قضايا وآراء

بابل مدينة الثقافة والجنائن المعلقة وبابل الفجيعة في قصيدة (بابا...بابل)‏

في رسالة إلى الله / نص كتبه الشاعر اللبناني الكبير عقل العويط وهو ضد الحرب على العراق /

قائلاً :" انظرني عينا بعين ولا تُشح وجهك عني. انا عين هابيل الرائية بعدما قتلني شقيقي قايين.

لا تحدّياً اخاطبك انما يأساً." ........ وتابع :" لماذا صرت الهارب والفار والمخبئ وجهك وعينيك

امام ضحكة الشيطان القوية ؟ ..................و

هذه الرسالة التي أحدثت ضجة كبيرة بين رجال الدين في لبنان خاصة، رسالة أعلن فيها عقل العويط محبته للعراق وللسلام في بلاد ما بين النهرين ................................

 

من بين مئات الملايين من البشر الذين أستنكروا قبل وبعد كل هذه الحروب ضد العراق اللوعة وصور المأساة الآتية من العراق، قد أختصرها ـ ربما ـ الشاعر الكبير صالح الطائي في لغته الشعرية الدرامية وبمفردات صوّرت الموت البطيء للحرية والمواطن في قول الأشياء والعراق على كفّ عفريت وفي بابل والحدائق المعلقة ـ توقفت الحياة والشؤون أصبحت معلقة ؟

 

وماذا عن القصيدة ؟؟؟

نخبة الإبداع وتحية للإبداع / في الوردة كونٌ ... / الشاعر صالح الطائي

والمألوف على السمع عادة هو في الكون وردة أو ورود وهي عبارة متداولة، أما "في الوردة كونٌ" مختصر مكثف جداً وغريب .

وأمل أكيد أنه بعد رائحة البارود ـ يأتي عطر الورد والوردة في قصيدة "بـابـا...بـابـل" هي رمز السلام في العراق والسلام هي رسالة الحياة لعدم الموت المجاني والموت قبل ساعة الموت ..

 

لا داعي للتشتت في شرح الكلام، كل السر في الإبداع هو أن الشعر سر من أسرار الكون وعجائبه الفكرية السبع ـ إذا صحّ التعبير، والشعر فن من أصعب الفنون، ونسمع غالباً بكثير من الشعراء والقليل من الشعر

 

لماذا نكتب عن الحروب وويلاتها : قصيدة ؟؟؟

لماذا نطلّ على التاريخ كما فعل الشاعر وربط الأحداث والكارثة بوصف دقيق معذّب رغم صدق ذاكرته وصورّ العراق وبابل بتفاصيل مرعبة وكأنه تحت وابل من القنابل رغم أن الشاعر يقيم منذ سنوات خارج العراق؟

 

إعتمد الشاعر في بداية قصيدته هذه على التضاد المعنوي كي يبتعد عما هو مألوف في التعبير كما في (الطفلة تصرخ في صمت ٍ) ونحن نستغرب طبعاً كيف أن الطفلة، تصرخ في صمت والطفولة، كما نعلم جميعاً، عفوية وصادقة وبريئة، فكيف لطفلة صغيرة أن تغيّر طبيعتها لتصرخ بدون صوت، لهذا يشير الشاعر الى ان ما حول الطفلة هناك رعب ومحيط استثنائي يجعلها ان تكون هكذا، مما ادى لهذه الصورة الشعرية ان تثير القارئ وتهيئه للدخول في القصيدة بتلهف واشتياق، ثم يستمر الشاعر ليؤكد هذا الاستثناء الموحش وأسبابه في (البوم ترعرع...والحلوى دماء والشارع ثعبان أعمى) بعد هذا يتصارع الوعي واللاوعي في ذهن الشاعر الذي يعثر اثناء ذلك على اسناد جاهز يمنحه استراحة، حتى ولو قليلة جدا، فيجد ان الجملة (لقد اختلط الحابل بالنابل) جديرة في ذلك.وعمّق الصورة عندما أكمل بجملته الجديدة المبتكرة التالية / لقد اختلط القاتل بالحابل والسافل بالنابل

 

وبرأيي / في القصيدة رؤية سياسية تتجلّى من خلال هذه الأسطر المتسمة بالصور البلاغية والمؤثرة التي خلقتها الحروب، تحولت في قصيدة " بـابـا...بـابـل " إلى برنامج مبرمج واضح الرؤى /

لقد اختلط القاتلُ بالحابلْ، والسافلُ بالنابلْ

 

ثم استمر في تلقائية القصيدة ليقارن بين ما يشعر به الان وبين ما يجب ان يكون عليه كانسان

ففي "الوردة كون" فكيف يكون في القلب تمارين قنابل؟

وحتى أنني شعرت بأن الشاعر يقصد أبعد من ذلك في (تمارين قنابل) وكأنه يعني بأن بلده أصبح مختبراً لتجريب الاسلحة بمختلف أنواعها.

إن أكثر ما يلفت الإنتباه هو أن الشاعر قد أشار الى أنه رغم كل هذا الحزن لكنه مازال يملك الأمل ويملك آخر ساعات الصبر وأن انهمار دموعه ليس بمحض إرادته، بل ان هناك مؤامرة كبيرة جاءت حتى من حواسه فأسقطته في فخ البكاء رغم تمسكه بالقوة والثبات أي ان الخراب، قد اكتسح جميع مفاصل الحياة إبتداءً بالخراب السياسي، فأشار لذلك بكوميديا سوداء في (الاحزاب توابل).

وبما أن الشاعر صالح الطائي رسام وفنان تشكيلي فلقد لمست ـ قليلا ـ أنه يراهن على الصورة الشعرية الحديثة دائما وكأنه في هذه القصيدة قد أقام معرضاً للوحات ٍ سريالية ٍ ولكن بجمله المكثفة والكلمات اللينة المُطيعة لأفكاره، ولم يكتف ِ بما هو شعري خالص بل ذهب إلى أبعد ما هو سردي وشعري خالص ايضا كما في ـ

لمْ يبق َ سوى أسَدٍ

يتسَكّعُ سكران َ

بين أزقّتهِ ِ المسروقةِ

والتأريخ المحروقْ

فـي يدِهِ هَيكلُ لـَبْوَتِهِ

وعويلُ خواءْ

فتمَشّى قليلاً....

رأى جثثاً متناثرة ً .....

أرواحاً راحلة ً....

حمورابي بدون غذاءْ

والأسرى هُمُ الزعماءْ

أخرَجَ من جيبهِ كأساً أخرى

وابتدأ البكاءْ

فرَّتْ عيناهُ واسْتلقتْ في

جُرفيّ النهـر الغارق ِ

في الوحشة ِ والأرقامْ

حيث أنه هنا قد استوحى تأريخ البشرية الأول (أسد بابل ـ حمورابي) ليشركه ويزجّه تحت وطأة الكارثة المعاصرة اللامعقولة لتكون تراجيديا القصيدة عامة ً وتشمل جميع جوانب الحياة التي تعيشها الطفلة (جيل الحاضر والمستقبل)

 ثم يختتم الشاعر المبدع / صالح الطائي قصيدته على لسان الطفلة التي راحت تعلن بأن بلدها العراق هو عبارةعن أرواح ٍ منفية في بقاع العالم وأخرى تعاني الموت والقتل في الداخل وإن كل هذا جاء بسؤالها الملغوم الذي هو في نفس اللحظة يحتوي على جوابين موجعين جداً ؛ لا يختلف أحدهما عن الآخر

إلا بطريقة تنفيذ الموت كما في /

والطفلة ُ ما زالتْ تصْرُخُ

 

بابا...بابا...

سائِلـْهُـمْ في المنفى

أو في الوطن ِ الراحلْ

هلْ نحنُ سبايا...

أمْ نحنُ لحْمُ المقاصِلْ؟

بابا....بابا

   بابلْ

 

 جوزيه حلو ـ فرنسا 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1413 الاثنين 24/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم