قضايا وآراء

مقاربة بصرية في نـقـلة تـشـكـيـليـة لا تـخـطـئـهـا العـيـن

ينحث تجربته في هدوء، يجرد ويشخص كي يتمثل تجربة من توقيعه ما دام الفنان ممثل تجربته . تجربة هذا الإنسان لم تأت من فراغ، بل لها من المرتكزات والأسس ما تقوم عليه، إنه فنان يعرف أبجـديـة الشكل فيرسمه،وتبقى تجربته من خلال  معارضه الأخيرة علامة مضيئة في المشهد التشكيلي المغربي باعتبارهـا مهمة في تضاريس الشكل وجغرافية الـفن، له تماهيات تعبيرية مع لوحاته المترعة حتى الـثمالة، يفجر فيها طاقات إبداعية لا نهائية مما يكشف أن جدوة الفن متأصلة في نفسه ولغة التشكيل تستقيم على لسان فرشاته .

 

هكذا يبني هذا الفنان عالمه الخاص، يضرب بالفرشاة فتسيل الألوان وهي تمتح من مخيلة تتقاطع مع التصور الـتشكيلي وبذلك يمتد اللون في الشكل وتتداخل  اللطخات فتمسح الواحدة الأخرى، تـتـعـدد الـضربات فـتـغـطي الـثـانـيـة الأولـى وهـكـذا دواليك ... يؤثث السند ببعد جمالي رفيع، ويجهز السطح بتقسيماته المعتادة التي تتفاوت في الفراغ والامتلاء ، مما يفرض على المشاهد  رؤية اللوحة من خلال محور تماثـل غير منصف ونقطة عمق هي بمثابة مركز ثقل، وحين تُـدْرَك اللوحة كاملة يتفرغ الـناظر العاشق إلى التحقـيق الدقيق في كل تقسمة  تقسمة ...

 

إنه فنان يرسم بالمشاعر، لا يشوه الأصول ولا يفرغ الأشياء من قدسيتها عبر التشكيل، لكنه يضعنا أمام وجوه مقنعة  دون دليل أو بوصلة، رغم أن الواقع هو الوجه، والملامح هي رمـز الـقـيـم، وبهـذا ينـفـلـت من شرنقة العادي ليرفع بالتألـيف الـتشكيلي إلى رحابة التخـيـيـل والـدهـشـة ... أولت  شخوصه اهتماما كبيرا لأزيائها، لبس الذكور الجلابيب زي الوقار وهي من ثوب أحادي اللون وفي الغالب الأبيض هو المحبذ ... واتخذوا لرؤوسهم  أغـطـيـة، إما طرابـيـش حمراء أو عمائم ملونة، أما الإناث  فـهـن قـلـة يتمـيـزن من خلال الجـلسة، يلبسن ملابس زاهية منتهية بحواش مزخرفة عند الكواحل ...

 2047-m-khnabo

لوحاته تصنع المقامات وترتبها، تبتعد عن الزمن لتصل إلى المكان/الفضاء وهي تجر وراءها العديد من الدلالات، لها من العوالم ما يتعدد مع التبويب  ويتناسل مع الــتعبيرو يتولد مع اللون والشكل بعيدا عن كل التيارات . منح الشخوص امتدادا واقعيا لتزرع هذه الأخيرة روحا حية في لوحاته بحيث حين تصغي إلى اللوحة تـنـبـعـث منها رائحة  الحركة والـتعـبـيـر  وكأن الـشـخوص لا تكف عن الـفـعـل ... تؤجج لدى المشاهد المبصر حركة تشي بعدة رؤى، وتعلن أن الـلوحة ليست بمتاهة تُغـرق في دخيرة التـلقي، ولكنها مجموعة تقاسيم على مقامات اللون والشكل، يبحث من خلالها الفنان محمد قنيبو عن خصوصية بدت تكشف له أسرارها بتدرج ... يقوم  بتوظيف علامات ذات دلالات قابلة للتأويل، تنطلي عليها صعوبة ما في تحديد المفهوم منها بشكل دقيق، لأنها تتقاطع في الأصول الـتاريخية والفنية، ويساهم الموروث الحضاري بشكل كبير في ترسيخ الدلالة التامة والتمثل الكامل لمفهوم الرمز... ومن الصياغة التقليدية إلى صياغة عـصرية تتغـذى من الـفـن الـتـشكـيـلـي وتـغـذيـه استطاع أن يرقى بالعمامة والجلباب والـبلغة ... وفق حساسية فنية معاصرة تؤكد تعلقه بالموروث وارتباطه بالتراث الذي التقط من روحيته بعض الأجزاء واستلهم منها ما هو شعبي، حاول صياغته بمفاهيم تتلاءم والفن التشكيلي الذي لا يرتبط  بالأحداث الآنية أو المؤقتة وذلك ليضمن الخلود...

 

إنه يـستحضر ذاكرة مغربية محضة تشدك بالتأمل ثم تدفعك إلى التأويل، وحينئذ تشعر باسترخاء بصري يرحل بك من عالم المتعة إلى عالم الحيرة ـ وبالطبع في حيرتنا متعة الفنان ـ عبر رصانة اللون ورشاقة الحركة وتنويع الشكل الذي يُـحدث الاستلهام الجمالي لدى المتلقي عبر الرشق اللوني والـتزويـقـات الصباغية التي لا تفسد للمكان فضاء حيث تمارس الشخوص طقوسها في روعة طبيعية حية، إنها المسوغات الترا ثية التي تمنح الحضارة خصوصية معينة عبر التاريخ، بقدر ما تتعدد إلا  وتزيد التراث غنى ...

 2047-m-khnabo

كل لوحة من لوحاته تعتبر معشوقة تنفلت من العين لتهرب في البناء الفني، وتنزل هي الأخرى حيث يستريح المبصر المتمعن فتشده إليها... هناك كأسات الشاي المصففة والمبعثرة، رتلتها ريشة ساحرة حتى كادت تخدعنا لـنخلـط ما بين زليجة مزخرفة جميلة من الرقش العربي (Arabésque) وكأس شاي منعنعة، فلولا البراد  المرشد الدليل لضعنا في التيه الجميل . صارالبراد في مخيلة الجموع  وكـأنه نجم طار من الجلسات إلى التخييل وسط هالة من الضوء فلم نعـد نـفـرق بـين الصبوح شراب الصباح والغبوق شراب المساء ... تتزاحم الألوان وتنساب الأضواء، وتدور الأقراص، وتنتصب الأطواق والأ قواس، وتتحلق  الشخوص حول الموائد والصينيات في لقاءات تسير باتجاه معين ومرتب في مقامات يستباح فيها الاتصال والتواصل عبر حوار متحرك، لا يعرف الجمود، فيه النداء والرد على النداء، كما تشهد على ذلك هذه العناوين لبعض اللوحات (ضيافة ـ ثرثرة ـ المقهى ـ في ركن المقهى).

 

هناك المهيمن والطاغي من العلامات والرموز (كالجلباب والعمامة والطربوش والبلغة والبراد والكؤوس والأبواب والأ قواس والقباب والزليج والوسائد والزرابي ...) وهناك ما هو فرعي يؤثث اللوحة ولا يؤثر فيها كالعناصر الغريبة والضريح والسقوف المفتوحة ... وما يسترعي الـنـظر هو الزخرف  الـنباتي كدعوة للتأمل في الخلق، وما حضورالنخلة في كل اللوحات تقريبا إلا دليل على الـتميز ، حيث تشكل مكونا مشتركا يطبع اللوحات بروح الحياة، إنها (شجرة الحياة) كما سماها العرب قديما، الشجرة العريقة في القدم، الشجرة ذات الجدع العمـودي الواحد الذي لا يتفرع، تأتي على  طرفه الأعلى الجمة باقة من الأوراق هي الرأس، كما أنها الفن والصنعة والإتقان  والمهارة في  التعبير عن الجمال ...

 

برؤية بصرية أكثر تأملا وجلاء يظهر لنا  التناسق والـتناغم والتآ لف بين الأجساد والأشكال والألوان ، وإذا كان الوجود من حولنا يبدو حيا  فكذلك هو في اللوحة من حيث الحركة والعلاقة الحية بين الأشكال المختلفة، وما  البعـد التشخيصي الحاضر في اللوحات إلا دافع يُـمَـكـن من محاورة اللوحة ويحرض المشاهد على تثبيت بصره واستثمار مخيلته وتقويم رؤيته البصرية حتى يُــدرك أن الـفـنـان فعلا يترجم ما يشعر به من رؤى إلى لغة تشكيلية يعبر بها... تسود فيها الألوان المتباينة والطازجة والمبهجة بتدرجاتها الظلية والضوئية، ويوحي لنا العمق البصري القوي داخل التكوينات  الـتشكيلية وكأن الفنان قد اعتمد التوليفات والسطوح المركبة ...

 

إنني هنا لا أنشر معرفة نقدية حول الـتشكيل أو أ قوّم حالة بصرية، وإنما  أشكر الفـرصة  ـ فقط ـ  التي سنحت لي بهذه القراءة البصرية حيث أمتعـتني اللوحات، فرحت أكتب عنها في شؤون العشق كي تمنحني القدرة على فتح بعض المغاليق من الأشياء في عالم التشكيل ...

هكذا أكون قد رصدت للفنان محمد قنيبو نقـلة تشكيلية لا تخطئها العين، نقـلة نوعية في مساره الإبداعي الدؤوب الذي يبنيه بصبر وتأن، إنها نقلة متميزة، لها من الجديد ما يبعـث على الحـيرة الفنية والدهشة الجمالية في مجال التشكيـل...

 

مـحـمـد زريـويـل

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1386 الاثنين 26/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم