قضايا وآراء

يوتوبيا الماء

لن تـُسكتَ الريحُ

عصفورا بحنجرتي

من سين ِ سنبلتي

أو راء ِ راحلتي

سرّان في السرّ ِ

قد حطا على شفتي

 

صوته كان متهدجا، صاخبا ومتميزا ً، وحيث كنا ننام على السطوح وبرودة شهر آب في الغبش تلسع أجسادنا الطرية بسياطها العذبة .. وإذ يوقظنا ذاك الصوت الذي يبتلع الحروف ابتلاعا أفتح عيني أبصر ابتسامة فاتنة لنخلة دارهم الباسقة  فأعرف أن العم حسين (هو ابن عمة والدي) قد جاء من البصرة في إجازته الشهرية أو السنوية لم أعد أذكر ذلك، ما أعرفه أنه يعمل هنالك، حيث هجر الحلة للعمل سائقا بسيطا في شركة نفط البصرة، فهو لا يجيدُ غيرها وليس عنده شهادة، ومن لديه شهادة في ذلك الوقت، لقد ارتبطت البصرة في ذهني  ومخيلتي بصوت عمي حسين فكأنهما توأمان، وكنت أشعر بالأسى عليه لأنه تغرب عنا وبالطبع   كان هذا ما يحسه الأهل عليه وإحساسي كان صدى لإحساس الجميع إلا أني لم أكن أعلم أن أساي هذا في واقعه أسىً مؤجلا عليّ حيث لم أكن أعلم ما كان قد خبئه لي القدر، أي بعد عشر سنوات أو أكثر بقليل ولكن من ذا الذي سيرجم بالغيب في ذلك الوقت ويتنبأ بما سوف يحدث إنه محض خيال ولن يصدقه أحد...!

 

تقول لنا كتب التأريخ إن البصرة والكوفة توأمان عربيان ولدا من رحم شريف وبأيادي مسلمة لن تتكرر، الفرق بينهما ستة شهور لا أكثر وهذا لا يعني شيئا بعمر الحواضر والمدن، حيث بنيت البصرة أولا في عام أربعة عشر للهجرة (635م) ومن بعدها بنيت كوفان، ويذكر أيضا أن هنالك مدينة أثرية تقع قربها هي مدينة طريدون وقد بنيت في زمن نبو خذ نصر، ويعتقد أن موقعها الحالي قرب خور الزبير الحالي الذي يقع إلى الجنوب من مدينة الزبير، إلا أن الرحالة "جسني" يعتقد أن موقعها قرب جبل سنام وكان يحميها سد عظيم من ارتفاع منسوب مياه البحر، وإذا صح ذلك فهذا يعني أن مياه الخليج كانت تقف عند جبل سنام أيام البابليين، لذا فليس صدفة نجد أهل البصرة اليوم يأتون بالرمل والحصى والخابط من ذلك المكان ليبنوا مدينتهم ويبلطوا شوارعهم.

 

إنه معلم جديد..هذا ما كان يردده الطلاب، وهو بصراوي، وجه عريض أبيض مع حمرة شفيفة وجثة كبيرة نسبيا إلا أنه ليس طويلا، هذا ما كنت أختزنه في ذاكرتي عن شكله وقد يكون غير ذلك، إنه المعلم "عبد العال" وهو مرشدنا الجديد في الصف الرابع الابتدائي (ب)، ما الذي جاء به من البصرة إلى الحلة..عجبا كيف تتسرب الأخبار بسرعة، إنه سياسي (شيوعي) مبعد.. إذن علينا حفظ الدرس جيدا فالسياسي في العراق غير مسموح له بالعمل قرب أهله، وبالطبع كان قبله المعلم خضر فهو كردي وقد أبعد مع عائلته ويعمل في المدرسة نفسها ، كنا نخاف المعلمين ونحذر أن يرونا خارج المدرسة، كان بيتنا لا يبعد سوى عشرة دقائق أو أقل عن المدرسة، ولكن بيت المعلم "عبد العال" يبعد أكثر من عشر ساعات بالقطار الكئيب، هذا غير عادل يا إلهي، لا تفكر كثيرا فمصيرك مثله وعليك دفع الثمن، ماذا؟.

 

دائما ما كنت أتساءل عن معنى البصرة، وهل هي المدينة الوحيدة التي تحمل هذا الاسم؟ يخبرني الإنترنت أن هنالك مدن أخرى تحمل الاسم ذاته ، ففي المغرب لديهم بصرتهم، وجميل حقا أن نجد البصرة في مشرق العالم العربي ، وفي مغربه أيضا، وكذلك هنالك منطقة في ماليزيا تسمى بالبصرة، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن البصرة تحد العالمين العربي والإسلامي سوية وتعبر عن نفسها بقوة، ولكن ملفوظ البصرة يطلق على الحجارة الرخوة التي فيها بياض وكذلك الأرض الغليظة، وقد ذكر أن المسلمين حين وافوا البصرة للنزول فيها، نظروا إليها من بعيد، وأبصروا الحصى عليها فقالوا هذه أرض بصرة، يعنون حصبة فسميت بذلك، كما أن هنالك من يقول إن أرض البصرة التي بين العقيق وأعلى المربد حجارة رخوة وعلى هذا الأساس سميت بهذا الاسم، أما البصرتان فهما البصرة والكوفة وهو ما نجده في معجم البلدان للحموي.

 

كان علي الانتظار حتى سن الثامنة عشرة كي أرى البصرة، وقد جئتها مرغما وليس طائعا ً أو راغبا ً ولأسباب دراسية بحتة، حيث كنت قد ملأت استمارة القبول بطريقة خاطئة ولم أهتم بترتيب الخيارات فكان أن حصلت على هندسة البصرة بدلا من الجامعة التكنولوجية، حيث كنت راغبا في الدراسة في بغداد لقربها من الحلة(100 كم) وكذلك فأن القرب هذا سيجعلني أرى عائلتي على الأقل أسبوعيا عل عكس البصرة التي سيتوجب علي البقاء فيها لعدة شهور قبل أن أزورها مرة ثانية، وبالطبع كان ذلك الأمر شاقا لي ولعائلتي وخصوصا والدتي التي كنت وحيدها مع خمس أخوات،  وبدلا من أن نفرح بالهندسة تحول قبولي في الجامعة إلى يوم حزين، حيث كانت النسوة يتوالين إلى بيتنا وهن يهنأن والدتي ويبكين معها..حقا كانت دراما غير عادية وكأنني ذاهب للحرب وليس للدراسة.. إذن ما كنت أخاف منه حدث وعلي أن ألتقي العم حسين هناك في البصرة.. يا للصدفة الغريبة ويا لتهكم الأقدار.

 

يقال إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) خاطب أهل البصرة في خطبة من عيونه خطبه النثرية الباهرة قائلا:- يا أهل البصرة إن الله لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطة شرف ولا كرم إلا وجعل فيكم أفضل ذلك، وزادكم من فضله بمائة ما ليس لهم، أنتم أقوم الناس قبلة، وقارئكم أقرأ الناس وزاهدكم أزهد الناس، وعابدكم أعبد الناس، وتاجركم أتجر الناس وأصدقهم في تجارته، ومتصدقكم أكرم الناس صدقة، وغنيكم أشد الناس بذلا وتواضعا،  وشريفكم أحسن الناس خلقا وأنتم أكرم الناس جوارا وأقلهم تكلفا لما لا يعنيه، وأحرصهم على الصلاة في جماعة، أثماركم أكثر الثمار وأموالكم أكثر الأموال، وصغاركم أكيس  الصغار، ونساؤكم أمتع النساء وأحسنهن تبعلا، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح صلاحا لمعاشكم، والبحر سببا لكثرة أموالكم، فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم.

 

لأول مرة أركب القطار، ولأول مرة أجدني مسافرا مع عمي "دخيل" إلى البصرة، وليس لنا سوى العم حسين فيها وكنت لا أعرف بالضبط كيف يعيش وأين يعيش ولكن حياته بالتأكيد عادية كحياتنا ولكننا لا نريد تحميله ما لا طاقة له فحالته المادية بسيطة كحالتنا ولديه عائلة ليست صغيرة، وصلنا البصرة عند المساء وكان الجو دافئا أما سفرة القطار فكانت رائعة كما أنني لم أكن الوحيد الذي سيذهب للبصرة بل تفاجئت عندما قابلت في المحطة الكثير من الطلبة(طلابا وطالبات) من الذين أعرفهم معي ،إذن هنالك حياة تنتظرني مع أناس أعرفهم وآخرين سأعرفهم لاحقا، كان على عمي أن يأخذني للبصرة لأبقى فترة قصيرة(البداية فقط) مع عائلة العم حسين ثم بعدها أنتقل للسكن في الأقسام الداخلية التي تستوجب الانتظار لفترة قد تستغرق شهرا أو أكثر، وفعلا وبعد أن أكملنا إجراءات التسجيل ورتبنا الإقامة مع  عائلة العم حسين مؤقتا الذي كان ودودا وطيبا إلى أبعد الحدود وفرحا بنا غادر عمي دخيل إلى الحلة وبقيت أنا لوحدي، وهي المرة الأولى التي وجدت فيها نفسي وحيدا وعلي أن أعتمد فيها على نفسي في كل التفاصيل، وكان صعبا أن أتأقلم على ذلك إلا أني نجحت فليس أمامي بديلا سوى ذلك.

 

رائعة المكان للقاص "محمد خضير" المسماة بصرياثا، قد أطرت واستعارت المسمى القديم ليكون عنوانا لا ينسى لتحفة أدبية خالدة، وبالتالي فأن (بصرياثا / أو بصريافا) هي مسمى قديم بالآرامية للمنطقة التي قد بنيت عليها البصرة ومعناها(منطقة الصرايف / باصريفي) والصريفة تعني بيت الطين العراقي، هنالك نشأ العروض العربي على يد الخليل بن أحمد وهنالك شـُرّحتْ العين على يد الحسن بن الهيثم.. ومن هناك مر الخوارج والزنج والقرامطة والمغول وطمع فيها الكثير من شاهات إيران ، البصرة ابنة قديمة للخليج إلا أنها اليوم وبقدرة قادر نجدها مقسمة بين ثلاث دول إداريا الجزء العراقي منها يطل طلة خجولة على الخليج ولا أحد يدري كيف غادرت الضفة الأخرى من الشط إلى إيران، ولا أحد يدري كيف اقتطع قلم "برسي كوكس" لحمة كبيرة من جسدها في خيمته الصحراوية ، البصرة اليوم تطل إطلالة حزينة على الخليج.

 

البصرة في السبعينات عندما بدأت الدراسة في رحاب جامعتها الرائعة كانت لؤلؤة خليجية بامتياز ولا تجاريها أية مدينة أخرى، وكنت أرى فيها الكثير من الأجانب وخاصة في العشار وشارع الوطني وأسواقها العامرة الأخرى، في الجامعة كنا نعيش على سلفة الدولة الشهرية وقد كانت عشرة دنانير في حينه ولكن الدولة عادت وزادتها إلى خمسة دنانير لتصبح خمسة عشر دينارا فضلا عن السكن  في الأقسام الداخلية وبما يعادل خمسة دنانير شهريا حسبما أذكر، أما الطلبة العرب فكانت الدولة تدفع لهم منحة تعادل الخمسة والعشرين دينارا فضلا عن أن أقسامهم الداخلية كانت منفصلة عن أقسامنا ومجانية، في واقع الحال كانت السلفة كافية لحياة بسيطة لا تتعدى الطعام والنقل والإحتياجات المهمة، أما الترفيه وغيرها فتتطلب أموالا أخرى لا تستطيع عائلتي أن ترسلها إلي كما أنني في ذلك الوقت لم احتج أكثر مما أنا فيه وقد أنهيت دراستي بسلفة الجامعة ولم أحمّل عائلتي أي مصروفات أخرى أو إضافية، بالطبع كان علي أن أعيد هذه السلفة للدولة بعد التخرج وهذا ما حصل فعلا حيث استرجعت مني الدولة كل ما كانت قد صرفته علي.

 

في كتاب "ريدر فسّر" المعنون البصرة وحلم الجمهورية الخليجية نقرأ معلومات مذهلة عن رغبة الصفوة من السياسيين البصريين في الانفصال عن المركز في بغداد، وقد تفسر لنا هذه المعلومات ما يجري اليوم في مدينة البصرة من صراع دموي بين الحكومة المركزية وبقية القوى التي تود انتزاع البصرة من حضن العراق، ففي الوقت الذي كانت تشيع في البصرة مقولات عن رغبة بريطانيا في تأسيس كيان واحد يمتد من الخليج إلى الموصل في ربيع العام 1921 ويحكمه أمير عربي ، كان بعض التجار وملاك الأراضي البصريين يجرون محادثات مع بيرسي كوكس في 7 نيسان من العام  ذاته يطالبونه  بإدارة منفصلة وتحت الحكم البريطاني‘ حيث زعموا أن البصرة مدينة تجارية ولها مصالحها المختلفة عن مصالح بغداد، ويقال إن هنالك طلبا قد وقع عليه 4500 من البصريين بهذا الخصوص، كان المسؤولون البريطانيون يقرون بوجود هذا التوجه الانفصالي إلا أن تشرشل كان قد ندد بهذه المخططات التي تتحدى رؤية المملكة الواحدة في خطبة له في مجلس الشيوخ وذكر البصرة بالذات.

 

كان العم حسين يسكن في الحيانية (حي الحسين) وبالضبط في نهاية شارع موسى الكاظم وكانت المنطقة في بداية إنشائها ولم تكن الشوارع مبلطة في ذلك الوقت سوى الشارع الرئيسي، كان علي أن أمشي طريقا غير مبلط من البيت وحتى الشارع العام ولمدة عشرة دقائق أو أكثر لأركب الباص الخشبي وكي أصل العشار أحتاج لنصف ساعة أخرى، ومن هناك كان علي أن أمشي حتى شط العرب ولمدة عشر دقائق أخرى ومن ثم أركب في "الطبكة" أو هكذا يسمونها لعبور شط العرب وهي مجانية ألا أن هنالك بعض الأبلام الصغيرة والشختورات التي يمكن ركوبها لعبور الشط لقاء أجر بسيط في الحالات المستعجلة، وعندما ندرك الضفة الأخرى من شط العرب تنتظرنا باصات الجامعة لتنقلنا عبر التنومة إلى مبنى الجامعة حيث نحتاج إلى عشر دقائق أخرى، كلية الهندسة تقع في عمق الجامعة وتحتاج مني أن أمشي  لعشرة دقائق أخرى،  بالطبع هي سفرة مرهقة لا بد منها من البيت إلى الجامعة استمرت معي لأكثر من شهر ولمرتين في اليوم أي ذهابا وإيابا.

 

ما كان يخيفني عند الرجوع  من الجامعة عند المساء وعدم التأخر في الليل هو الكلاب السائبة وخصوصا كلب شرس وضخم قرب بيت في بداية شارع موسى الكاظم، كان علي أن أمر من قربه ذهابا وإيابا  فهو يطارد كل غريب يمر قربه،  وكان علي أن أستعد للركض كي لا يعظني، وفعلا حين أمر قربه   يأخذ بالنباح ثم يركض خلفي، فأرى نفسي أعدو لا إراديا أمامه وبكل سرعتي ، وعندما ييأس باللحاق بي  يرجع قافلا لمكانه، في أحدى المرات مررت فلم أجده فاستغربت من ذلك، فقلت الحمد لله عسى أن يكون أهل البيت استغنوا عنه، فمشيت على مهلي هادئا أمام البيت ، وما أن إجتزت عدة أمتار وإذا بنباحه يهزني وشعرت أنه سينقض علي من الخلف، وبحركة لا إرادية توقفت واستدرت إليه  وأنا متهيئا لأية حركة  تصدر منه، كنت أنتظر إنقضاضه علي ولكن لدهشتي وجدته وقد وقف في مكانه ولم يتحرك ولكنه ظل ينبح بصوت عال لأخافتي،  بقيت متوقفا ومتحفزا أمامه ، فما كان منه إلا أن قلل نباحه رويدا رويدا ثم استدار راجعا، عندما رجع ظللت ذاهلا من تصرفه، فاستدرت باتجاه بيت عمي وأنا أضحك من نفسي كيف لهذا الكلب اللعين أن يخيفني كل هذه الأيام ويجعلني أركض مذعورا كل يوم أمامه، يبدو أن الكلاب تغدو نمورا إذا لم يوقفها أحد، ترى كم من النمور المزيفة صنعنا نتاج خوفنا وعدم ردعها في الوقت المناسب،  في الأيام اللاحقة كنت أمرّ أمامه مزهوا وهو لا يحرك ساكنا ولا تصدر منه أية حركة، يبدو أنه بات يعرف خلف من يجري، وأني اكتشفت سره فهو لم يعد يخيفني، فهو نمرمن ورق، استمر الحال هكذا حتى تم تبليغنا أخيرا بظهور أسمائنا في القسم الداخلي فانتقلت إلى التنومة ، حيث كان مبنى القسم الداخلي للطلبة ضمن مبنى الجامعة مما جنبني عناء الطريق اليومي. ولكني وبعد هذه الفترة بدأت أحن إلى والدتي وأخواتي وأصدقائي في الحلة وبدأت أشعر أن منشارا يقطع روحي في كل يوم وأنا بعيد عن عائلتي. لا شيء مجاني في هذه الحياة هنالك ثمن يجب أن ندفعه للحصول على ما نريده.

 

لم تكن البصرة لوحدها تريد الانفصال فقد تفاجأ الإنكليز برغبة قضاء الزبير لتكون إمارة صحراوية منفصلة أيضا وبالذات في بواكير العام 1921 م، وبالطبع سيكون هذا مطلبا صعبا،  فعليها أن تنفصل عن البصرة أولا قبل انفصالها عن بغداد، وبالطبع وجد ت الزبير في ذلك الوقت الكثير من الأسباب للمطالبة بالانفصال (مثلما يحدث في هذه الأيام من مطالبات فدرالية وغيرها) ومنها أنها تشترك في بعض من خصائصها مع أقاليم أخرى في المنطقة ضمن الخارطة العراقية  العثمانية (مثل الكويت، قطر والخميسية في شمال غرب البصرة) وكذلك في كونها حافظت على المشيخة العرفية الشرعية، فضلا على أن للزبير عاداتها الوطنية من ناحية الثقافة والدين، فهي تتبع المنهج الحنبلي مما يجعلها شبيهة بأهل نجد ومختلفة عن البصرة وبقية العراق، ولكن يبدو أن أعيان الزبير وعكس الآخرين قد تصدوا لشيخ الزبير في ذلك الوقت ولم يساندوه في دعوته تلك، بل أنهم تحدوه فوجدوا في انتمائهم العراقي حصنا أمينا من أن يفرطوا بجذورهم ويصنعوا لهم تاريخا ملفقا يوهموا به أنفسهم لا يشرفهم ولا يشرف الأجيال اللاحقة، لذا وعلى العكس من أعيان البصرة ، ظهرت عرائض ضد الانفصال وبادرت أصوات بصرية وكذلك نجدية وأدت وأطاحت بهذه المطالب الانفصالية في مكانها ليس في الزبير وحدها بل في البصرة أيضا ،إذ ان هذه الدعوة لو تحققت لأحرقت الأخضر واليابس كما نلاحظ ذلك اليوم مما جرى ويجري مع الأماكن التي انفصلت عن العراق وكيف زعزعت الأمن في المنطقة وأضرت بالمصالح العليا لأبناء العراق والأمة.

 

على مقاعد الجامعة في البصرة كان يجمعنا الدرس والصداقة غير المتكلفة، كنا جميعا أصدقاء ولم نكن نسأل عمن هو الشيعي أو السني بيننا ولم نكن نعبأ إذا كان صديقنا مسيحيا أو صابئيا‘ ولم أمتنع يوماعن صداقة أي طالب لأنه كردي أو تركماني أو آشوري، ولكن ما كان يفرقنا وللأسف الشديد هو السياسي اللعين، فمسميات من مثل البعثي والشيوعي والإسلامي هي فقط من كانت تفرقنا في ذلك الوقت، كان الوطن أكبر من أي شيء آخر، ما زلت أتذكر كيف أنقلب نادي الطلاب رأسا على عقب ونحن نشاهد نهائي شباب آسيا مع إيران في العام 1977، تلك المباراة المحفورة بذاكرة الجميع،  مع كل هدف يحرزه منتخب العراق الشاب يشتعل الصراخ والتصفيق والرقص على الكراسي وأمام التلفزيون وتتعالى الفرحة ويلتهب الجو وكأن القيامة قد قامت، وعندما جاء الهدف الرابع وفقد المعلق صوته اعترتنا لحظة جنونية ولم نكن نعي ما نفعل قذفنا الكراسي ورقصنا وصفقنا وغنينا واغرورقت عيوننا بالدموع  واختلط الحابل بالنابل، بل خرجنا في مظاهرة حقيقية بعد المباراة نهتف باسم العراق وباسم العراق فقط ، يا للفرحة العارمة التي تعجز عن وصفها الجمل والكلمات كلما أتذكرها تعتريني رعشة تهز بدني ، انه الوطن أيها السادة إنه العراق ففي تلك اللحظة رقص كل العراق وبكت إيران، وبكى ابن شاهها الذي كان حاضرا في المباراة أيضا، رقصت دجلة ورقص الفرات ورقص شط العرب، رقصت الموصل وبغداد والبصرة، لقد ضحك الوطن بقوة وأبكى أعداءه بالأهداف والرياضة وليس بالقنابل، حقا يا للعراق الذي لا يزال يبكي أعداءه بكرة القدم، إنه الوطن فمن لا يملك وطنا سيبقى ضائعا وبدون هوية ولا انتماء، طالما كنت أردد في سري لينتقم الله ممن تسبب في إخراجي من وطني... وسأظل أردد ذلك حتى الموت على من يتسبب في عدم رجوعي إلى العراق..

بعد تخرجي في الجامعة، أبت البصرة أن تتركني ، أصرت أن تزوجني إحدى بناتها ، وأن تزوج أحد أبنائها لأحدى أخواتي، وبالتالي صار الطريق من الحلة للبصرة معبدا بالذكريات ويعيد صداه الأبناء وتردد كركراته حارات الحلة في جبران والمحاربين والويسية وتستمع إليه أحياء البصرة في الجنينة والجمهورية والجزائر وأبو الخصيب، من بيتي في الحلة إلى بيت زوجتي في جزائر البصرة، تقوم سنون وتنهد سنون والكلمات تسيل على الورق سائلة بعيدا عن أنياب المتوحشين والسؤقة من المغامرين الذين مروا من قبل ويمرون اليوم  ليذهبوا إلى المزابل ونبقى نحن وأبناءنا لنحكي حكاياتنا النظيفة، حكايات مليئة بالفرح والدموع  نرددها في بيوتنا التي بنيناها بعرقنا وكدنا، ونتناقل حكايات الموت والحرام  التي أقترفها أولئك الأشقياء الزائلون عسى أن تشفى دروسها غيرهم من الغافلين الآتين . سأذهب إلى النوم وانا أحلم أن رجع أوروك يوما فليس ذلك بمستبعد لو رتبته الأقدار وحتى يحين هذا اليوم، ستكون عيوني مغمضة وأنا أجوب في أحلامي تلك الأماكن القصية ولساني يتهدج قارئا ما يريه الغيب من رؤية ورؤيا باهرتين.

 

من يحرمُ العينَ

من شط ٍّ

يحفّ ُ به ِ

العطرُ والموجُ

لو حطا

على رئتي

أو يمنعُ الوقرَ

 إن ينأى

إلى لغة ٍ

أجراسُها الخرسُ

قد حارتْ

بها لغتي 

 أبو ظبي

‏05‏ أيار‏، 2008

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1396 الجمعة 07/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم