفاء الإرادة والإختيار، فعندها ستغدو قانوناً جبرياً يصدق على الإنسان كما يصدق على الجماد، ولإنعدمت حركة التأريخ ولساد الجبر،.. واقتران الجزاء في الدنيا والآخرة مقترن بالحرية والتأسيس القائم على ضوئها، من هنا كان للعمل الإنساني أصالة {فاستَجابَ لهُم ربُّهُم أنَّي لا أُضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكُم من ذَكرٍ أو أُنثى ..} 195 آل عمران، لأنه مقترن بالقدرة على الإختيار { إنَّا هَديناهُ السّبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} 3 الإنسان، ومن هنا أيضاً تترتب عليه النتيجة { فَمنْ يعمل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَه . ومَنْ يعمل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 7-8 الزلزلة . ويقوم على ذلك كله تأصيل الإختيار ونفي الإكراه {لا إكرّاهَ في الدّين ..} 256 البقرة، {ولو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتّى يكونوا مُؤمنين} 99 يونس، ويؤسَّس عليه حرية التعبير عن العقيدة والرأي والفكر والضمير،.. وتتفرع عنها كافة حريات الإنسان في العمل والتجمّع والتملّك والسفر والإقامة ..الخ، لأنَّ النّاس إسلامياً مُسلّطون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومصائرهم .. وذلك كله من مقتضيات إرادتهم الحرّة . كما أقام الإسلام رؤيته على وحدة الأصل الإنساني ووحدة نوعه وهويته بعيداً عن أي تمايز بسبب العِرق أو اللون أو المال أو الطبقة { يا أيُها النّاسُ اتقوا ربّكُم الذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ ..} النساء 1، {يا أيّها النَّاس إنّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير} 13 الحُجُرات، ويؤسَّس عليه نبذ التمييز والدونية والإنغلاق، وإشاعة التكافؤ والمساواة والإنفتاح . كما أكد الإسلام على الكرامة الإنسانية الفريدة { ولقدَ كَرَّمنا بَني آدمَ ..} 70 الإسراء، التي ترفض الظلم والإستبداد والإضطهاد، لذا أكسب الإنسان حق الحياة وحق العدل وحق التكريم وحق الأمن .

من جانب آخر، تُقر النظرة الدينية الإختلاف كسُنّة تتقوم بها الحياة وتقوم عليها الحركية الإنسانية التأريخية {ومِنْ آياتِهِ خَلقُ السَّمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكُم وألوانكُم إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ للعَالِمين} 22 الرّوم، وهو ليس اختلاف تضاد بل اختلاف تكامل فالتشابه يقضي على إمكانية نشوء الحياة والحركة الإنسانية،.. ويستتبع ذلك الإقرار بحقيقة التعددية في الحياة الدنيا، ومآل نتائجها عند الله تعالى في الآخرة {قُلْ كُلٌّ يعملُ على شَاكِلَتِهِ فَربُّكُم أعلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدَى سَبيلا} 84 الإسراء، { ولِكُلٍ وِجهَةٌ هو مَوَلِّيها فاستبِقُوا الخيرَات ..} 148 البقرة، {.. لِكُلٍ جَعَلنا شِرعَةً ومنهَاجاً ولو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً ولكن لِيَبلُوَكُم فيما آتَاكُم ..} 48 المائدة،.. من هنا يستلزم الواقع الإعتراف بوجود الآخر المختلف سواء في العقيدة أو المنهج بغض النظر عن رأينا بعقيدته ومنهجه .. استناداً إلى حقيقة الإختلاف وما ينجم عنها من تعددية في الحياة التي تتخذ صور التعددية في الفكر والعمل والسياسة .

ثالثاً: إشتراك الإسلام والديمقراطية بنفي ونبذ ومحاربة الإستبداد باعتباره جذر الكوارث التي تشل الحياة وتُعطل مقومات الإنسانية من حرية وإبداع وتطوّر،.. وهنا تجب الإشارة، إلى أنَّ الإسلام لم يؤكد على مبدأ أو قيمة أو مَعلَم - بعد توحيد الله تعالى - أكثر من تأكيده على العدل والقسط .. حتى أنه جعل إقامة القسط من أهم غايات النّبوات وأهداف الكِتاب { ولَقَد أرسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنزَلنَا معهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسط ..} 25 الحديد، من هنا جاء التأكيد بوجوب إقامة وإشاعة العدل باعتباره عماد ومقياس أية تجربة، وفي طليعة استحقاقات العدل إقرار حقوق البشر ونفي استعبادهم وظلمهم واستغلالهم ومصادرة حقوقهم في الولاية على أنفسهم،.. وإنَّ في نفي الإسلام للتسلّط وهظم الحقوق تأكيد على نفي أية شرعية للحكم الإستبدادي المنافي لرضا وقبول الناس،.. وسواء قلنا بالشورى الإلزامية أو البيعة المشروطة أو الإنتخاب الحر .. فهي كافة أوجه لتأكيد رضا الناس وقبولهم بما ينفي الإستبداد والتسلّط بالإكراه، وبما يؤصّل لإختيارهم بعيداً عن التغلّب والإضطهاد .

**     **     **

 

حسين درويش العادلي

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1346 الثلاثاء 16/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم