قضايا وآراء

راؤول ايشلمان .. الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة

نحت ايشلمان مصطلح الأدائية او performatism"" في العام 2000، ليبين ان الأعمال في الحقبة الجديدة قد بنيت على نحو يؤدي الى خبرة السمو والتعالي بطريقة موحدة في وسط جمالي . تقوم الأدائية بهذا العمل بوساطة خلق اشتغالات فنية مغلقة تساعد المشاهدين على التماهي مع شخصيات، او مواقف بسيطة ومبهمة وان يختبروا الحب، والجمال، والصدق، والإيمان، والسمو في اطر خاصة وفي ظروف مصطنعة، و يطبق ايشلمان هذا النموذج على الأدب والسينما والعمارة والفلسفة والفن منتقيا مختارات بعينها لدراستها ومقاربتها على ضوء مفهومه الجديد .

 قرأت الفصل الأول من الكتاب ـ والمنشور على الشبكة العنكبوتية ـ فضلا عن مجموعة مقالات للمؤلف، وسأستعرض هنا جملة اقتباسات وتعليقات علني أساهم في توضيح المفهوم وتبين دلالته، مع عرض أمثلة معاصرة ذكرها ايشلمان في مقالات متفرقة لاشتغالات أدبية وفنية ومعمارية تنطبق عليها رؤية الأدائية البعد ما بعد الحداثية .

يقول ايشلمان في مطلع الفصل الأول من كتابه " يمكن تحديد الأدائية ببساطة على أنها الحقبة التي ابتدأ فيها التنافس المباشر بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، و المفهوم المتشظي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميز لما بعد الحداثة من ناحية أخرى .

كانت النهاية او الغلق الشكلي لأي عمل فني يُقوَض باستمرار في ما بعد الحداثة بوساطة الأدوات السردية أو المرئية التي تخلق حالة متأصلة لا مفر منها من اللا-قدرة على الحسم بخصوص "حالة الحقيقة " في بعض أجزاء العمل .

أما ما يتعلق بفن العمارة فان بناء ما بعد الحداثة يمكن ان يخلق تأثيره المعماري الفريد عندما يجاور بين الدوامة المعمارية الما بعد حداثية والزاوية الحادة الحداثية بتهكم ليبين التزامه بكلا الأسلوبين، وفي الوقت ذاته تقويضهما والانقلاب عليهما وهو أسلوب مميز أيضا لما بعد الحداثة تماما كما في القصة والرواية الما بعد حداثية التي تعرض حبكتين متوازيتين جديرتين بالتصديق، ولكنهما تبقيان بلا حسم ضمن حدود الرواية . لن يساعدنا اللجوء الى سلطة المؤلف العليا في حل هذه الورطة بسبب ان رغبة المؤلف في اللاحسم هي التي توجه العمل نحو اللاحسم والتشويش في المقام الأول : انه يتعمد أن يعود بنا الى الخلف من حيث انطلقنا . ولحل هذه الأحجية فإننا مضطرون للالتفات نحو سياق مفتوح خارج السيطرة.

يسقط المؤلف والعمل والقارئ جميعا في هوة الإحالة الى مرجعيات لا تمتلك نقطة محددة ثابتة او هدفا او مركزا .

 احتل "الموضوع " مساحة واسعة من المناقشات والرؤى المتباينة في مرحل الحداثة وما بعد الحداثة. في هذا الإطار يقول ايشلمان في الفصل الأول من كتابه " تعرض ما بعد الحداثة فخا محكما استثنائيا لا مفر منه في ما يتعلق بالموضوع . وأي محاولة تبذلها لتعثر على نفسها بوساطة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لان كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى فان الموضوع في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى . ومع ذلك فانه حتى لو تشبث الموضوع بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لان ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل انه أثر يقودنا الى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل و مثقلة سيميائياً. كما ان أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا الى علامة مغايرة . تنتهي رحلة الموضوع الباحث عن نفسه من حيث بدأت : فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع الى ما لا نهاية" .

يرى ايشلمان أن الخروج من ما بعد الحداثة لن يحدث بوساطة تكثيف البحث عن المعنى من خلال إدراج أشكال جديدة مدهشة او من خلال العودة الى منبع الأصالة، بدلا من ذلك ـ ولا زلنا في الفصل الأول من الكتاب ـ لابد ان نسلك آلية منيعة تماما ومستعصية على نموذج التشظي والتفكيك والتضخم الما بعد حداثي . هذه الآلية التي بدأنا نشعر بها مع القوة المتزايدة للأحداث الثقافية في السنوات القليلة الماضية، يمكن ان تُفهم على نحو أفضل بتوظيف فكرة الأداء أو الانجاز performance.

الأداء بحد ذاته ليس ظاهرة جديدة او غير معرفة . ففي نظرية الحديث- الفعل لأوستن يشير الأداء الى فعل اللغة الذي يحقق ما يعد به . أما بخصوص الحدث الفني في ما يسمى بـ "القصص الكبرى "في مرحلة الحداثة فان الأداء يبرز أو يُغَرِّب الحد الفاصل بين الفن والحياة، أما في ما بعد الحداثة فان الأداء يدمج جسد الإنسان او الموضوع ضمن سياق فني في ما يطلق عليه الفن الأدائي او الحدوثي أي الفن الحدث. غير أن مفهوم الأداء الذي يقترحه ايشلمان مختلف . لا توظف فكرة الأدائية حسب ايشلمان لإبراز او لمساوقة الموضوع ولكنها توظف للحفاظ عليه : يُطرح الموضوع أو (يقدم نفسه) بوصفه وحدة كلية غير قابلة للاختزال مما يعطى القارئ او المراقب انطباعا بالإلزام . هذا التجسيد الكلي للموضوع غير ممكن إلا عندما لا يقدم الموضوع سطحا متمايزا سيميائيا يمكن استيعابه وبعثرته على السياقات المحيطة . لهذا السبب فان الموضوع الجديد يظهر للمراقب مختزلا ومتواصلا بوصفه مفردا وحيدا او بسيط الفكر ومتطابق الى حد ما مع الأشياء التي يمثلها . هذه الكليَّة المغلقة البسيطة تتطلب فاعلية لا يمكن تحديدها إلا بمصطلحات ثيولوجية . لهذا فانه يخلق ملاذا تلتجئ إليه تلك الأشياء التي اعتقدت ما بعد الحداثة او ما بعد البنيوية أنها قد انحلت نهائيا : الغايات، والمؤلف، واليقين، والحب، والعقيدة، وأكثر من هذا بكثير.

لم تكن صياغة نموذج الموضوع المختزل والكلي على يد الكتاب والفنانين هذه المرة وإنما جاءت من النقاد الذين وقفوا بالضد من "النظرية" او توافقوا مع ما بعد البنيوية بالحد الأدنى. ففي مقالتهما الموسومة (ضد النظرية)والتي نشرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي دعا الناقدان ناب ومايكلز الى وحدة او "عدم انفصال جوهري: fundamental inseparability" بين الحالات الأساسية الثلاث : التأويل بمعنى نية المؤلف، والنص، والقارئ . بهذه الدعوة الى وحدة الموضوع يعارض الناقدان "النظرية" . فحسب ناب ومايكلز، فان "النظرية" تمنح امتيازا لهذا الجزء أو ذاك من عملية التأويل الكلية بينما تًهْمِل او تقوض الأجزاء الأخرى (النقد التأويلي يعلي من قيمة نية او قصد المؤلف، أما التفكيكي فانه يميز العلامة فيما يهتم النقد النسبي بالقارئ) ومن وجهة نظر الناقدين فان "النظرية" لم تنقي او تحسن التطبيق التأويلي ولكنها مثلت، بدلا من ذلك، محاولة غير مقبولة لأخذ موضعا خارج التأويل . ان " النظرية " يقتبس ايشلمان من مقالة الناقدين " هي مسمى لكل طريقة يحاول الناس من خلالها الوقوف خارج ممارسة ما من اجل التحكم فيها والسيطرة عليها دون ممارستها . لا يمكن لأحد الوصول الى مكان خارج الممارسة وان على المنظرين ان يوقفوا محاولاتهم وتبعا لذلك فان المشاريع النظرية قد وصلت الى نهايتها " .

هذا الإصرار على الوحدة المطلقة بين المؤلف والعلامة والقارئ له تأثير غير مباشر وان كان بعيد المدى على إعادة خلق الموضوع. لن يحدث التأويل بعد الآن بوساطة الأحداث السيميائية المتضخمة الزائفة التي لا تتصل بالقص والتي تواصل التملص من سابقاتها، ولكنه سيحدث هذه المرة من خلال التنافس بين البيانات الفردية الكلية التي تصنعها الموضوعات المتفرقة . يعبر هذا الموضوع عن نفسه بوساطة الانجاز الكلي بمعنى تحقيق ما يؤمن به . ان الموضوعات المضادة للنظرية مبهمة (ليس لديها مجموعة صفات وخصائص مميزة)، ولكنها حاضرة دائما ويمتلك القارئ سبيلا عمليا يوصله إليها على قاعدة الأداء التأويلي المنفصل والمتماسك .

 في سياق مختلف يقارب هذا المعنى يجادل مايكلز في كتاب لاحق صدر عام 1995 معارضا البحث عن الهوية الثقافية في الماضي، أو في العرق أو في جذور أجنبية. الهوية الثقافية هي الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم في وقت معين، أنها غير مُنْتَجة، بل انه من مستحيل في الواقع، تأسيس هوية خارج هذا الإطار التجريبي. تعمل النظرية وإيديولوجية التعددية الثقافية على حد سواء بوساطة فصل جزء عن الكل( الدال عن العمل التأويلي، العرق عن الثقافة) وجعل هذا الجزء المفصول ضمن آخر متقلص لا يمكن تحقيقه.

يعرض ايشلمان أمثلة من الفن والأدب والسينما والعمارة يُطبق فيها المفهوم الأدائي الجديد . ففي كتابه ـ ذي اللغة الأكاديمية المعقدة ـ يتناول ايشلمان فيلم (الجمال الأمريكي)، وفيلم (الحمقى :عودة الأحمق والأعزب)، وأمثلة قصصية وروائية أخرى . كما انه يتناول فيلم (عالم ايميلي Amélie' World) وهو فيلم فرنسي لاقى نجاحا كبيرا ليس في فرنسا فحسب، وإنما في أمريكا ودول القارة الأوربية. وقد رأيت ان مقاربة هذا الفيلم ربما توضح المعنى المقصود لمفهوم الأدائية بسهولة اكبر.

 يقول ايشلمان في مقدمة مقاله أخرى تتحدث عن هذا الفيلم تحديدا " دعونا نأخذ أربع او خمس خصائص نعدها الأكثر توظيفا في تحديد ما بعد الحداثة و يمكن القول أننا سنتفق على المحددات التالية : غياب الموضوع، و إحلال الافتراضي محل الحقيقي أو الأصلي في ما يطلق عليه مصطلح الواقعية المفرطة، والتهكم من العالم وطريقة تسيره، والتشكيك المتطرف بكل ما يتعلق بالمخططات الميتافيزيقية". ثم يتابع ايشلمان " لو طبقنا هذه المحددات على أربعة أفلام عالية الجودة والتقانة عرضت في الفترة الأخيرة وتساءلنا: ترى هل يتوافق أي منها مع المحددات السابقة ؟ اعتقد ان الإجابة ستكون لا، او على الأقل إذا كان أيا منها يتوافق مع محددات ما بعد الحداثة التي ذكرناها او غيرها فان أمر تقصيها في الفيلم لن يكون سهلا او واضحا.

يحلل ايشلمان فيلم (عالم ايميلي) من زاوية ما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة على ضوء محدداته السابقة و يقول" فيلم ايميلي ـ لمن لم يشاهده ـ هو قصة نادلة صغيرة في حانة فرنسية اكتشفت ان بإمكانها جعل الناس سعداء بتنفيذ معجزات صغيرة تغير حياتهم وباختصار، تمارس ايميلي دور مانح السعادة على نطاق صغير وشخصي . لقد جعلت شابا سعيدا حين دلته على مخزن العاب طفولته . و أغرت والدها المتنسك المعتزل بالخروج الى العالم مرة أخرى بعد خطف تمثال حديقته والطلب من صاحبة نزل صديقة ان ترسل صورا للتمثال منتصبا أمام معالم سياحية أجنبية وبذلك حققت له رغبته في السفر والترحال .

أسكتت ايميلي صاحب العمل المستغل عندما تسللت الى شقته خفية وغيرت أماكن الأشياء فيها لدرجة أقلقته وجعلته غير قادر على الانتظام في العمل، الأمر الذي أدى الى منح مخدومه المعوق فرصة الراحة والتقاط الأنفاس . وأخيرا نالت ايميلي جزاء ما قدمته، الحب، لقد عثرت على الحب الحقيقي عندما حاولت ان تمنح السعادة لشاب يجمع ويلصق قصاصات صور ممزقة من أكشاك التصوير في محطات القطارات .

 الصورة في الفيلم سريعة ونلاحظ أنها تركز على انف ايميلي في اللحظات الحاسمة كما انه لا يخلو من الدعابة السوداء او السوداوية التي كانت كافية لإبعاده عن الأسلوب الكوميدي الأمريكي العاطفي .

 يطبق ايشلمان الخصائص التي حددها لما بعد الحداثة على الفيلم ليجد :

(1) ان للفيلم موضوعا . مثلت ايميلي صيغة خاصة للموضوع وحددت موضوعات أخرى لجعلها سعيدة ولم تحاول إخفاءها على الإطلاق . لقد أصبحت ايميلي نوعا من المبدأ العام الذي يحتك بكل ما حوله.

(2) يمكن القول ان إحلال الافتراضي محل الحقيقي ينطبق على الفيلم ولكن بطريقة أخرى مغايرة لما هي عليه في ما بعد الحداثة، ذلك ان إسعاد الناس على طريقة ايميلي هو نوع من الفعل التركيبي الافتراضي ولكن الناتج وهو السعادة هي حقيقية بالفعل على الأقل بالنسبة للناس الذين تورطوا معها و تمكنت هي من تغيير حياتهم .

(3) أما النقطة الثالثة فهي التي تتعلق بالتهكم، فعلى الرغم من ان نغمة الفيلم كوميدية وشبه وثائقية، إلا انه يأخذ ما تقوم به ايميلي على محمل الجد لدرجة انه يجعلنا نتماهى مع أفعالها .

(4) يفترض ايشلمان ان هناك تهكم موقفي متضمن لان ايميلي لا تستطيع ان تطبق المخططات التي تجعل الناس سعداء على نفسها، ولكن عندما التقط الآخرون فكرتها وطبقوها عليها نجحت . وإذا ما افترضنا ان هذه مفارقة تهكمية فهي تختلف عن تلك السخرية المميزة لما بعد الحداثة كونها ايجابية ومفيدة .

 تبقى خاصية النزوع الى التشكيك المتطرف التي تطرح قضية مثيرة .فإذا ما كنا شكاكين ـ على طريقة ما بعد البنيوية ـ فإننا سنشكك باحتمالية جعل الآخرين سعداء، ومن المحتمل أننا سنفترض أن فكرة جعل الناس سعداء، كما تمارس في الفيلم، هي تركيب أو خداع. ولكن إذا كنا نفكر بهذه الطريقة، فإننا لم نستوعب الفكرة الأساسية للفيلم. ذلك ان ما تقوله أحداث الفيلم هو انه ليس مهما ما إذا كانت السعادة تركيب او خداع، ما يهم هو النتيجة فحسب . المهم هو ان تكون سعيدا والطريقة غير مهمة على الإطلاق وبالطبع فان هذه لعنة مطلقة على ما بعد الحداثة التي تعتمد فيها الكينونة دائما على شيء آخر يرتكز بدوره على مجموعة متشابكة من أشياء أُخر لم نتمكن يوما من السيطرة عليها او فهم ماهيتها. وأفضل ما يمكننا فعله في ظل هذه الظروف ـ على الأقل بوصفنا ما بعد حداثيين ـ هو التظاهر بالتهكم والسخرية من الموقف لنوضح إدراكنا ووعينا بهذا الوضع بما يكفي لوصفه او ربما لتخريبه بمكر ولكن ليس لإحداث تغيير جوهري يدوم الى الأبد .

المشكلة الآن، يقول ايشلمان، ان الفنانين والكتاب والسينمائيين والمعماريين قد توقفوا عن إمداد الموقف الساخر والتهكمي، وعكفوا الآن على بناء شخصيات ( ونحن من ضمنها) لتكون سعيدة، و لتحب، و لتؤمن، ولتختبر أشياء جديدة ومتجددة، و لتكون قادرة على السمو والتجاوز .ولان هذه التراكيب والبناءات تتضمن مواقف تتحمل فيها الشخصيات صعوبات او تواجه مواقف تتطلب أداء وانجازا فقد أطلق ايشلمان على هذا التطور مصطلح الأدائية او الانجازية performatism .

 تمثل الأدائية قطيعة جذرية مع ما بعد الحداثة، على الرغم من أنها لا تزال ملتزمة بها في بعض جوانبها . ولكن عهدا جديدا قد بدأ من مكان ما. وفي الوقت نفسه، فان الأدائية ليست مجرد إعادة صياغة للحداثة، فهي على عكس الحداثة، لا تدعو الى إنشاء أصالة أو لتجربة الأشياء مباشرة.

و كما شاهدنا في حالة إيميلي، أن الحالات العاطفية (السعادة والشقاء والعشق أو أي إحساس آخر) قد تم إعدادها أو بناءها، بمساعدة وسائط معينة . و على عكس ما بعد الحداثة، فان الأدائية تريدنا أن نجرب الحالات العاطفية التي تم تركيبها بطريقة لا إرادية على نحو ما. وبعبارة أخرى، فان الشخصيات تشيد بطريقة تبدو معها أنها تجرب شيئا جديدا وعميقا ومتوفرا. ونفس الشيء، بطبيعة الحال، ينطبق علينا نحن المشاهدين. لقد وضعنا في موقف لا خيار لنا فيه إلا التماهي مع الشخصيات .

وغني عن القول، ان ما بعد الحداثيين ينظرون الى الأدائية على أنها محض هراء، لأنهم فقط ينظرون الى زاوية واحدة من الموضوع وهي المعرفة المفارقية التي تعتبر الحياة (أو الكائن أو الوجود) مشروطا وطارئا .

تجرد الأدائية هذا الموقف من أسلحته من خلال إظهار أن المعرفة ليست هي أهم جزء من التجربة الإنسانية. بعد فترة من الزمن، لا يهم إذا كانت الشخصيات نعلم أن الحيل الصغيرة التي نفذتها كانت خداعاً، وبالتأكيد لا يهم إذا كان المشاهد يعرف (في الواقع، هذه هي حبكة الفيلم باختصار).

ومن وجهة نظر ما بعد الحداثة، فان الاشتغالات الأدائية في الفن والأدب تبدو غبية او حمقاء، لان نجاح الانجازات لا يعتمد على معرفة الاشتراطات والظروف التي تحيط بها . وفي المقابل، فان الاشتغالات الأدائية تستنفر مطالبات ما بعد الحداثة بالمعرفة التهكمية المفارقة حين تضع المتخلفين عقليا أو محدودي الذكاء في بؤرة الاهتمام. هذا لا ينطبق تماما على حالة ايميلي،لأن أميلي ليست غبية، بالمعنى الدقيق للكلمة . مع ذلك، فإنه ليس من قبيل المصادفة أنها تساعد بائع الخضار لوسيان المتخلف عقليا في الحصول على حقه، ومن المؤكد أيضا انه ليس من قبيل المصادفة أن يحرر لوسيان الفنان ـ جار أميلي ـ من حالة الهوس الأحادي . الجار، الذي لا يكف عن رسم لوحة اوغست رينوار نفسها مرارا وتكرارا، و لكنه في نهاية الفيلم يبدأ الرسم بأسلوب لوسيان، البدائي المثير -- لا تزال أعماله الجديدة نسخا عن أعمال أخرى، ولكنها (على الأقل) أصبحت ترتكز على سذاجة طبيعية غير واعية ذاتياُ.

تنتقل بنا الأدائية من الأجزاء الى الكل، بعد أن تعلمنا ما بعد الحداثة ان نبقى على مسافة من السياق، وان نفكك الأجزاء نتفحصها ونحاكمها ونفضح جوانبها الخفية ونتماهى مع السخرية والتهكم ونحدد العثرات والأخطاء . أما الأداء فانه يضعنا في موقف الاتصال المباشر مع الموضوع الذي هو كلا معقدا، أي الشخص الذي لا ينفصل المعنى عنده والرسالة عن بعضهما البعض فيما يعمل الوسيط بوصفه ناقل الرسالة وليس الرسالة ذاتها على الإطلاق : انه امتداد للموضوع / المؤلف المفارقي الذي يشير الى ماديته الذاتية و قابليته للخطأ.

و بعبارة أخرى، يدرك الموضوع الأدائي القيود لكنه يتصرف على أي حال. أما ما بعد الحداثة فان الموضوع يمكن أيضا أن يدرك القيود، ولكن مقاربته للحياة من المرجح أن تكون مليئة بالشك والسخرية .

لا تعرقل الأخطاء والنقائص من قبيل (محدودية المعرفة، والافتقار إلى المهارات الملائمة أو سمات الوهن) الأدائي، لأنه اختار أن يتصرف بفضل إيمانه أن الفعل في حد ذاته يتطابق في المعنى مع قناعاته وجملة أفعاله الشخصية (الفعل لم يعد علامة تخلق أو تولد المعنى لقد أضحى المعنى في الأدائية هو الفعل ذاته).

 الأدائيون أقل وعيا وأكثر تواضعا، وكثيرا ما يظهرون حمقى أو مغفلين، ولكنهم تحت السيطرة ومنضبطون بشكل يثير الدهشة. إنهم يعملون لصالح الغير، ولا يتمركزون حول أنفسهم، لكنهم يجدون أنفسهم في دوامة من الخيارات الحقيقية التي تتطلب منهم مخاطرات ومغامرات . هنا يتوافق الشخص مع أفعاله فيما تخضع المعتقدات للأفعال . يلاحظ ايشلمان بهذا الصدد أنه " على الرغم من الاختلاف الكبير في المصادر الدينية، فان كل المؤلفين الأدائيين يتشاركون في منظور لاهوتي ثقافي وهو: أن التقوى والصلاح سيحل في كل مكان عندما تخلق أفعال الأفراد الشخصية الصالحة الكليات" .

 ان ما يشدنا الى الآدئيين هو شخصياتهم التي هي خليط من شخصيات، فضلا عن تلك الطريقة التي يرون بها (الإله) في كل مكان حولهم، على الرغم من الأسباب الصارخة التي تحاول منعهم من ذلك. إنهم يستثمرون أنفسهم بالكلية فيما يؤمنون به .ويتطلب ذلك منهم عملا شاقا متواصلا لتعبئتنا، ولكنهم لا يعملون من أجلنا او من اجل معتقداتهم إنهم يعملون لأنه يتحتم عليهم العمل والأداء والانجاز . وبعد ذلك يتركون لنا محاولة إدراك لماذا عملوا. ترى هل كان الأنبياء والرسل والمصلحون على مر العصور آدائيون على طريقة ايشلمان ؟ ربما !!.

يبرر ايشلمان تركيزه على السينما في عرضه لاشتغالات الأدائية، لأنهاـ كما يقول ـ أسهل طريقة لشرح هذا التحول التاريخي الكبير للقارئ. ذلك أن الجميع تقريبا يذهب الى السينما بانتظام، وتميل الأفلام للتفاعل مع الاتجاهات الشعبية بسرعة أكبر من أي جنس أدبي أو فني آخر . ولكنه بالطبع لا يكتفي بذلك فهو يرصد بدأب التحولات من الما بعد حداثية الى الأدائية في المعمار والأدب والفنون كافة .

ففي مجال العمارة يمكننا ان نختصر مقالة مطولة للمؤلف ومعززة بصور عمارات وأبنية على الطريقة الأدائية من برلين، التي يقول عنها أنها تمثل المشهد المعماري الأكثر ديناميكية في العالم .

تعمل العمارة الأدائية بوساطة افتراض ان المباني يمكنها ان تتجاوز الطبيعة المادية لمكوناتها. ونحن نعلم ان المباني لن تقاوم الجاذبية الأرضية او الدمار الشامل او عوامل الزمن ولكن الأدائية تضع ذلك ضمن حساباتها .

الفكرة الجوهرية التي تستنبط منها العمارة الأدائية أدواتها هي ما أطلق عليها ايشلمان الخلق الإلهي : يخلق الله العالم ثم يترك لنا حرية التصرف لكنه يتدخل حين يجب ان يتدخل، وإذا كنا مؤمنين فإننا سنعتبر تدخلاته دليلا على وجوده، وبالمقابل يضع المعماري الإطار ثم يتدخل جذريا حين يتوجب عليه ان يتدخل .

 يتضمن الفن المعماري الأدائي:

(1) تشريح الكتل خارج المبنى على نطاق واسع، بل قد يتطلب الأمر إضافة كتل معمارية في أماكن غير عادية . ومن المفترض ان يشعر المستخدم بقوة البناء وهيبته، وبأن يداً ما فوق بشرية قد أبدعته، بدلا من الأشكال الزخرفية المألوفة في ما بعد الحداثة،او المبادئ التقنية المفروضة قسرا كما في حالة الحداثة .

 (2) تقنية أخرى تنطوي على الشفافية والروحانية توظفها العمارة الأدائية حين تثير إمكانية تجاوز المادية بوساطة تمثيلها في شكل سطوح شفافة رائقة دون الكشف عن الاشتغالات المادية الداخلية للمبني فتبدو المباني كأنها صروح من قوارير مسكوبة .

 (3) عنصر آخر أساسي مميز للعمارة الأدائية هو التقسيم الى مثلثات او التثليث . والمثلث هو اصغر شكل هندسي يجسد الانتقال من البعد الأحادي الى البعد الثنائي ومن الأفقي الى الرأسي، بحيث يمكن التفكير فيه ـ من الناحية السيميائية ـ باعتباره تعبيرا عن ثنائية الانطواء/ الانفراج . كما يمكن النظر الى رأس المثلث بوصفه علامة تشير الى شيء خاص جدا، بينما يمكن التفكر في الضلعين اللذين يكونان الرأس بوصفهما امتداد نحو اللانهاية. تجعل الأدائية من المثلثات رمزا للإيمان وليس للفاعلية . إنها تميلها وتقلقلها لتقول لنا ان وظيفتها الأولى في توفير الاستقرار والمأوى قد ولت ولا وجود لها بعد اليوم .

(4) توظف الأدائية المعمارية تقانة التحكم في الجمادات دون لمسها وهي ما يطلق عليها مصطلح Kinesis، ومن المحتمل ان هذه هي الطريقة الأكثر جذرية لتجسيد التفوق المعماري. تقول هذه الطريقة ان الكائن الجامد، البناء مثلا، يفعل شيئا خلاف طبيعته الجامدة : انه يتحرك .

(5) أما التقانة الأخرى التي تتصل بتقانة الخلق الإلهي و التحكم بالجمادات فهو التهديد بالخطر impendency . تكون المباني في هذه الحالة على درجة عالية من الديناميكية لدرجة يشعر معها المشاهد أنها على وشك الانهيار، ولكنها ترمز الى مخافة الرب وقدرة المعماري في الوقت نفسه .

أن هذه الدراما المتسامية إنسانية وليست تقنية كما في الحداثة . إنها تعبير عن إرادة المهندس او عناده وليست دليلا على براعته الفنية .

 (6) تُثَيّم الأدائية المعمارية الكمال والغلق . فنجد أحيانا بناية على شكل بيضة، بدلا من الدوائر الهندسة العقلانية الحداثية . ويمكننا القول ان البيضة تمثل نسخة معتدلة عن الأدائية ذلك أنها تقترح الغلق والوحدة ولكنها تعرضها كما لو أنها أمرا شاذا يفتقد الى العقلانية .

(7) وكما هو الحال في حالة التحكم في الجمادات فان الهندسة الأدائية توظف الإطارات بوصفها رموزا للإلهام الإلهي الذاتي . قد يفتقد الإطار الى قطعة بنائية ضخمة ربما ليشير الى التقاء النقيضين : قدرة المعماري في الدنيا وعجزه أمام الآخرة . غالبا ما يفصل الإطار نفسه عن محتوياته او العكس بطريقة جذرية لا ينقصها العنف .

لن تحدث القطيعة بين ما بعد الحداثة والأدائية بالضربة القاضية الحاسمة المفاجئة . فالأدائية مثلها مثل أي مرحلة جديدة ستستعير الكثير من العهد السابق ولكنها ستنفصل عنه جذريا في جوانب أخرى في الوقت نفسه حتى تتم القطيعة الكاملة .

 يكمن الاختلاف الأساسي بين العهدين في توظيف الموضوع الكلي والمتفرد وفي توظيف العلامة . هنا تحديدا لا تنسجم الأدائية مع فكرة ما بعد الحداثة عن الموضوع والعلامة التي تصفهما بأنهما أعراض جانبية مشوشة للتغيير المستمر في السياق النصي. وبالرغم من ذلك فان توظيف الأدوات الكلاسيكية الما بعد حداثية من اجل ابتكار مواضيع مغلقة وعلامات محددة يبدو أمرا لا يمكن اجتنابه، على الأقل في الوقت الحالي، وباختصار فان العهد الجديد لا زال يعتمد على أدوات المرحلة السابقة .

لا شك ان نقاد الأدائية سيسارعون الى وصف أعمال مثل الفيلم الألماني (اهربي يا لولا اهربي) ورواية ( أصبع بوذا الصغير) لفيكتور بيلفين بأنها ما بعد حداثية لأنها توظف الحقائق الافتراضية . ولكن من المهم ان لا ننسى ان توظيف العوالم الافتراضية في مثل هاتين الحالتين مختلف تماما عن توظيفات ما بعد الحداثة : انه يحقق جملة أهداف : المصالحة المطلقة بين الموضوع وسياقه في حالة رواية الكاتب الروسي فيكتور بيلفين، والحفاظ غير المشروط على موضوع العاشق المحب في (اهربي يا لولا ) . الأمران اللذان تنبذهما ما بعد الحداثة بوصفهما تعبيرات ميتافيزيقية مبتذله عن الإيمان واليقين . وإذا ما اختار المرء ان يتجاهل هذه الادعاءات المزعجة لتحقيق سمو تخيلي، فلن يكون هناك أي سبب يمنعننا من قراءة العملين منفتحين على الأدائية الى أقصاها .

يعرض ايشلمان نموذجا آخرا لرواية تجمع ما بعد الحداثية والأدائية . إنها رواية( الأجزاء الأولية Les Particules élémentaires) للكاتب ميشيل أويلبيك والتي صدرت عام 1998. هنا يعرض أويلبيك الثنائية القاسية المتصاعدة في ثقافة ما بعد الحداثة حين يبتكر شخصيتين عاجزتين تماما عن الحب : الأولى تُحكم العقل، والثانية تحتكم الى الجنس والمتعة المطلقة .

 يكشف أويلبيك على مدى 340 صفحة مشاهد من اللامبالاة النفسية، والفظاظة، والممارسة الجنسية الآلية، والوحشية المفرطة التي قصد بها رصد الخواء المطلق عند أبطاله، وفقط في الصفحات العشر الأخيرة يبدأ المؤلف في وضع فكرة طوباوية عن نوع اجتماعي جديد أنتجته الهندسة الجينية يتصف بالمسالمة والإيثار .

أن رواية أويلبيك أدائية من ناحية قدرتها على تجاوز صورة الجنس البشري الما بعد حداثية تخيلياً . و في الوقت نفسه، فانه لا يزال ـ بالنسبة للجزء الأكبر من الرواية ـ ملتزما بالميتافيزيقا التشاؤمية الما بعد حداثية التي تدور حول الموت. فقد جاء على لسان حال أويلبيك ما نصه : "في النهاية، تحطم الحياة قلبك بعد كل شيء. ... وبعد ذلك لا أحد يضحك.... كل ما تبقى هو الوحدة، البرد والصمت، وكل ما تبقى هو الموت ".

 يتمرد أويلبيك على ما بعد الحداثة موظفا ما بعد الحداثة نفسها لدرجة أنه يبحث عن الخلاص من خلال التحول الجيني للموضوع القديم الذكوري الشرير، بل ان المؤلف نفسه يجد صعوبة في كتابة سطر واحد من قصته مستقلا عن هذا النوع الاجتماعي المستنسخ الجديد.

 ومع نهاية الفصل الأول، يمكننا أن نلخص خصائص الأدائية عند ايشلمان في النقاط الخمس التالية :

(1) لا مكان بعد اليوم للاقتباسات والاستشهادات التي لا نهاية لها ولا للأصالة أو الموثوقية، بدلا من ذلك هناك تأطير يهدف الى السمو والارتقاء بما هو موجود فعلا او تجديده جذرياُ ; وتوظيف الطقوس والعقائد او الأطر الكابحة المشابهة من اجل تحويل او السمو بحالات الوجود ; و عودة التاريخ في مظهر الموضوع المؤطر تجريبيا . وفي السرد عودة التأليفية

والإطار التأليفي الملزم الذي تدلل عليه الطرق المختلفة لأسلبة التجاوز : رأسيا العبور الى مستوى أعلى وأفقيا التهرب الى إطار مختلف أما الكلي فهو الوصول الى توافق صحيح بين الإطار والموضوع .

(2) بدلا من نظام العلاقات العائمة والمشوشة بين أجزاء العلامات فان العلاقة الكلية بين الموضوع والعلامة والشيء ستكون قاعدة التواصل والتفاعل الاجتماعي بكل أنواعه. ان توظيف علامة ما يكون عن قناعة ويقين وهو نشاط بدلا من كونه اضطراب سيميائي او دلالي . قد يبدو الموضوع صلبا أو مبهما، ويمكن أن يكون غبيا، ساذجا، مذهلا، محدود التفكير، بسيط، جاد وبطولي ولكن ليس ساخرا او تهكميا إلى ما لا نهاية.

(3) التحول من صيغة الإرجاء الزمني ( عملية الاختلاف المرجأ) الى الربط المحدود بين المتضادات في الحاضر ولمرة واحدة . الصيغة السيميائية الأساسية في الأدائية هي الأحادية . التي تتطلب تكامل الشيء او الأشياء مع مفهوم العلامة . ويقول ايشلمان ان أفضل مفهوم للعلامة يتوافق مع مفهوم الأدائية هو نموذج إيريك غانس عن الاشارية ostensive . يُقرب ايشلمان مفهوم الاشارية (تعريف الشيء بوساطة الإشارة إليه) من الأدائية حين يقول : أن الاشارية تكون حين يحاول شخصان على الأقل، إرجاء العنف في موقف يحاكي الصراع، فيتفقان حدسيا على علامة حاضرة تمثل وتؤل وتجمل انجازها الذاتي في تأجيل العنف . وبالطبع فان هذا المشهد الاشاري المزعوم الذي حضر فيه الإنسان، واللغة،و الدين والجمال في وقت واحد و للمرة الأولى، هو حالة افتراضية.

 إن تفسير ايشلمان،وخصوصا في جانبه التاريخي، فيما يتعلق بالاشارية هو أنها تجسد الآلية السيميائية في توليد عهد جديد أفضل من أي مفهوم أحادي آخر وبعبارة أخرى فإنها تمثل تكون الوعي بعهد جديد . وتبعا لذلك فان وظيفة الجمال الأدائي ستكون وصف المظاهر المختلفة من الاشارية في الأعمال الفنية المعاصرة وتبيان قدرتها على جعل هذه الأعمال تروق لنا بمصطلحات الأحادية، وليس على طريقة (المجموعات الفكرية او العقليات المتعددة ) الما بعد حداثية .

(4) الانتقال من التشاؤمية الميتافيزيقية الى التفاؤلية الميتافيزيقية . ذلك أن نقطة التوجيه الميتافيزيقية لم تعد الموت ووكلائه( الفراغ، الغياب، وإفراغ الذات و العجز والاختلال الوظيفي)، ولكن بدلا من ذلك الحالات المختبرة نفسيا او المؤطرة تخيليا للسمو والارتقاء( البعث والنشور، العبور الى النيرفانا، الحب، التطهير، الإشباع او طقوس الملأ، والتأليه والعبادة)

(5) التوجه نحو إزالة الرغبة الجنسية، وتعزيز فكرة الحب و النوعية الموحدة للرغبة سواء كانت ذكورية او أنثوية، مغايرة او مثلية . الأمر الذي عده المؤلف أكثر أهمية من استمرار لعبة الأنا والآخر .

 و أخيرا يقتبس ايشلمان من قصة بعنوان (قصة بسيطة) لإنغو شولز (1998) هذا المقطع التي تؤكد فيه الشخصيات غباؤها المطلق بقوة المثالية:

"شيء ما حدث معي مرة في السينما"، قال ادغار. "حضرنا مُتأخرين، ولم نجد مكانا للجلوس إلا في الصف الأمامي، بدأ الفيلم بمنظر طائر، في رحلة عبر الأدغال. أغمضت عيني حتى لا أصاب بالدوار. ثم سمعت صوت ضحك عميق ينبعث عن يميني، والضحكة رائعة.... وبطريقة ما كانت على حالات لم يكن احد ليضحك منها. وكان ساقاها متقاطعين فيما كانت تهزهز قدمها اليمنى صعودا وهبوطا، كأنها كانت بمثابة دعوة. لمست كوعها بكوعي، لم تكن حتى لتشعر بذلك. ظننت أن بإمكاني أن ألف ذراعي حولها ولكنها مالت علي كما لو كان الأمر طبيعيا تماما، كما لو أنه من الواجب أن يحدث، وفي نفس الوقت أردت أن أضرب ربلة ساقها . اضطررت الى حمل نفسي الى الخلف، حقا، كنا نجلس قريبين جدا ... يا إلهي، هل هي جميلة، وظللت أفكر طوال الوقت، وبعد كل ضحكة مكتومة أردت تقبيلها.

 ـ "وهل فعلت ؟"

ـ "لم أستطع أن أعرف من الذي كان يجلس الى جوارها . رجل -- نعم، ولكن لم أستطع أن اعرف هل كان معها أم لا ".

ـ " لم تكن وحدها؟" سألت جيني.

ـ "لا"، قال ادغار. " لم تكن وحدها، كانت هناك مع مجموعة كاملة ." وتوقف عن الكلام .

ـ "ماذا بعد ؟"

هز ادغار رأسه : "لم أكن لأفهم ذلك، كانت متخلفة عقلياً، المجموعة كلها كانت من المتخلفين عقلياُ".

ـ "سحقا"، قالت جيني.

ـ "لقد وقعت في حب معتوهة."

ـ" شيء لا يصدق".

ـ "نعم"، قال. " أسوأ ما في الأمر هو، أنني كنت أريدها على أي حال."

ـ "ماذا؟"

ـ وأضاف "لقد وقعت في غرامها، وانتهى الأمر".

 يعلق ايشلمان "نحن في وضع ادغار نفسه، بطريقة أو بأخرى : أننا نعيش إرهاصات عهد جديد بالكاد نتبين ملامحه ولا ندرك منه سوى البساطة أو سذاجة التفكير .

 والمهم، مع ذلك، هو أننا قد وقعنا في حبه بالفعل.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1397 السبت 08/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم