تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

تجليات المكان وتنوعاته في قصيدة "ابنة موسى" للشاعر جعفر كمال

الأنبياء هو النبي موسى " ع " ولكون العنوان حمل أيضا المدلول الجنسي المتمثل بكلمة "ابنة" أي أن العنوان حمل معنيين تمثلا في التذكير والتأنيث وعلاقته بالقوانين التي استلمها موسى من المكان المقدس،والواقع إن هذا العامل هو الذي دفعني للكتابة عن القصيدة لأنها تعلقت بموروث معنوي قديم الدلالة والسياق.

البحث

أولا: المكان الضمني المسرح

المسرح هو الأرض وحياتنا تمثيل حقيقي تحدده كلمة تحمل النقيض هي " الوهم " فالوهم في الحقيقة ليس اللاشيء بل هو الواقع الذي يسطع بالنور:

وتحت ضوء ترنم لغات:

الصوت أو اللغة هي صدى الضوء ففي القرآن الكريم "ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا" ، فالمكان أولا ثم الضوء وهو غمامة ظللت الجبل " آنس من جانب الطور نارا" والكلمات أي العهد عهد الأمان.وورد في العهد القديم" وهناك تجلى له ملاك الرب بلهيب نار...وعندما رأى الرب أن موسى قد دنا ليستطلع الأمر ناداه من ... لاتقترب إلى هنا : اخلع حذاءك من رجليك لأن المكان الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة" . إن المكان اصبح مولدا لغيره           أو سببا له وعلة من علل تكوينه قد يتقدم عليه من باب تقدم المعلول على العلة كما في العنوان حيث تقدم المؤنث وهو الابنة على موسى الأصل فهذا المكان اتسم بصفات ملازمة هي:

1 الجمال اكتسبه من الله " الله نور السماوات والأرض"  ومن النبي موسى" اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء"  ومن الجدير ذكره أن كتب السير تذكر أن موسى كان أسمر البشرة فذكر يده والبياض ماهو إلا ملمح جمالي ومعنى لإعجاز جمالي.

2 المسرح الذي تتمثل فيه التناقضات إما بتقدم العلة على المعلول أو بتساوي النقيضين: الوهم والحقيقة وعن ضوئه يصدر الصوت ماهو إلا تجسيد للقوة المتمكنة المسيطرة على العالم:

لسلطانة بانت من خلف الستار

3 مع تمثيل هذا المكان للقوة والسطوة والتقاء التناقض إلا إنه لايمثل قوة تدميرية قط بل هو تجسيد حي للخصب والخير والبناء والبركة والنعمة:

جمال موسى

سخر الهدى والنعمة

ثانيا المكان المتضمنللمعنى الصوفي

وهو مكان يجد فيه الإنسان متحدا بالكون وبالذات الإلهية :

فلا تتعجل

كالغلام الصوفي

ليس قبلي ولا بعدي

إلهة

إن مقدمات الشاعر تركز على التناول الذي " يستوعب في مرتبة أولى بنية العبارة ثم يتضخم في مستوى مركب يستحيل إثره المعنى المحاكى إلى اسلوب… وهيئة متشكلة من الاستمرار في المعاني"  وهذا ما لجأ إليه الشاعر، فالصوفي لايتعجل بل التصوف هو تمرين قاس وصعب وتدريب وصبر وأناة. إن التعجل في هذا الموضع يلبس معنى آخر هو الفناء في الذات الإلهية  ويعني أيضا الشوق ثم إن الشاعر يدور قصيدته بالاستناد إلى فعل قوي يفرضه عليه المكان المقدس :

اسجد يا هذا

اسجد فجمال الإبنة

اسجد هناك

ثانيا المكان المثال

المكان المثال هو المكان الخالي من العيب الذي لايعتريه  النقص. كان العرب يظنون أن هناك مكانا على الأرض لايمرض فيه أحد يندحر فيه الشيطان وأية من  قوى الشر:

أسبغ عليها موسى رياض الفتنة

ريض شيطانك

واندس بعروتها المثلى

العالم أعلاه خال من الشر فهو يشبه إلى حد ما عالم المثال الذي يجتمع فيه الأروى والنعام والنار والماء ويشيب فيه الغراب ويبيض القار وتقع السماء على الأرض فلا علل ولامرض

ثالثا علم الجسد

يبدو في ظاهره عالما حسيا إذا فرغنا اللفظ من محتواه لكنه يرتبط على الرغم من حسيته الظاهرة بقصة قديمة يشير إليها الشاعر:

وليس في القليل من الشمام

تحت ثوبها

تجدها شهوات عشتار

تهيج

وتصلي عليك

وتكبر تكبيرا

ورثنا من العرب القدامى تشبيه الخدود بالتفاح والنهود بالرمان لكن الشاعر جعفرا يسلك طريقا آخر فيشبه النهود بالشمام طبعا العلاقة جمالية لاتتمثل بغريزة الآكل والمأكول،ولكي يحقق المراد من تشبيهه فإنه  يستند إلى الرمز القديم عشتار وهي إلهة الحرب والحب والجمال. لقد كانت الإلهات من قبل كل واحدة منهن تختص بوظيفة واحدة فهيرا هي إلهة الزواج وإفروديت هي للحب وأثينا للذكاء إنها عشتار مجموع العاطفة والعقل والشهوة  أضف إلى ذلك أن عشتار كانت عذراء ولها في الوقت نفسه عدة أزواج.إن ثديي العذراء مريم " ع" كانا يشخبان وهي لما تزل عذراء  وفي شعرنا العربي يخاطب الجاهلي ابنته أو حبيبته بكلمة أم على الرغم من أنها عذراء:

يادار عبلة بالجواء تكلمي         وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

حييت من طلل تقاصر عهده     أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

الثديان عماد الحياة أو هما نبع الديمومة ارتبطا بثمار الحياة الشمام فكانت المرأة عذراء وثيبا لتحمل صفة الإزدواج بالتالي تستطيع أن تخرج الرجل من العالم السفلي لتعيده وتعود إلى الحياة من جديد، فهي تذهب إلى العالم السفلي وتعود لتعيد معها حبيبها تموز . 

رابعا الصوت مكان

في قضية المقدس يتحول الصوت نفسه إلى امتداد مكاني تتحكم به أداة المكان فمن دونها يصبح الأمر لاشيء. يقول المقطع:

اسجد

على سجع يفيض حيرة

من نظم الخليل

وحي يقودها لسحر كتاب مبين

فالجسد يلتاع لعمرة

تقطر الخمر منها...

السجود على سجع والأداة الثانية هي الخمرة ثم هناك الوحي والكتاب المبين والمصلي وهي من الكلمات الروحية الدينية الصوفية .

خامسا المكان الفرعي

وهو مكان نابض بالحياة لأنه جزء من حي. غصن الشجرة جزء من الشجرة يدل عليها وقد يعادلها بحيويته:

هي فاكهة شققها شهدها

فتناثرت كأنها البدى على غصن

قوامه الرشيق ليس له بديل

فمرة ثانية نعود للمعنى الروحي المتمثل بقوله تعالى" فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية"  وقوله"وذللت قطوفها تذليلا"  . إن النعيم المتوفر للمؤمنين عند الغصن المثمر يلمح الشاعر إليه بصيغة:

اسجد

وامنح أنوثتها ثقة

اترضيك

والدليل هو تركيزه على المفردة القرآنية والمعاني الروحية. إن الرضا له درجات وألوان فالنفس الراضية أي التي رضيت عن مكافأة الله  لونها هو الأسود ودرجتها الثالثة، فهنا في هذا المقطع تدلنا كلمة ترضيك على إسقاطات كثيرة لامجال لاستعراضها هنا .

سادسا المكان المحلي

يحاول الشاعر أن يجعل  مكان ذكرياته وطفولته وصباه متماشيا مع اغترابه ومتوازيا مع النفحات الروحية التي تختلج في أعماقه، فالمرأة الغضة وريثة موسى لاتذكره بالتداعيات المكانية العامة بل تأخذه إلى مكان طفولته وصباه حيث تصبح هي معادلا لهذا المكان:

اسجد

هناك بدار أمسك الريفي

المكلل بالأعناب والموز والنبق والنخيل

وحواليك الحوامد نهر

يفوح عطر الصبايا

المقطع أعلاه احتل الزمن فيه المكان لأن المكان تغير. نهر الحوامد يرمز لتغير الحياة"أنت لاتدخل النهر الواحد مرتين لأن مياها جديدة تجري من حولك أبدا" ، لكن النهر تغير باتجاه الفناء الكلي زال من الوجود تقريبا خلال الحرب وهدم بستان النخل الذي ورثه الشاعر من أبيه، هنا يأتي دور الزمان ليحتل مرتبة العقل الحافظ للأشياء:

الأمس المكلل بالأعناب

لم يعد دور الزمان مخربا كما نراه في الشعر الجاهلي بل هو زمان صانع محافظ على الاشياء التي نغيب عنها فمن يحافظ عليها.العقل كما يجيب اسبينوزا الفيلسوف .

سابعا المكان الأسطوري

يحاول الشاعر أن يختم قصيدة بالعودة إلى المنبع أي الأسطورة فيختار مكانها الأول الذي ورثناه فكان هو الختام للجنس البشري:

ياتموز

أيها النبي صل

ليلها الأبيض أوحى إليك أن تؤمه

تعتلي العالم السفلي..

لو قرأنا عن العالم السفلي لوجدناه مظلما

إلى دار الظلام

المكان الذي لايرى سكانه نورا ولاضياء

حيث الغبار طعامهم والتراب قوتهم

 والظلام نفسه والقتام نجده في العالم السلفي وفق الأسطورة الإسكندنافية  وهو مكان الكسل والخمول كما في التوراة  مع ذلك يدخل الشاعر تحويرا على فلسفة الموت والقتام ليجعل النهاية أكثر إشراقا :

تعتلي العالم السفلي

إلى العلن

حتى يكتمل الشفق

لونه البديل

يبقيها بحضن وهاج

الخاتمة

قبل أن أنهي حديثي أقول إن قصيدة " ابنة موسى" حملت عبر دلالاتها الإيحائية معاني ضمنية تشير الى فلسفة تعددية تلبس هالة التصوف والروح وتنبيء عن رموز قديمة عالمية وإسلامية لكن الذي يقرؤها كما هي من دونتأويل ولا تلميح يظنها قصيدة مفعمة بالجنس والأسلوب الإيروتيكي والقاريء مخير بين اثنتين: قراءة مباشرة وقراءة تبحث عما وراء السطور.

 

د. قصي الشيخ عسكر

19/5/2010

نوتنغهام

 

.................

هوامش

1-  النساء 4/154

2- القصص 29/28

3-  العهد القديم، سفر الخروج 1/5

4-  النور 24/35

5-  القصص 28/32

6-  اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، الدكتور الأخضر جمعي،دمشق 2001، ص229

7-  الحيوان للجاحظ 2/363

8-  فن الحياة فن الكتابة، الدكتور أسعد علي، دمشق 1992، ص 159.

9-  لاحظ رسائل القديسين في الفكر المسيحي عن العذراء التي يشخب ثدياها

10-  عشتار ومأساة تموز،الدكتور فاضل عبد الواحد علي،بغداد 1973 ، ص110

11-  أذكر القاريء بالقصيدة الرائعة التي ألفها الراحل الإمام الخميني رحمه الله ونشرتها الكثير من الصحف العربية بعد وفاته ومنها صحيفة الشرق الأوسط ومما ورد فيها: مللت من الحانة ومن نداماي في الخمر والقصيدة أساسا باللغة الفارسية.

 12- الحاقة 69/23

13-  الإنسان 76/14

14-  مقامات النفس عند الصوفيين لكل نفس مقام ولون خاص بها: فالملهمةتكون في المقام السادس ولونها الاحمر

15-  فلاسفة يونانيون، جعفر آل ياسين، ط بغداد 1971.

16-  إسبينوزا، إندريه كريسون،ترجمة تيسير شيخ الأرض،بيروت1966 ص 87.

لقراءة قصيدة الشاعر جعفر كمال ابنة موس

http://www.almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=12793:2010-04-10-01-28-08&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=0

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1409 الخميس 20/05/2010)

 

في المثقف اليوم