قضايا وآراء

مقالةٌ في ماهيــــــةِ الـعـمل

[هذه يدٌ لا تمسها النار]

حديث نبوي ـ أُسد الغابة ج2 ص269.

 

[ذراعُكَ القويُ إذا ما يوماً أرادَ، ستتوقفُ عن الحركةِ كلُّ العجلات]

الشاعر الألماني بريخت.

 

ما هو العمل؟ سؤالٌ قلّما تبادر إلى الأذهان، لا لأنه من الأسئلة الإعجازية، بل لأن جوابه مرتكزٌ في أذهان كل الناس. فهو من الأمور المعلومة لدى الجميع والمتصورة لدى الكل، وكأنك تقول لهم ما هو الوجود؟ ما هي الحياة؟.

لكن العقلَ المتفلسفَ يجد ميدانه الأرحب في مثل هذه الأمور، وذلك لأنه يبحث عن حقائق الأشياء ويرفض الاستسلام للأفكار الجاهزة والتصورات العامة وارتكازات المجتمع.

ويحق للمجتمع أيضا أن يتخذ موقفاً سلبياً من التفلسف، على أساس أن أنهم يعيشون بالاعتماد على الموروث القيمي والمنتج المادي ولا يجدون ضرورة للتفلسف لأنه لن يغير من الواقع الخارجي شيئا.

قد يكون الحق مع هؤلاء بيد أن الفكر الفلسفي خاصة والإنساني عموما، يتسلل ببطء في جسد الاجتماع الإنساني ثم سرعان ما تظهر تأثيراته، بما خلق القفزات المتنوعة في الوعي البشري، وأدى إلى إعادة صياغة المجتمعات وقيمها العامة مرات عديدة.فلا يصح بعد ذاك أن نوقر الآذان أمام هذه الأسئلة بل نغامر في البحث عن الإجابات، ونواصل المغامرة بتفكيكها وإعادة تركيبها بما قد يفضي إلى أشياء ودلالات ومفاهيم وأمور جديدة.

فالسؤال الفلسفي بحد ذاته إشكاليةٌ لا يمكن الوقوف في وجهها أو رفضها إلا بما يؤدي إلى السؤال الفلسفي أي أن رفض السؤال الفلسفي إنما يكون عبر التفلسف أيضا. كما قيل قديما: يحق لنا أن نقول أن لا معنى للتفلسف لكن ينبغي أن نتفلسف لكي نثبت هذا الحق.

قد يكون من السهل على الاقتصادي أن يقول: أن العمل هو النشاط الإنساني الذي يُكيّف بفضله مواد الطبيعة لتلبية حاجاته.ومن الأسهل أن يضيف الماركسي: أن العمل يساوي الربح أو فائض القيمة. ويضيف الرأسمالي أن العمل يساوي اللذة المترتبة على الربح أو فائض القيمة.لكن هل يكفي ذلك في بيان ماهية العمل، خصوصا إذا أضفنا السؤال التالي: هل العمل يساوي الفعل؟ هل العملُ فعلٌ فقط، أي ما يعبر عنه بالنشاط، عضليا كان أم ذهنيا؟.

هل يمكن أن ننظر للعمل على انه سلوك طبيعي فطري، يسلكه الإنسان بدوافع جوانية خفية، ربما كان الأجر واللذة مجرد أثار واقعية أو خارجية له. بيد أن الإنسان إنما يتحرك بدوافع مجهولة خفية كامنة في أعماق ذاته. أو قل انه يعمل بدوافع لا وعيه أو لا واعية. بينما العمل المعلل غائيا بالأجر أو اللذة المترتبة على الأجر، إنما يُصيّر الإنسان عاملا بدوافع واعية، أو عاملا بوعي؟.

إن النظرة الثانية للعمل هي التي دفعت الماركسيين إلى تأسيس النقابات، وجعل وعي الشغيلة أو العمال هدفا أساسيا رئيسيا، كمقدمة حتمية، من اجل صيرورة الثورة ضد الرأسمالية. والرأسماليون يعتمدون على نفس الفكرة أي أن العمل فعل واعي معلل وغائي، عندما يقدْمون على زيادة أجور العمال تارة، ووضع قوانين العمل المختلفة، كقوانين التقاعد والتامين ونحوهما تارة أخرى، من اجل خلق وعي مقابل أو مضاد يدفع العامل لتفضيل الاقتصاد الرأسمالي، بما يوفره للعامل من ظروف وقوانين، تجعل العمل لدى أصحاب وسائل الإنتاج أو الثروة غير موجب للشعور بالغبن ومن ثم التفكير بالثورة. ليعود الماركسيون بعد ذلك ليعدلوا ويضيفوا، وهكذا الرأسماليون في إطارٍ من التنافس على وعي العامل بما يفضي إلى كسبه ليكون في صف احدهما.

لا يمكن بحال إنكار حقيقة أن العمل في نفسه فعلٌ واعٍ، لأنه إنما يصدر عن إرادة معللة بهدف وغاية. لكن ذلك إنما يكون في عالم الواقع الخارجي، أي استجابة لواقع موضوعي معين. بيد أن الإنسان لو تجرد عن الوقائع الموضوعية الخارجية، فانه سيشعر إبتداءاً بدافع غريزي نحو العمل أو دافع نفسي جواني نحو العمل ، أو هو شيء مجهول كامن في أغوار النفس لا يعلمه يدفعه نحو أن يعمل؟!.

 ربما كانت هذه الفكرة محضَ وهمٍ ناتج عن أن الإنسان قد لا يتخيل نفسه إلا وهو يعمل، إذ لا يمكن أن يتصور نفسه لا يعمل. بمعنى أن ما يتصوره دوافع مجهولة في أعماقه، هي ليست دوافع مجهولة أو فطرية، قدر ما هي أمور اكتسبها واختزنها في ذاكرته وأعماق عقله، بلاوعي منه، منذ طفولة عملية الإدراك لديه وحتى لحظة الالتفات لسؤال دوافع العمل. فهو حين يبدأ الإدراك يشاهد والدته تعمل داخل البيت عادة، ووالده يعمل، وكل الناس من حوله يعملون. سيدرك آنذاك وفي مرحلة مبكرة سنياً، أن عليه أن يعمل هو الآخر يوما ما. بل انه وفي طفولته سيقحم في معمعة العمل، عبر الدراسة بما هي جهد أو عمل، مضافا إلا انه ورغم صغره يمارس الدراسة عادة بوصفها مقدمة للعمل لا أنها عمل فقط. هكذا تجد عقله مشحونا تماما بهذه الملازمة الحتمية بين الإنسان والعمل. لهذا إذا انتبه إلى العلة الكامنة وراء كونه ذو عمل، سيخيّل اليه حينها انه مجبول على العمل، وان الدوافع والغايات الموضوعية لا دخل لها ولا اثر في خلق إرادة العمل في ذهنه.

أما فيما يخص الدوافع الغريزية للعمل فلا يمكن إنكارها أيضا، غير أن هذه الدوافع الغريزية مشتركة بين الإنسان والحيوان، ذاك أن الحيوان يمارس العمل هو الآخر بدوافع غريزية من اجل البقاء دون شعور منه بأنه يعمل، أو أن عمله هذا موجب لبقائه وحفظ وجوده. فالحيوان يخرج للصيد مثلا لكن بدافع غريزته، بمعنى أن شعوره بالجوع يدفعه لان يخرج للصيد. والنمل يجمع الحبوب ويخزنها بدوافع غريزية، فالفعل الأول لا يعني بأي حال أن الحيوان الخارج للصيد يدرك معنى العمل، أو انه يعمل، أو أن لفعله هذا آثار، ولا يعي عمله. الإنسان شاركه هذا الفعل وبذات الدوافع في يوم من الأيام، غاية الأمر أن الإنسان كائنٌ واعٍ، لذلك لم يبق على ذات الحال فطوّر وسائل الصيد وطور أغراض الصيد إلى أشياء أخرى غير الأكل كاللبس ونحوه مما يمكن استفادته من الصيد.

 والنملة لا تدرك أنها تعمل ولا تدرك معنى تخزين الطعام، بمعنى أنها تفعل ذلك بدوافع غريزية. والإنسان هو الآخر كان يعمل ذات العمل وكان يخزن الحبوب وغيره مما يمكن أن يخزن، لكن فعلَ ذلك بتوسط إدراكه أن بعض الأمور الموجودة في زمن لا يمكن أن توجد في الزمن الآخر، وان بعض المخاطر ربما أتت على المحصول، أي انه أدرك مفهوم التلف، لذا اهتدى وعن وعي إلى فكرة التخزين كفعل له أثره الاقتصادي المؤثر.

 فالدوافع الغريزية للعمل لاشك موجودة عند الإنسان كما هي موجودة عند الحيوان، لكن الإنسان يعي هذه الدوافع ويدرك الحكمة من ورائها ويدرك ما يفعل فيطوره ويقدمه.

ما حقيقة العمل إذن؟ هل هي دوافع وغايات العمل، أم إرادة العمل، أم فعل العمل؟.

أما دافع العمل فلاشك في كونه مقوما للعمل، بدونه لا يصبح العمل عملا بالمعنى العقلائي. فلأجل ذلك لا يكون الفعل العبثي عملاً، رغم إننا لا نتعقل الفعل العبثي المحض فحتى العابث له دوافعه للعبث ، لا اقل أن نفس العبث دافع أو غاية، فضلا عن وجود دوافع العبثية في مقابل الدوافع العقلائية. فعندما يعبث الإنسان في ذقنه أو علبة السجائر التي أمامه أو يقوم بتمزيق ورقة أو شيء، هل يفعل ذلك من دون داعٍ تماما؟ لو سألناه لأجاب بأنه لا سبب لفعله، لا غاية لفعله، انه يفعل ذلك هكذا بلا هدف.... لكننا لو حللنا فعله سيكولوجيا لوجدنا لديه دوافع عديدة، لكنها دوافع عبثية غير عقلائية.

إذن الدوافع التي تقوِّم العمل وتجعله عملا هي الدوافع العقلائية فقط أعني التي يتفق عليها العقلاء ويعتبرونها دوافع مقبولة ولا تجابه بالاستنكار من لدنهم، فلا يكون الفعل العبثي أو العمل العبثي بعد ذاك عملا، رغم انه هكذا فلسفيا، لكنه ليس هكذا كما يراه العقلاء.

بذلك نخلص إلى أن دافع العمل هو المقوم الأساس لحقيقة العمل، بحيث لو لم يكن للعمل دافع معقول لكان العمل حينئذ بحكم المعدوم أي بحكم اللاعمل، فالعبث عندهم كاللاعمل.

غير أن كون الدافع مقوم للعمل لا يجعله المقوم الوحيد بما يفضي إلى أن نقول أن حقيقة العمل هو دوافعه أو غاياته، بل إن لإرادة العمل دخلٌ في قوام حقيقة العمل. ذاك أن العمل غير المقصود أو الذي لا تتوفر فيه الإرادة الواعية، لا يعد عند العقلاء عملاً إنما هو محض ناتج عرضي أو شيء وجد في الخارج صدفة. لكن تصور وجود إرادة بلا دوافع أو غايات صعب هو الأخر إن لم يكن مستحيلا، فإرادة الفعل بلا غاية محض عبث لا عمل، وتخلف الغاية عن الإرادة، لا يجعله عملا إنما هو محض حلم أو هدف أو طموح أو أمل. فالغاية إذن تسبب الإرادة، والإرادة تجعل الغاية ذات قيمة على أساس أنها تدفع بالغاية نحو الصيرورة والكون في الخارج.

أما الفعل الخارجي فهو التتويج لكل ما تقدم بل هو الوجود الخارجي الحقيقي للعمل، حتى أن لفظ العمل متى أُطلق تبادر للسامع الفعل الخارجي دون الغاية والإرادة. والفعل الخارجي هو الذي يحقق العمل، إذ إن الغاية والإرادة بدون العمل لا يمكن أن يحصل بهما ما يسمى عملا، بل سيقول الإنسان انه أراد أن يعمل لهذا الغرض لكنه لم يستطع لأجل مانعٍ معين كفقد الإمكانية ونحو ذلك.

فهل تكون حقيقة العمل إذن متقومة بكل ما تقدم؟ قد نجيب بالإيجاب معللين ذلك بأن الإرادة والفعل بلا غاية مجرد عبث لا عمل، والغاية بلا إرادة مجرد طموح وتمني، والغاية والعمل بلا إرادة يستحيل أن يوجدا عملا، لأنه لا يكون عملا مقصودا بل مجرد عارض لا إرادي أو غير مقصود. فحقيقة العمل مركبة من مجموع الأمور الثلاثة الغاية والإرادة والفعل، لكن الفعل لما كان من الأمور الحسية الواقعية الخارجية كان الذهن مشغولا به وغير ملتفت إلى غيره بما جعله يتوهم أن حقيقة العمل هو الفعل في الخارج، وإذا قيل له: ما العمل؟ قال: هو الفعل وأضاف له الغايات وربما أشار إلى الإرادة بما يوهم أن حقيقة العمل هي الفعل دون الغاية والإرادة.

لكن إذا اعتبرنا الإرادة هي القوام كان الفعل هو الكاشف عن تلك الإرادة التي هي حقيقة العمل. ولا يمكن أن نتصور كون الغاية هي الحقيقة فالغاية جزء العلة ولا تدخل في حقيقة الفعل باعتبار أن الغاية أمر خارج العمل إذ أنها هدف العمل لا العمل نفسه فلا تكون مقومة لحقيقته.

إنما المقوم لحقيقة العمل هو الإرادة والفعل فقط، على أساس اعتبار الإرادة متعلقة بفعل العمل الخارجي غير الإرادة الأخرى المتعلقة بفعل آخر من الأفعال، أما إذا قلنا أن الإرادة واحدة غاية الأمر أن متعلق الإرادة أو المراد يتبدل ويتغير وهذا لا يعني تبدّل أو تغيّر حقيقة الإرادة. فحينئذ لا تكون الإرادة مقوما لماهية أو حقيقة العمل إنما هي شوق نفسي يدفع باتجاه الفعل، معلولٌ للعلة الغائية. أي أن حصول الشوق إنما يكون بتأثير الغاية.

وربما فكرنا باتجاه آخر، أن الإرادة تتضمن معنى الحكم أو اتخاذ القرار أي أنها من الأمور العقلية لا النفسية، وعلى كل حال سواء أكانت الإرادة عقلية أم نفسية، فإنها لا تكون مقوما لحقيقة العمل بل المقوم هو خصوص الفعل، وأما ما عداه كالغاية والإرادة فهي مؤثرة في الفعل لكنها مغايرة لحقيقته ولا دخل لها في ماهيته.

لكن للعمل مضافا لحقيقته الفلسفية التجريدية، حقيقة جمالية فنية ذاك أن العمل بحد ذاته عبارة عن رسم وتشكيل وإبداع، يتلاعب برمال الواقع وصخوره وكل صمائياته ويحولها إلى قطعٍ جمالية رائعة ومشاهد ممتعة، العمل هو الذي صيّر العالم مشهدا حافلا بالفن والجمال والرومانسية، العمل حركة ديناميكية تلبس الأرض كل يوم حلّةً جديدة لتصيّرها في حالة تأنق دائم يشف بهجة ويفيض حيوية، العمل صيّر أرضنا تحفةً معمارية غاية في الروعة والإبداع، ألبسَ مشهد الحياة على سطح الارض لبوس الارتياح والبهجة.

لكن العمل ذات نفسه يقف يوميا ليقترح لنا مأساة جديدة، ليشعرنا بالرعب والقلق والألم، العمل ذات نفسه يقف وراء تهديدنا وبشكل مستمر باحتمال الفناء ويجعل الموت قاب قوسين أو أدنى منا، أفرادا وجماعات. العمل هو العلة الكامنة وراء عشرات الآلاف من المخترعات التي تعمل على إبادة الإنسان، وجعل التعاسة تسمم بدن العالم، وتصيبه بهستيرية القتل والدمار والظلم. العمل هو الذي أنجز كل هذا المشروع التدميري الضخم الذي يحيق بالعالم، اعني أسلحة الدمار الشامل، اعني التقانة ذات الاستعمالات العسكرية، اعني صناعة الأمراض، ...إلى أخر الاكتشافات الخطيرة التي جعلت الإنسان يعيش مشهدا سوداويا داميا مرعبا، العمل إذن أنتج كابوس الموت، أنتج كابوس الألم، كابوس الرعب...

أيهما العمل؟ العمل رعب وموت ودمار، أم هو بهجة وسرور ورخاء؟ العمل علة الخوف أم الأمن؟ العمل علة الراحة أم الألم؟ العمل مع الخير أم مع الشر؟.

هل المشكلة في العمل أم في العامل؟ هل هي في العمل أم هي في مَن يعمل وماذا يعمل ولماذا يعمل؟.

 المشكلة في الإنسان الذي متى ما أراد أن يصنع الخير صنعه وبأبهى حلله وأبدع أشكاله وأجمل صوره، ومتى ما أراد الشر خلقه بأبشع وجوهه وأرعب مشاهده وافضع أنماطه.

العمل فعل محايد تحكمه الغايات، الإنسان هو الذي يعمل ويريد الخير كغاية وهدف أو يكون مراده ومقصده الشر، الإنسان هو الذي يغامر ببقائه من اجل أن لا يبقى الآخر. فالغاية والهدف هما ما يحوّل العمل إلى عمل خير أو عمل شر، إلى مشروع حياة وإبداع وسعادة أو مشروع موت وتخريب وشقاء.

 

[email protected]

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1393 الثلاثاء 04/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم