قضايا وآراء

مفهوم اللاعنف في فكر جَوْدَت سَعِيد (1)

فيقرأ الآيات في الكون و"الكتاب"، ويعيد التأويل ببصيرةٍ يتفتح من خلالها السمع والبصر على ما يحدث في العالم، فيتحرَّك بين النص "المقدس"  والواقع المعاش ، ويطرح  جدليات  الوحي والتاريخ، وعلاقات الألوهة والتكليف، فيرى أن القرآن يُسَهِّل عليه الدّخول إلى فهم اللاعنف وتحقيق السلام كون النص القرآني  يُعطي قيمة كبيرة للتاريخ وعواقب الأحداث ، ويؤكد أن هذا الكون يعيش حالة خلق وزيادة مستمرتين، وأن هذه الزيادة تتجه في سيرورة تطوريّة نحو الأفضل .كما أنه يعلن ان باب السماء قد أغلق  وانتهى عصر النبوات ليبدأ عهد العقل الإنساني، حيث ينبغي على الآمرون بالقسط من الحكماء بلورة المبادئ العقلية وترجمتها من خلال الديموقراطية إلى سلام عالمي .

 

مشكلة العنف :  قلة وعيٍ وأفكار عرجاء2 

 

 ( إن الأفكار والمفكرين هما منشأ الأزمة، سواء فيما يقدمونه أو فيما لا يقدمونه للناس، ولذلك فإنه من التزوير الكبير أن يَحضر المثقف في الأزمات كمنقذ. إن من الأجدر به أن يحضر كمتهم ، أن يحضر للمراجعة واتِّهام الذات والبحث الجذري، وإعادة النظر في المنطلقات. لكن وبكل أسف ومرارة، فإن دور المثقف إلى اليوم يعتريه تشوهان كبيران:

    إما أنه في وعيه وفهمه يسير خلف التاريخ، ومن ثم فإنه لا يملك القدرة على رؤية راهنة للعالم، تستند على التاريخ وتستشرف المستقبل، تمكنه من تقديم مشورة نافعة ونصح سديد للساسة تساهم في تغيير التوجه العالمي المنتج للأزمات.

    أو أنه متواطئ صامت راض بما تؤمنه له الأوضاع السائدة من امتيازات أنانية تجعله يغض الطرف عما يحدث في العالم، وعندما يستشيره الساسة يقدم لهم ما يريدون لا ما ينبغي عليهم فعله، بل إن هذا التواطؤ بحسب المفكر الفرنسي بيير بورديو هو العامل الأساس فيما نحن فيه من أوضاع.3 

 

اما المسلمون فقد مسخوا الإسلام بمفهومه الكوني وشوَّهوا حقيقته باتخاذ العنف سبيلا علما ان الانبياء والحكماء أجمعين أثبتوا، وبكل المعايير، (أن الحقّ وحده من غير قوة، يستطيع أن يثبت ذاته، ويوجد كيانه، و أن المجتمع الرشاد يصنع بطريق الرشد الذي لا إكراه فيه... وإن المعركة الفكرية تقتصر على الوسائل الفكرية، ولكن المسلمين ( و غير المسلمين )  ضيعوا هذا التاريخ النظيف، ولا زال مسلمو زماننا منهزمون، والسبب هو أنَّهم يحملون أفكاراً عرجاء لا تستطيع أن تصمد في الصراع الفكري، فإن كنتم، يا مسلمون، تثقون بأفكاركم، فلماذا لا تسلكون السبيل الذي سلكه رسول الله، من منع العنف، ومنع استخدام القوة، حتى صنع المجتمع الراشد والحكم الراشد بالفكر الأبيض واليد البيضاء.

 

إن كنتم لا تفهمون هذا، فستضطرون إلى فهمه في المستقبل، وستقبلونه رغماً عنكم، ولكن بعد أن تدفعوا أثماناً باهظة، والحكم الذي ستصنعونه بالعنف لن يكون حكماً راشداً، بل سيرجع عليكم بالعنف فيما بينكم، ومن لا يعتبر بالتاريخ الماضي، فإن التاريخ القادم سيحمل إليه ما يضطره للقبول به.)4

 

والانبياء رسالتهم لاعنفية وجوهرها واحد5  ( و يُمكن أن نقول: إن الاعتراف بوجود رسل لم يرد ذكرهم في كتب الديانات التوحيدية في الفضاء الثقافي الذي أرسل فيه نوح وإبراهيم، يفتح الباب للاعتراف برسل الثقافات الأخرى سواء في الشرق الأقصى، أو في أفريقيا ، أو السكان الأصليين في القارة الجديدة. حيث إن الأمم الآن بدأت تبحث عن ثقافتها القديمة لتثبت وجودها وذاتيتها وهذا المنهج يضع البشرية على طريق التوحيد والاعتراف بالقواسم المشتركة بين الأمم ورسلها أيضاً ، وهذا الموقف قيمة إيجابية إنسانية للناس جميعاً على سبيل التعاون والتفاهم والاعتراف بهم مشاركين في المسيرة الإنسانية .

 

إن تطلعات الأنبياء لمستقبل البشرية لم تأت إلى حياة البشر ، حيث كان مبدأ الأنبياء في أعلى مقاصدهم أن يكون تنافس البشر في فعل الخير ، وأن يكون الهدف هو هذا إذا رجعنا إلى الوراء لنكتشف الأسس التي تمكننا من القفز إلى الأمام مثلما يرجع الذي يريد أن يقفز إلى الوراء ليكون قفزه إلى الأمام أكثر قوة ، لا أن نرجع إلى الوراء لنبقى هناك . ووسائل الانتقال ينبغي أن تكون لها القدرة على العودة إلى الوراء لا للبقاء هناك ولكن للتكن من المناورة ليكون التقدم إلى الأمام فعالاً أكثر .

 

فإذا كان البشر لم تكن تتيسر لهم الطاقة إلى الأمام ، ويتراجعون ليحولوا التنافس في فعل الخير إلى تنافس في فعل الشر وتسابق إليه، فإن هذا العجز ليس ميزة البشر وإنما القدرة على التجاوز ليستخدموا كل الإمكانات ، ليكون التجاوز أسرع وأقل كلفة وأحسن مردوداً . ولنتذكر ما عاناه الذين دعوا إلى أماكن متقدمة في أسلوب استخراج أفضل ما في الإنسان من إمكانيات ، فإذا السبل تكاد تكون مغلقة أمام أغلبية الناس ، فلنستخرج العبر من التاريخ ، من رواد الإبداع ليتحول الإنسان إلى أفضل ما أُبدع فيه من قدرات ، وفي هذا يقول القرآن لشد أزر المبدعين)

(و القرآن يُظهِر عزم جميع الأنبياء على مشاطرتهم موقفَ ابن آدم وعلى مقاومتهم الشرَّ والصبرِ على الظلم الذي يُنزِله بهم شعبُهم. ويدأبون في الدعوة إلى الحوار ويتحملون نتائجَ ذلك جميعَها. ويرفضون أن يردُّوا على الأذى الذي يلحق بهم بأذىً مثلِه. فهم عازمون على عدم التردِّي في قانون العنف لأنه يُعَدُّ في نظرهم تجديفًا)6

المنطلقات الفكريِّة و"الميتولوجية"  لنظريّة اللاعنف عند جودت سعيد 

 

تتمحور طروحات مقاربته للاعنف حول ثلاثة مرتكزات أساسية نجدها كنظرية متكاملة استقاها من النصّوص القرآنية المتعلقة بقصة خلق آدم، وبالرغم من انه انطلق من خلفية ميتولوجية "لاهوتية" فقد هدف الولوج الى المعنى الرمزي والمغزى اللاعنفي دون إلزام الغير بمضمون النص كحقيقة تاريخية ليصل الى خلاصة أن الفساد وسفك الدماء هي مشكلة  البشر و أن الانسان بوصفه كائنا عاقلا يختار بوعي، فإن عليه تحمل مسؤولية تبعات أفعاله وأخطائه ، وان للعقل دورا مهمًّا وسلطة تتفوق  على كل عنف وهي مرحلة تدشن عهدًا جديدًا في تاريخ الحضارة البشرية  ونقلة نوعية الوعي الإنساني.

 

أولا : مفهوم الفساد في الأرض ودور الكائن الانساني فيه7  :

أن الملائكة اعترضت على خلق الإنسان في لحظة الخلق الأولى: و((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) فأجابهم الله: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)).

 وهذا النص كما نفهم من التاريخ، يرسم الأفق الذي يتحرك إليه الإنسان، فالإنسان وإن بدأ في الفساد وسفك الدماء لكن منحى تطوره واتجاه تقدمه هي: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) ، وإذا كان البشر إلى اليوم لا يزالون يعيشون حسب توقعات الملائكة، حيث الفساد وسفك الدماء وشن الحروب، فإننا نرصد في التاريخ ما نقرؤه في الكتاب من خطو الإنسان باتجاه ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقرة، 30].كإشارات على بدء تحقق علم الله في الإنسان.

الله قال الحقيقة عندما قال أن الملائكة لا يَعلمون أن الإنسان سيتجاوز المرحلة التي يُفسِد فيها ويسفك الدماء. في الحقيقة، نحن لا نكتفي بالتكهنات، لأننا نرى في العالم أن هذا الأمر بديهي؛ وسيتحقق في مستقبل غير بعيد جدًا8 

مع ذلك، يشير جودت سعيد إلى أنه في الوقت الحاضر مازال تاريخنا، للأسف، يحقق نبوءة الملائكة بحق نوعنا البشري.

 

ثانيًا  : مفهوم الإختيار و مبدأ تحمّل مسؤولية9 

 

( إن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم . ولكن حدوث النتائج حتْم . فبهذا الشكل صار الإنسان مسيطراً على الحتم ، كما أن الإنسان حين يَغفُل عن سنن الله ، فإن سنن الله لا تغفل أن تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل . وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسباباً ، وإنما يرى أحداثاً حتميَّة ، لا دخل لجهد الإنسان فيها . فمن هذه النظرة تنشأ القدريَّة ..)

 

وفي قصة آدم وزوجه تحملا نتائج صنيعهما  عندما أوصاهما الله: ((لا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لكنهما نقضا الميثاق، فأكلا من الشجرة المحرمة وعندما ناداهما ربهما ((أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ)) كان جوابهما: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)) [الأعراف، 19-23]، فاعترفا بالخطأ وتحملا مسؤولية فعلهما، وهذا يمكن أن نقرأه على أنه جواب على اتّهام الملائكة في النص السابق، ورسم ملامح سبيل الله، سبيل الإنسان للتقدم في التاريخ، مقابل سبيل الشيطان الذي يبرر معصيته مرة بحجة عنصرية ((أنَا خَيْرٌ منْه))، ومرة بحجة فلسفية ((فَبِمَا أغْوَيْتَنِي)).

ويتبين مما قدمن أن القرآن يؤكد تدخل جهد البشر في صناعة أحداث التاريخ . وبمقدار وضوح هذه الحقيقة في آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة للمسلمين.

 وخلاصة القصة إن تبرئة الذات واتهام الآخر ليس حلاً للمشكلة، وإنما ابتعاد عن سبيل الحل، إن الحل يكون باتهام الذات، والبشر جميعًا حتى يومنا هذا على مذهب الشيطان في تبرئة الذات واتهام الآخر، وليس على مذهب آدم في اتهام الذات الذي تدعمه سنة التاريخ وحقائق الحياة ومنهج القرآن. ((مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء، 79].

وعملية فهم أحداث التاريخ بهذا الشكل الذي يتدخل فيه جهد البشر ، يساهم مساهمة كبيرة في إيجاد شرط أساسي من شروط الفعالية؛ وذلك لأن هذه النظرة لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل تتدخل في تكييف سلوك الإنسان أمام الأحداث وتضع الإنسان في المكان المناسب له في هذا الكون .

 

ثالثًا : اللاعنف والعقل10 .

إن استهلال التاريخ الإنساني لم يكن بالقتل أو بالجريمة، وإنِّما كان بِخيار إنساني يتناسب مع هذا الخلق الجديد الدماغ الإنساني، فكان اللاعنف، ورفض القتل وسفك الدماء، وعدم الدفاع عن النفس بالعنف .

والتاريخ سجَّل هذه الشهادة مرات كثيرة، وكان أكثر المرات وضوحًا، في موقف سقراط وتحديه بقبول الموت، على أن يوقفَ حواره مع الجهاز العصبي، أو يتخلى عن واجبه ومسؤوليته.

 

ويمكن ان يقرأ المرء ذلك في  قصة ابنَيِّ آدم، فالذي فشل في عمله قال للآخر: ((لأقتلنك))، لقد اتَّهم الآخر بأنه سبب الفشل، بدل اتهام ذاته، ورأى القتل سبيلا للحل، لكن الإنسان الذي أدرك إنسانيته وعرف نعمة الله في الدماغ الذي وهبه، أبَى أن ينتكس إلى عالم العضلات، بعد أن عرف نعمة العقل فأجاب: ((لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [المائدة، 27-28]، لقد رفض أن يشارك في القتل بإصرار ووعي وتحمل للمسؤولية والتبعات، لقد أدرك إنه يَملك سلطة جديدة هي سلطة العقل، وعليه أن يستخدمها فدشَّن بِهذا عهدًا جديدًا، شكَّل نقلة نوعية للتاريخ والوعي الإنساني.

وسواءٌ أكان الموضوع يتعلق بحادثة تاريخية أم بقصة رمزية، ما يبدو مهمًا في هذه القصة هو الطريق الذي تدلُّ عليه لكي ترتقيَ البشريةُ إلى مستوى الروح .... ليس هناك في موقف هابيل أي تردد ولا أدنى شك. إنه مصمِّم وعازم على مواجهة نتائج موقفه. 

فهابيلُ، وهو يخاطر بالموت كي لا يرتكِبَ القتلَ، يُظهِرُ المسؤوليةَ الأخلاقية التي ينبغي على الإنسان أن يتجشَّمَها من خلال رفضه أيَّ تواطؤ مع الشر.

 وهكذا فإن التاريخ، بحسب أسطورة آدم التي رواها القرآن، لم تبدأ بجريمة قتل بل بفعل لاعنفي. فالرواية تضع البشريةَ مباشرةً أمام خيار وجودي بين العنف واللاعنف.

 

خلاصة :

يريد جودت سعيد ان يحيك نظرية اللاعنف المتمحورة حول  هذه القصص وهو الثقة بالإنسان ومستقبله، وتأكيد أهليته لعمارة الأرض، والإيمان بقدرة الإنسان على وقف الفساد وتوطيد العدل، من خلال تحمل البشر عمومًا والمثقفين الحكماء خصوصًا مسؤولياتهم في التاريخ، فعليهم ألا ينتظروا المخلص فكلهم مخلص، عبر سبيل الله، وطريق ابن آدم، طريق احترام عقل الإنسان، الذي يعني تلقائيًا اتهام الذات وسلوك اللاعنف، فالإيمان بالعقل أسلوبًا لحل المشكلات، هو استبعاد بطريقة آلية للعنف والقتل كحل أو أسلوب لحل المشكلات.

 

المرتكزات العقدية للاعنف عند جودت سعيد11 :

 

تتبلور نظرية جودت سعيد في اللاعنف من خلال محاور "عقدية " وجودية يقدم من خلالها قراءة جديدة عميقة للنص اللاهوتي والمصطلح القرآني تتلخص بمحاور ومفاهيم  تترابط فيما بينها وتوضح علاقة الانسان بالكون والمكون والكائنات من خلال اعتماده وتركيزه على مرجعية تاريخية أركولوجية وهذه المرتكزات هي:

    توحيد الله

    العدل : ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))

    الكلمة السواء (( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ))

    اللاإكراه:  (( لا إكراه في الدين ))

فتوحيد الله هو إقامة العدل، والعدل هو الكلمة السواء، وهو ما يستوجب اللاإكراه .

(فالعدل بحسب القرآن هو منطلق الثيولوجيا الجديدة، لأنه هو التوحيد، فتوحيد الله الذي في السماء ليس مسألة ميتافيزيقية وإنما مسألة اجتماعية سياسية، أيّ أن لا يكون هناك آلهة بشرية على الأرض، فما دام هناك أصحاب امتيازات في العالم، فلا سلام ولا حقن دماء، بل بؤس في جانب وخوف وقلق في جانب آخر، بؤس ومعاناة عند الغالبية من سكان الكوكب وخوف وقلق عند القلة المترفة، يعني أن يتقلب الجميع في جحيم الخوف والقلق، سواء على لقمة العيش أو على الامتيازات ، وحسب القرآن فإن الغاية من الرسل والنبوات هي ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) [الحديد، 25]، وهذا ما تبينه أيضًا آية السواء التي أرسلها الرسول محمد إلى ملوك زمانه: ((تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]،

 

في إشارة واضحة إلى أن توحيد الله في السماء يعني أن نساوي بين الناس على الأرض. إن هذه النظرة إلى التوحيد والعدل تَجعل المثالية واقعية، والغيب شهادة، والإلهي بشريًا، والخارق سُننية، وبِهذا فقد صار الدين علمًا.وكل شيء صار علما يصير عالميا.

والعدل يستوجب الديموقراطية و اللاإكراه وهي الواردة بقوله تعالى (" لا إكراه في الدين" هي الرشد ، وأن الإكراه في الدين هو الغي ، فالجملة الثانية شرح وبيان للجملة الأولى ، فجملة ( لا إكراه في الدين ) بها تبين الرشد من الغي ، فالإكراه هو الغي ، واللاإكراه هو الرشد ، وكذلك الجملة الثالثة تفسير وبيان للجملتين السابقتين . (( فَمَنْ يكفُرْ بالطّاغوتِ )) الذي هو الإكراه ، ومن يفرض دينه بالإكراه ، ومن يؤمن بالله الذي يقرر أنه لا إكراه في دينه وفي الدين كلياً ، فمن التزم هذا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .

 

وهنا نكون قد وصلنا إلى فكرة كبيرة جوهرية ، هي أن الدين لا يجوز نشره بالقوة والإكراه والدين هو تفسير الكون ، أي الوجود كله بِما فيه الإنسان .

 

وعلاقة الإنسان بالوجود وبالناس الآخرين هي المبدأ والمنتهى: ((سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت،53] ، وعند هذه النقطة يمكن بحث الدين ، أو فكرة الإنسان عن الوجود ، والفكرة التي يريدها القرآن من الناس في فهم العالم والتي نرجو أن نتمكن من توضيحها من ناحية النصوص ، ومن الناحية البيولوجية التاريخية .

 

إن العدل وكلمة السواء ليست عدمية ، لأن العدل للإنسان ليس عبثاً ولا عدمياً ولا باطلاً بل محاولة إخفاء ذلك أو عدم رؤيته من خلال التاريخ هو العبث ، نعم يمكن أن ييئس الناس من طول الحياة العابثة التي يعيشونها ولكن الحياة لا تضيع هدفها .

« ولِكَثرةِ الإثْم تبرُد المحبةُ » انجيل متى ( 23 : 12 ) . )12

 

ويقول سعيد في محاضرته خلال مؤتمر بلجيكا حول دور "الفاعلين الدينيين في بناء السلم والديموقراطية  : (إن هذا التحليل يشعرني براحة عظيمة كيف لا وأنا أستند إلى التاريخ والأنبياء وحقائق الحياة، وأدعو إلى كلمة السواء التي يفسرها القرآن بأنها ((لا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران، 64]، أي أن لا يكون أحد فوق القانون، فهذا هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغتفر، وهو الظلم العظيم الذي يحبط كل الأعمال ولا تنفع معه بقية الطاعات، وهو المنتج لكل مآسي التاريخ، ألا من كان له أذنان للسمع فليسمع.

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/

 

 الديموقراطية واللاعنف إعلان موت الحرب

يرى سعيد ان التطور البشري وسيرورة الحضارة الانسانية تدفع الإنسان رغمًا عنه إلى الديمقراطية التي تعني العقل والإقناع والسلم، ويشير الى انه وبحسب هذه الرؤية للتاريخ ("فقد أعلنتُ موت الحرب"، مع أول تفجير نووي، فالكبار لم يعودوا قادرين على الحرب، ولكنهم يستغلون جهل الجاهلين ويستثمرون جهلهم ببيعهم الأسلحة ، إن الحروب قرابين البشرية، والقتل لم يكن يوما حلاً لمشكلة بل هو مفاقمة لأي مشكلة كما يعلمنا درس التاريخ.

إن وجودنا في هذا العالم ليس عبثًا، ولا باطلاً، ولا لعبًا، إن سعادة الإنسان تنبع من خدمته لقضية عادلة. وأعظم القضايا هي أن يتوقف الفساد وسفك الدماء.

إن مما يسجل للأوربيين أنهم لم يبتكروا وسائل لنقل البشر والمعلومات فقط، بل ابتكروا وسيلة لنقل السلطة غير القتل والوراثة. وسيلة تحترم العقل الإنساني وتحيي معنى الشرعية وتعطي قيمة لاختيار الناس، كما مارسه النبي محمد في القرن السابع، وكثيرًا ما أكرر أن الإنسان هو أعظم ما خلق الله، والديمقراطية هي أعظم ما صنعه الإنسان، وجوهرها أن يؤمن الجميع بعدم اللجوء إلى العنف في حل المشاكل، بل إلى الإقناع وعد الأصوات. إن الديمقراطية خلق جديد، ينمو نحو الأفضل، إن (دمقرطة = جعل العالم ديمقراطية كبيرة) العالم هو التحدي الذي ينتظر المثقفين والساسة حتى يصبح العالم أكثر أمنا وراحة للجميع.

لقد انتهى عهد الأنبياء وانتقلت المسؤولية إلى أهل العلم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل ومن الاستعباد إلى الحرية، من الفساد وسفك الدماء إلى (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، إن أقرب الناس إلى الله هم الذين يُقدِّمون الخدمات لإخوانهم البشر، والأنبياء جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخير، فلنتنافس نحن كيف نصنع السلام العالمي، وكيف نصنع المجتمع العالمي الذي يتساوى الناس فيه أمام القانون، ونكون بذلك حققنا إرادة الله وأمنية الأنبياء. )

 

........................

هوامش

1- هذا المبحث يستعرض  فكر جودت سعيد في اللاعنف من خلال قراءة "غير نقدية"، بالاستناد الى كتبه الصادرة عن دار الفكر المعاصر، ومن محاضراته حول "اللاعنف" التي ألقاها مابين عامي 2006 و2009  ومن مقابلات أجرها مع مجلات فكرية .

2 جودت سعيد - مذهب ابن آدم الأول – دار الفكر المعاصر دمشق – سوريا – 1993 حيث تناول  مشكلة العنف في العمل الإسلامي .

3 جودت سعيد – كن كابن آدم – الفصل السابع – مذهب الرشد : مذهب الأنبياء ابن آدم والانبياء– دار الفكر المعاصر – دمشق – سوريا  - 1997 - البحث المعنون – النبي والقوة الفكرية.

 

4 - جودت سعيد : دور الفاعلين الدينين في بناء السلم والديمقراطية -  في محاضرة ألقاها  في بلجيكا في الثاني من كانون الأول ديسمبر 2009 خلال المؤتمر الثاني عن الاسلام – المسيحية وأوروبا 2009 - 2010

Jawdat Said Mohamed :  The role of religious actors in peace-building" – Islam , Christianity & Europe - 2nd series of seminars - 2009-2010

6 - المرجع السابق نفسه .

جودت سعيد - الدين والقانون - دار الفكر المعاصر - دمشق  سوريا  1998 -  مبحث " وحدة النبوات "

7- في حوار مع جودت سعيد  لمجلة قضايا إسلامية معاصرة أجراها عبد الجبار الرفاعي .

8- جودت سعيد – كن كابن آدم – مرجع سابق – بحث بعوان – ابن آدم ومشكلة الفساد

9- جودت سعيد يُعرِّف بنَفسه -

10- جودت سعيد – الإنسان كلا وعدلا – دار الفكر المعاصر – دمشق سوريا – ط1 – 1993 مبحث بعنوان: نظريتا التاريخ .

11- جودت سعيد – الدين والقانون – مرجع سابق مبحث:  قصة ابنيّ آدم .

12- جودت سعيد – الدين والقانون – مرجع سابق – فصل (لا إكراه في الدين) وأيضًا كتاب: كن كابن آدم – مرجع سابق –  فصل: الإسلام و ( لا إكراه في الدين )

13 جودت سعيد – الدين والقانون -  فصل لا إكراه في الدين – مرجع سابق

Jawdat Said Mohamed – During the seminar :  The role of religious actors in peace-building" – Ibid , 2 Dec 2009

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1356 الجمعة 26/03/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم