قضايا وآراء

الإنسان في مرآةِ الإنسان...

والذي لا يتسنى عادةً إلا لمن ألقى السمع وهو شهيد..

 لأجل ذلك فقط تجدُ أن الزاهدَ وبمجرد مشاهدة صورته في المرآة لا يغري ذهنه سوى معنى أن الحقيقة غيرُ ما نرى تماما، فلطالما كان العالم مرآتياً من حيث أن خبايا الإنسان غيرُ منظورةٍ في الصورة التي هي قوام العالم...

لما كان الإنسانُ لا يبحثُ عادةً عن حقيقة نفسه في أعماقها وإنما يقرأ نفسه بما هو صورةٌ في مرآة العالم المحيط به، فإنه حتما لن يتعرفَ على معنى الكينونة، حتى لو كان ذلك الإنسان هو سارتر او سيرن كيركيجورد ذات نفسه إلا بريجسون فإنه قد خالط العشقُ خلايا دماغه وأسكره خمرُ الروح فهذب قلمه ليقطر من حبر الحكمة ما يكفي لأن يضع لافتةً بارزةً على الصراط ...

أما (عنايت خان وجلال الدين) فإنهما جعلا نفسيهما مرآةً للعالم كله، ليحوّلا المرآةَ إلى جوهرٍ تسكنه الحقيقةُ، فانقلبت الصورةُ حقيقةً، وانقلب المخبوءُ صورةً، وهذا هو معنى التجلي والكينونة..

لعل الوجودي يفهم قيمة التحليل النفسي أكثر من غيره، رغم أنه قد لا يكون مهتما كثيرا بعلم النفس، لكنه يدرك أن أبعاد النفس المختلفة لا يمكن لنظريات علماء النفس أن تسبر أغوارها. ولهذا فانه يفهم معنى التحليل النفسي بشكل أعمق مما يمكن أن يتفطن اليه عالمٌ فذٌ كفرويد..

الوجودي يسخر من الصورة دوماً، ويبحث عن جوهرٍ يمثل القيمة الأهم لمعنى الوجود، لأجل أن يحوّل ذلك المعنى إلى عاملٍ أساسٍ لتفسير الحياة كنشاطٍ و فاعلية...

 الوجودي ليس عارفاً، رغم أنه صنو العارف أو سنخه، بيد أن العارفَ وجوديٌ بشكلٍ مؤكدٍ لأنه قد أدرك معنى قولةِ المسيح العتيدة: لا تقاوموا من يسيء اليكم. ذاك أنه قد شاطر الخاطئ وقر الخطيئة تماما، (وَوَضَعنَا عنكَ وِزرَكَ.الذي أنقَضَ ظَهرَكَ).

جاءَ أحدهم إلى زين العابدين (ع) وهو يتعبّد في بستانٍ بعيدة عن أعينِ الناس، فقال له: لِمَ أنت معتزلٌ الناس..فقال علي بن الحسين: لست بمعتزلٍ، إنما أنتم أهل العزلة. قال الرجل: كيف يكون ذلك؟! فقال زين العابدين: ما الذي يشغل بالك سوى شؤون نفسك، فأنت إذن في عزلة، أما أنا فكنت أدعو لكم ربي أن يهبكم من عطائه فأيُّنا اعتزل الناس؟!..

 ربما سمعتم عن ذاك الراهب الذي يسكن جبلاً في قرية، في الجنوب الروسي عندما هاجمه شباب من أنصار الثورة الحمراء، ودخلوا ديره يسخرون منه و من ربه وصلواته، فما كان جوابه إلا: بارككم الرب، بارككم الرب. فزادهم دعاؤه غضباً على غضبٍ. فركله أحدهم بقوة، فسجد الراهب تحت قدميه يبكي..قال الشاب: ما أضعفك وما أضعف إيمانك بل ما أضعف ربك، ها أنت تبكي من ركلةٍ، فأين رهبانيتك المزعومة وأين رباطة جأشك وقوة إيمانك؟! ها أنت تبكي خوفا أيها الدجال...

 ردّ الراهب قائلا: يا ولدي الحبيب إنما أبكي لأجل الألم الذي سوف يعتصر قلبك، عندما تبلغ السبعين من العمر، فتخور قواك، وتتذكر أنك يوما قد قمت بركل شيخ في السبعين..

العارف والراهب والفقير حقيقة الإنسان ومن عداه صورة الإنسان، لا لأن الآخرين مطرودون كما يقول جماعة الكهنوت، بل لأن العارف والراهب والفقير كلهم قد نفذ إلى جوهر المذنب فقبله صديقا. لأنهم ليسوا مرايا تعكس الصورة دون الجوهر بل هم جوهر المرايا ففيهم أُختُزِلَ العالمُ، فبانت الخطيئة غير الخاطئ، بفعل فناء كل الصور في لوح نفوسهم...

أيُّكم ليس الخاطئ فليرجم..لماذا يرجم الخاطئ؟؟، مَن له أن يرجمَ هو مَن كان دوماً كعبةَ الأشياء، ولذا فإن الطواف لا معنى له ما لم يكن حول كعبة معناه الذي تجلى إلى كل جبال الحقد والحنق، فاستحالت حباً وتسامحاً، هو وحده ما يكفل لابن آدم وابن الإنسان وابن الخطيئة، السلام..

قلب الزاهد له سمواتٌ، تخومها لها حفيفٌ يشبه حفيف أجنحة الزمان المتطاير قبوراً، فتخومه وحده تسير فتخترق فضاء العدوانية، فيكون لها ذلك الحفيف الذي يبعث الرعب والطمأنينة، يبعث الخوف والفرح المبهج، يبعث الكثرة والوحدة، يبعث العدم والوجود في نفوس أولئك المتشبثين عبر أطراف أناملهم بساقٍ عرجاء، هي آخر قلعة بقيت من قلاع أرسطو التي شيدها وشيد بها معنى الإنسان. قبل أن  يتصعلك التاريخ، ليقرر أن يركل ارسطو. لكن لما لم يتعرف على ملامح أرسطو جيداً ركلَ وعن غير قصد أو بقصد ربما عنايت خان وجلال الدين...

صحيحٌ أن خان وجلال لا يتأثران بالركل لأن هياكل أبدانهم قد شيدت من طين النور، وعجنت بماء الحب الذي يملأ قلبيهما حد الامتلاء، ولذلك تضخم القلبان فصارا كوكبين يدوران حول قطبٍ واحدٍ في مشهد: إلى ربها ناظرة..المشهد الذي حكاه القران تاركاً سره مطوياً عن أهل التلاوة ودفنه في أعماق أولئك الزهاد الذين تحسبهم سكارى فرط عشقهم..

أولئك الذين لا تسمع لهم حسيساً، إنما ينسابون كنسيم الفجر البارد الذي لا يمكن للنيام أن يحسوا به عن كثبٍ، لكنهم ينتعشون ببرده اللطيف رغم أنهم نيام لا يشعرون..

وحده الزاهد حمل رسالة الحب دون سائر اخوانه، وطاف أصقاع العالم ينشر ذاك الحب، عبر كلمات السكينة التي يعزفها كما يُعزف أجملَ لحنٍ، ثم ولفرط رقتها تستحيل عطراً ذاكياً، فتنساب عبر البساتين والمزابل والتضاريس المختلفة فايّما أنفٍ أستنشقها، كانت ريحها تكتسب نعتها من صلب النعت الذي يشكل عصارة ما قدّمه الإنسان في رحلته نحو القبر..

إن النتَن الذي يشمه انفك منبعثٌ من أعماق نفسك، فدع التهمة وأنظر إلى دماغك وقلبك المتعفنين لتعرف معنى النتن جيداً...

إن قميصك قد قدَّ من قُبُلٍ أيها الأخ الحبيب، فلتخطه إذن، لكن كيف ستخاط سرابيل قيامتك أيها الحبيب ؟!...

إن الخشبة في عينك أيها الحبيب فلتقلعها إذن، لكن كيف ستقلع خشبة صليبك أيها الحبيب..

الزاهد المتصوف أو الدرويش العارف أو الراهب الناسك، ما هو إلا فيلسوف في وسط المعبد، لكنه قطب المعبد. هو فيلسوف لأن أتباع المعبد كلما شاهدوه حكموا عليه بالجلد حتى الموت، إلا أنه لا يموت لذا هم يعاودون الجلد كل طورٍ بسياطٍ تتناسل دوماً..

فيلسوف لأنهم عندما  عمدوا إلى أحشاء المعبد، فاستخرجوا قلبه ودفنوه في القمامة، عمد هو الى القمامة فاستخرج القلب وأمسكه بيده وقال: من رام المعبد فليمرغ جبينه بدم قلب المعبد وليدع الجدران فهي كجدران بيوتكم منهارة حتما ما دام المعبد بلا قلب..

فيلسوف لأنه طلب منهم أن يتركوا القربان عند المذبح، وقال: اذهبوا إلى كل كلمةٍ سيئةٍ فاقتلعوها من جذرها، واكتبوا بدلا منها كلمة الحب، ثم انطلقوا لتشبعوا كل البطون الجائعة، وبعد ذلك قدموا القرابين إن شئتم...

فيلسوفٌ لأن قلبَه سكنُ الإلهِ، لا فرق فيه بين الخاطئ والراهب. قلب الزاهد يسع الكون إذ قد صار عرشاً بفعل سكن المعشوق...

" بحثتُ، لكني لم أستطع أن أجدك.

ناديتُكَ بصوتٍ عالٍ، وأنا واقفٌ على المئذنة.

قرعتُ جرساً نحاسياً منذ شروق الشمس وحتى غروبها.

سبحت في نهر الغانغ*، لكن سدى.

عدتُ من الكعبة خائباً.

بحثتُ عنك في الأرض،

بحثتُ عنك في السماوات، أيها المعشوق.

وفي النهاية، وجدتك، كما الدرة، في محارة قلبي."

الزاهد عابدٌ في وسط الفلاسفة، إنما هو عابدٌ لأنه قال لهم: أن  قد رأيتكم تعصرون خمر الحياة ثم تخلطونه ترابا، فيغدوا طينا لازبا، فتبنون منه عالما تدعون الناس أن يتخذوه سكنا، وما هو بصالح أن يكون سكنا. فقد بني من تراب أفكاركم سادتي، إذن لابد من قيامته حال هبوب الريح العاتية..فحكموا عليه بالجنون والعُصاب، كمرضين محتملين وفق ما توصلت اليه عقولهم المتكبرة المتعجرفة..

الزاهد عابدٌ قد حكم عليه الفلاسفة أنه آبق إذا لم يلتزم بقانون أثينا، وما أجرى عليه ايمانويل كانت وهيجل ووليم جيمس أخيرا من تعديلات، فقال لهم: إنما مثلي ومثلكم كمن ورث وأخوه نخلتين، فقطع أخوه نخلته وباع سعفها واحتطب جذعها، واشترى لحما كثيرا يكفي لعشاءين فاخرين وطبخه بحطبها، فأكل الشواء وليس له من بعده في الاخرى من نصيب.

أما هو فسقى نخلته حتى اثمرت ثمرا كثيرا، فباع بعضه واشترى لحما يكفي لعشاءين بلا بذخ واحتفظ بالباقي..فقامت قيامة الجوع الأكبر فكان ثمره المدخر موجبا لنجاته من الهلاك، وهلك الاخر إذ آثر العاجلة..

الزاهد تصالح في قلبه العالم، إذ كان العالم صورةً في مرآة نفسه. ومنه تستمد الصورة كينونتها. تصالح العالم في قلبه، لئن الخطيئة ونقيضها قد ابتكرتا وظيفة نزع الأنانية، وتسامحتا في زاويةٍ بعيدةٍ من زوايا قلبه..

فما قيمة الشر إذن طالما قرر العارف أن يطهر الشر بمعمودية قلبه..

هل النار ستبقى مشتعلة دوما؟!..

لابدّ أن تنطفئ.

إذن، فلتندلع الحرائق في غابات قلب الزاهد.

ــــــــــــــــــــــ

* نهر في الهند مقدس عند الهندوس لأنهم يعتقدون انه من أنهار الجنة ولذلك يحج اليه الملايين سنويا كي يغسلوا ذنوبهم.

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1390 الجمعة 30/04/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم