قضايا وآراء

المعنى الفلسفي في قصيدة النثر عند الشاعر باسم الماضي

فإذا مدح َ سقراط َ أو أفلاطون َ

 أو ايّا ً من فلاسفة ِ أثينا نهارا

فليس َ بمستغرب ٍ

أن يعتبرَهم في منتصف ِ الليل ِ

عملاء َ لجهة ٍ مشبوهة ٍ ما في التاريخ ِ

ليبصق َ في وجوه ِ فلاسفة ِ العالم ِ جميعا ً

فلا يكون مُدانا ً ...!) الشاعر باسم مزعل  الماضي

 

لست ناقدا أدبيا أتناوش النصوص الشعرية على طاولة التشريح لا اترك لها شبرا من جسد إلا ناله من السلخ نصيب ليغدو النص بعد ذلك جثة ً لكن مشوهة ً كل َّ التشويه , حتى لو أراد من على المشرح أن يظهرها عروسا ً في أول لحظات الزفاف فلن تكون بكرا ً قطعا ً.......

 

ولذا فلن أتقيد البتة بأي قيد مما ينتمي إلى مناهج النقد مع كبير احترامي  للنقاد العراقيين الذين اتهمهم بإهمال التجارب الحقيقية الجديرة بالكتابة حولها على أية حال كون أصحابها ليسوا ممن تكونت شهرتهم في ظل المؤسسات الأدبية والثقافية السلطوية  ,وأزيد أيضا إن هذا اللون من النصوص اعني ما يسمى قصيدة النثر من المفترض أن لا تصنع له مقاييسُ نقدية ٌ تحت طائلة إسقاط الرؤية النقدية لقصيدة العمود أو شعر التفعيلة  , ذاك انه لون مختلف كل الاختلاف عن الألوان السالفة الذكر من جهة انه يرتكز بالكلية على التأويل ولعبة المعاني ولا يعبأ بـ (الإيقاع الخارجي).

 

اعني الإيقاع المتولد من الوزن  أو النظم الشكلي للكلمات قدر اعتماده على إيقاع المعاني المتولدة من التراكيب في الهيكل اللفظي للنص ككل ........

 

اكرر أخرى... لستُ بناقد بيد إني ارغب في تخليق الانطباع نصا ًمفتوحا ًيتناغم جدليّا ً مع قصيدة النثر التي تتمتع بصفة أنها نصٌّ مفتوح ُالدلالة أيضا ً , الانطباع كما يقال هو الومضة الأولى في خلق الإشكالية النقدية أو الرؤية النقدية التي ربما تجلت بعد ذاك مشرحة ً  أو نصا جماليا ًآخرَ كما هو موجود ٌفعلا ً في بعض الأعمال النقدية الرائعة ..........

 

 والنص الذي أراه مستحقا ًلعناية ٍنقدية ٍ خاصّة ٍهو النص العالي التفلسف , ذاك أن قصيدة النثر الفلسفية هي نص فلسفي كذلك , حيث أن الفلسفة أدب رفيع فالأدب الرفيع فلسفة أيضا........... وكم هو رائع ٌ الرأي ُالذي يتبناه الناقد إحسان عباس حول الشعر قائلا ً (أكاد اجزم أن النص الشعري الذي لا  يحتوي على مضامين فلسفية في داخله ليس من الأنماط المحببة إلى نفسي ) مع عدم إغفال ما ينبغي أن يقوم به معمل الشاعر من تحويل وإعادة تخليق للمعنى الفلسفي في قالب شعري جذاب ومؤثر ....

 

-2-

يقول الشاعر باسم الماضي :

(وفي غفلة ِ من الشاعر ِ

أثناء َ نومه ِ

اخذ َ البغل ُ من شعره ِ

ناصع ِ البياض ِ

قضمة ً

فعلسها جيّدا ً

حتى استخرج َ ما فيها

من عصارة ِ السم ِّ في رأس ِ إبليس)

 

لعل الشاعر هنا قطع الطريق على نقاد شعره في أن يتعاطوا بإدمان وانتشاء مهنة تشريح شعره ...،ذاك أن كل من يقوم بذلك ليس إلا بغلٌ يعلس دلالاته وهمه الشعري ويتعامل بانحطاط  مع صداقته العالية المضمون للمعنى , لكنه عاد أخيرا ليرفع من شأن ناقده .. ذاك أن هذا الناقد تمكن أخيرا من استخراج السم وهو خلاصة مركزة لمعاني الشاعر التي أوحيت إليه في  عبقر الوسيط التاريخي بين إبليس والشعراء , ذاك إن إبليس زعيم الجن حتما حتى بعد أن يــُخلع َ أو خـُلـِع َفعلا ً كما تذكر النصوص الدينية المقدسة  , إن الشاعر يعطي لشعره مكانة عالية جدا ....ذاك أن الشاعر في عقيدته هو الوريث الوحيد للآلهة.... ذاك انه يعيد تشكيل كل الكون بتجدد مطرد .......

 

وهو في اصطراع دائم مع الفيلسوف ...ذاك أن الفيلسوف يجذب الوجود بالكلية كيما ينصهر عقلا وهذا  ما لا يرتضيه الشاعر... إذ انه يرى أن مشهد الكون سابحا ً في سديم التناقض كإشكالية ...,مشهدٌ في غاية الروعة وهو المشهد الجميل وحده ...

 

(أما الفيلسوف ُ المخرّف ُ

فينبغي اعادة ُ الترتيب ِ في اعضاء ِ جسمه ِ

فياخذ الدبر ُ مكان َ الفم ِ مثلا ً

اما فمه ُ فانسب ُ مكان ٍ له ُ

هو ان يوضع َ الى جنب ِ سرّته ِ

في مكان ٍ محرج ٍ جدا ً

حيث ُ لا يمكن ُ ان يتحدّث َ بكلام ٍ

مخافة َ ان يقال َ

انه ُ لا يضبط ُ ريح َ بطنه ِ

فلا يسعُه ُ والآخرين َ مكان ٌ واحد ٌ

وهكذا لا يرغب ُ الناس ُ بعد هذا

في ان يوجد َ فلاسفة ٌ ابدا ً

الا ان تكون َ الفلسفة ُ في راس ِ الانسان ِ

من اعراض ِ سرطان ِ المخ ِّ ليس َ الا ّ....)

 

التناقض إذن مكون  ٌأساس ٌفي نص الشاعر فهو لا يتخيل العالم مكبلاً بقيود الاستاتيك ويرى ان ديالكتيك اعادة التشكيل وهدم التشكيل من اجل الإعادة أخرى وهكذا دواليك هو الذي يمد الوجود  بالديمومة .....

 

 ولنا ان نسجل للشاعر وعليه أيضا التزامه بالتحول بغضا ً بالثابت حتى صار المتحول في شعره ثابتا ً, حتى صار التناقض استاتيكا مؤكداً ربما كان عاملا اساسيا في خلق بصمة خاصة لتجربته الشعرية العالية ووضع تجربته الإبداعية  في دائرة التفرد والديمومة ولتفضي في النهاية الى مشهد الخلود الابداعي . اعني بوضوح ان التناقض يزداد لمعانا كلما انزاح نقيضه الى مداعبة أوصاله بغزل الأشياء التي تتداعى كفوق متناقضة ليبدو بعدها التناقض في عنفوان  شبابه يفعل فعله في توليد لامتناهٍ للمعنى وهذا ما أخال الشاعر يقاربه في شعره كيما يديم تجلي تجربته الوجودية شعرا ً......

 

-3-

يستطيع أي ناقد ان يسجل على الشاعر إغراقه في النزوع ألعدمي المدمر والفوضوية العبثية اللامتناهية الأبعاد .....

(اذ ليس َ من المعقول ِ

ان يلتزم َ الشاعر ُ الى آخر ِ حياته ِ

بطاعة ِ نفسِه ِ حتى

وليس َ عسيرا ً على شيطانه ِ

اذا ما كان َ مخلصا ً

لفلسفة ِ العبث ِ في جمجمة ِ البير كامو

ان يلفـِّق َ له ُ جرما ً

يحاكمه ُ به ِ فيودي به ِ

الى ابعد ِ درك ٍ في جهنّم ِ النسيان)

 

لكن ما يكون الشعر ما لم يشهد تلك اللحظة التدميرية لكل هياكل المعابد في تراكيب الجملة الشاحبة , كي يخلق العبث الذي لولاه ما كان لرصيف العقلانية الطويل ان يجد مداد رصفه !!, هل لفلسفة ان تنطق بالحكمة لولا إشكاليات شوبنهاور وهدمه العالي التدمير لبناءات العقل فالهدم والتدمير خلق وبناء جديد للمعنى !!....

 

ان اللحظة العدمية العبثية في شعر الماضي ليست سائبة منفلتة كل الانفلات فارغة تماما من التشئ والصيرورة العقلانية ,ذاك أنها لحظة مفلسفة فما الفلسفة ان لم يكن الشك روحها , معناها , جوهرها....

 

ان لحظة الشاعر العدمية مشحونة عن أخرها بالهم الوجودي العالي الرؤيا لإشكالية الوجود , مفعمة حتى أخرها أيضا بالإنسانية والشاعرية المرهفة , حبلى بالدلالة التي تتدافع بدفق من اجل ان تصرخ في الانسان ان يعيد السؤال ألف مرة ويستعرض الاين والمتى والما واللماذا ,وكل أدوات الفيلسوف فالشاعر إذن ينفجر في لحظته العدمية ليتفتق فيلسوفا يصارع العبث العارم الذي يتشكل في أخر الأمر عقلا.............

 

(ثم ّ ان ّ الشاعر َ يكفر ُ بموهبة ِ الشعر ِ أحيانا ً

ولا يعتبر ُ الخليل َ اكثر َ من رجل ٍ

بلغ َ سن ّ الرشد ِ وظل ّ على مستوى العقل ِ طفلا ً

فاذا ما استبدلت َ راسَه ُ بآخر َ

راس ِ تاجر ٍ

او ملك ٍ جائر ٍ

او كاهن ٍ

استحوذ َ على ملايين ِ الناس ِ بخدعة ٍ مثلا ً

لم يطق هذا

وقال َ: الي ّ َ براسي

فلا الحياة ُ بغير ِ شعر ٍ بذات ِ مغزى

ولا الشعر ُ بلا طفولة ِ شاعره ِ

بذي رجّة ٍ تنزع ُ من العقل ِ استرخاءه ُ كعاهر ٍ

فان نخر َ الدود ُ راس َ الشاعر ِ

ولم يعد استرجاعه ممكنا ً

طرح َ الراس َ البديل َ جانبا ً

وسار َ في الطرقات ِ بين َ الناس ِ

جسدا ً مرعبا ً)

 

يخلص الشاعر من كل ما بدا فوضويا لينشد انه ليس خصما للوجود , ليس خصما للفيلسوف , ليس خصما لشيء , إنما هو خصم لذلك الرأس الذي يستبيح معنى الخير , خصما للجمال لو تضمن القبح روحا ً, خصماً للخير اذا ما طغى فيه معنى الشر  , خصما لذلك الرأس حتى لو كان ذاك الرأس راس شاعرٍ ....

 

يخلص الشاعر من كل ذاك الذي بدا سفسطة لينشد الحكمة , من كل ذاك الذي بدا عدما الى أنشودة للوجود كيما يبدو جميلا , من كل ذاك الذي بدا صخبا الى أطياف الخيال الحالم باللون الأبيض ....اللون الأبيض وحسب.........

 

فالشعر عند الشاعر في أخر المطاف وجود آخر يعيد العقل الى موضعه الذي من المفترض ان يكونه , في راس الوجود لا في قدمه كما يراه الشاعر بوضوح ........

 

-4-

قصيدة الشاعر محدودبة الظهر دائماً لفرط ما تحمل على ظهرها من الهم العام , ووعي الإشكاليات الكبرى التي تعتور طريق الانسان بوصفه الباحث عن الحقيقة , أي انه الكائن الشاعر بوجوده , وان َّ هذا  بالذات  هو صلب الإشكال طبعا ..

 

ولي ان أسجل لقصائده امتيازا ظاهرا عن اغلب قصائد النثر (اعني بين شعراء جيله بالتأكيد, بل إني ازعم أن تجربة باسم الماضي هي الامتداد الطبيعي لتجربة الشاعر الأكبر ادونيس) التي يتعاطاها شعراء اليوم , ذاك انك تجد خلف قصيدة الماضي تجربة إنسانية عميقة ومتجذرة , وانه يدعم قصيدته بمخزون ثقافة إنسانية كبيرة , وانه يحمل هما فلسفيا حقيقيا من جهة , وهما اجتماعيا من الجهة الأخرى

 

فعندما تقرأ شعره تجد نفسك بين إشكالية وتناقض وهم ّ..فتخال الكاتب حينئذ نبيا براس شاعر، لكنه مجنون جدا الى درجة استشعاره لأدق تفاصيل المعنى , ذاك انه يخلق الشراكة بفن ليقحم القارئ في فضاءاته كيما يعيدا – الشاعر والمتلقي - صياغة التأويل تلو التأويل ...ليندك حينها الفاصل بين القارئ والكاتب الى درجة ان يولد كلاهما ذهنا شبقا ينساب المعنى من خلاله في مبادرة جديدة لخلق المعنى..............

 

-5 –

ما الشعر إذن الا موسيقى من المعاني التي ترتشف الأذهان قبل ان ينبري السمع في التفاف ٍ فضولي ٍّ  ليحجز مقعدا ًفوق صدر المعنى ليلتهمه من اجل ان يحتفظ الخليل بنشوة انتصاب قامته عمودا ..لا يمكن له اليوم سوى ان يشنق جمالية كل النصوص التي أنتجها السياب وادونيس ودرويش وسعدي يوسف والماغوط و و و و,  ليرفس خاصرة كل رئة في هذا الوجود يمكن ان نستنشق من خلالها الهواء المعطر بأنفاس الروح المفارق لصخور الموت الممتدة على أجسادنا منذ يوم ماتت افروديت .....

 

ويبقى من المؤكد للشعر الموزون  مكانه كمكان الأجداد من الأبناء كمكان التراث من الحداثة كمكان الجذر من الثمر ......... إذ أني لا أتجاهل مطلقا قضية انحياز الشاعر الى الشعر الموزون ايضا عموديا كان  او شعر تفعيلة بل ان غالبية نصوصه كما اعلم تنتمي الى هذا المجال وان كان لا يخفي انتصاره المعلن لصالح قصيدة النثر .....

 

كبير احترامي للخليل جداً مبجلاً من أجداد الأدب العربي وكذا امرؤ القيس طبعا .......

 

الكوفة العربية/2006م

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1391 السبت 01/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم