تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

جوزية حلو عاشقة الليل الحزين

يقصد المال الذي كان إمام الجامع يختلسه ويدفنه في هذا المكان.  قصة  الفيلسوف تشبه بالضبط قصائد الشاعرة المبدعة جوزية حلو. إن القاريء الذي يهتم بظاهر الكلام ويتجاهل أبعاده أي القاريء السطحي سوف يسيء الفهم بلا شك. أقول إنه لايسيء الفهم بسيدة تكتب شعرا عن ظاهرة ما وتستند في كتابتها إلى معرفة لغوية وفنية  وتنطلق من ثقافة عامة ومعرفة بلغة أو لغات أجنبية بل إن مثل هذا القاري يسيء الفهم بالمقدسات أيضا فلو قرأنا التوراة قراءة سطحية من غير تمعن لقلنا إنها كتاب عنف وقتل ودمار وكذلك نحكم على القرآن الكريم وغيره من الكتب المقدسة لكن الكتب المقدسة لها حصانتها ولا يمتلك العابثون الجرأة في مهاجمتها.

إن بعض العابثين لايجدون حرجا في التفسير بسوء الظن ، فأي بيت شعر هو برأيهم يحمل معاني وقحة كالجنس مثلا.لقد تناول الشعراء القدامى موضوع الجنس من دون تحفظ فهاهو الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس زمن الخليفة عمر " رض " يقول:

عميرة ودع إن تجهزت غازيا   كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فيستحسن عمر رأيه ويقول لو قدم الإسلام على الشيب لكان أبلغ، وفي القصيدةنفسها  بيت جنسي لو جمع كل  مخرجي هوليود آلات تصويرهم لعجزوا عن أن يصوروا لقطة مثله:

وأشهد عند الله أن قد رأيتها   وعشرون منها إصبعا من ورائيا

توسدني كفا وتثني بمعصم   علي وتحني رجلها من ورائيا 

ولا شك أن هناك شعراء معاصرين  صوروا هذا الباب يأتي على رأسهم الشاعر نزار قباني غير أن صوره وقفت عند الجانب الحسي ولم تتوغل في العمق كقصيدته التي تصور سحقيتين  وغيره من الشعراء .

إن بعض الشعر كثيرا ما يتعرض لسوء الفهم بخاصة إذا كانت القصيدة من نتاج امرأة مثلما يصنف جل القراء شعر السيدة جوزية من باب الإيروتك مع أن تصنيف الشعر ضمن باب واحد هو قتل له وتحجيم لمساحته الفكرية وسوف يرى القاريء الكريم المواطن الجمالية في قصيدة " عاشقة هذا الليل الحزين " التي يحلو لبعض القراء أن يصنفها تصنيفا من جانب واحد فقط.

 

المقال:*

تتكون القصيدة من خمسة مقاطع في المقطع الثالث تقول:

صفير رياح في القطارات الهاربة

يخطف كالبرق لون الفراشات

المقطع الثالث هو حلقة الوصل أو واسطة العقد والوسط هو الرابط دائما وفق رأي ابن الرومي الذي يرثي ابنه الأوسط:

توخى حمام الموت أوسط صبيتي   فلله كيف اختار واسطة العقد

إن الشاعرة تلمح أن الوسط إذا انتهى بدأنا ننظر إلى جثة

يغفو جثمان الحوريات في الشتاء

فهل ماتت الفراشات حقا وتحولن إلى جثث كحوريات ميتات؟ سأنتقل قليلا إلى المقطع الأول لنعرف هل هو مقطع يدل على الحياة أم الموت؟

تدعي الهوى في كأس القصيدة

وقصائدك خدعة وإدمان ونساء

أيها الربيع المخنوق منذ الخلق

عندما يأتيني الكون

لينزوي بين نهدي الجميلين

إذن الشاعرة بدأت بداية صوفية كونية وليست حسية. منذ وعى الفكر الإنساني نفسه على الأرض منح الثديين خاصية الخلق. الشاعرة تخاطب الربيع الميت وفي هذا تناقض لكنه تناقض إيجابي. نحن عندنا حبة بذرة فهي ربيع لكنها جافة ميتة حين تندس في الأرض تتحرك فيها القوة الكامنة فالأنثى الشاعرة تبحث عبر خصوبتها عن كون تحرك فيه قوته الكامنة لتتحول بعدئذ كلمة الميت إلى حياة تلك الحيوية التي جسدتها كلمة فراشات فيما بعد لأنها أبت في المقطع ذاته إلا أن تخلع ثيابها للكون الكامنة فيه الحياة:

أخلع ثيابي خلسة

للبوح بذنوب الخلوات

إذكر بقصة السيدة العذراء الأم في الكتاب المقدس" لأن الذي حبل به فيها هو من روح قدس وستلد ابنا فادع اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم"   وفي القرآن الكريم" والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا"  و" ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا"  فالفرج وفق رأي العديد من المفسرين هو الثوب  تماما الشاعرة تستوحي نصا مقدسا فترسم صورة الكون والخطيئة حوله ثم يأتي الاعتراف عن طريق العري  وهو التجرد عن الذنوب وليس الثياب، والذي يخلص من الخطايا والذنوب وفق الرأي المسيحي هو نفسه الذي يخلص الناس من العلل والأمراض والعمى والجنون كما هو في العهد الجديد" وأتى يسوع إلى بيت بطرس فرأى حماته مضطجعة ومحمومة فلمس يدها فتركتها الحمى ... أحضر إليه الناس كثيرين ممن تسيطر عليهم الشياطين فكان يبريء الأرواح بكلمة وأبرأ كل من كان به سوء"  وفي القرآن الكريم" تبريء الأكمه والأبرص بإذني"  .

على أية حال كثفت الشاعرة الذنوب والخطايا ثم تحررت منها عبر الإسقاطات التاريخية  ثم عززت صورتها بذكر اللون وهناك ظهر لونان هما  الاسمر والأحمر:

يزحف النهر في ورق الأشجار

تحت أقدام سمراء تعانق الكون بمزامير الشوق

تبعد عنها وجه الموت

المزامير ارتبطت بالنبي داوود الذي كان صوته وهو يقرأ يجعل الطير والحيوان ينصت فهو في هذه الحال يحررطول  مدة صلاته البشر والحيوان من الخطيئة:

ياعشيقة هذا الليل الحزين

تعالي خلف روحي

وخلف الستائر الحمر

رغباتك وشهواتك وشهقاتك

الأحمر هو لون الحياة ولون الدم من حيث العموم وفي فكرنا البابلي القديم أن الآلهة خلقت البشر من طين ودم:

قائلة للآلهة العظيمة

فليكون من طين ولتبعث بالدم فيه الحياة

هناك لونان الأسمر النقي ولون الحياة الذي يحمل الخطيئة والنقاء معا حيث يبرز بقوة الصراع بين الجسد والروح:

لأن خطاياهن هو جسد مرغوب

فاتنات أغراهن سر الروح

ويمضي الصراع بين نقاء الاسمر ونقاء الأحمر والخطيئة والكون فتنتهي قصة الصراع بالاستناد إلى الموروث الذي بدأ اساسا في قصص ألف ليلة وليلة بالدم

تعبث الزهور الباردة بالصباح

وحول عنقي ألف قبلة وقبلة

إذكـّر من جديد بالقول المشهور " ولما أطل الصباح سكتت شهرزاد عن الكلام المباح لانه يجب أن تكون هناك ألف جثة وجثة فالخطيئة كما تصورها الشاعرة هي قبلة على العنق كسيف شهريار أو لدغة الوطواط مصاص الدماء إلى أن يحل التطهير.

وقبل أن أتطرق  إلى فكرة التطهير أعود ثانية إلى عقد الوسط وقضية الفراشات المتعددة الألوان. بعد أن استعرضنا مفهوم الخلق والخطيئة والبراءة وجدنا أن الفراشات رابطة العقد تمثل الجوانب التالية من الحياة:

الفراشات من حيث الظاهر تعيش حياة قصيرة.

الفراشات متعددة الألون فألوانها وفق الفكر الهندي تجسيد للتناسخ وتجديد للحياة أي الربيع المخنوق:

يغفو جثمان الحوريات في الشتاء

وفي القبور ورود من رمال الزمان

هنا نحن نبحث عن البذرة الكامنة.كان الزمان يؤثر في الحياة فيحولها إلى أطلال، والآن اصبح خالقا للحياة داخل القبر نفسه فهناك ارتباط ضمني بين القبر والأطلال والرحم والثدى.

إن الفراشات تنتقل من زهرة إلى زهرة . حول هذه الفكرة فكرة الانتقال يقول محمود درويش:

أثر الفراشة لايرى

أثر الفراشة لايزول

هو جاذبية غامض

يستدرج المعنى

ويرحل حين يتضح السبيل

هو مثل أغنية تحاول أن تقول

وتكتفي بالاقتباس من الظلال ولاتقول

الفراشة تنتقل من زهرة إلى زهرة باختيارها والفلسطيني ينتقل من بلد إلى بلد مجبرا،علاقة الحركة الفلسفية استوعبتها شاعرتنا اللبنانية فهي وفق التناص الأدبي مهاجرة مثل محمود  تبحث عن مأوى حيث تترك لبنان لتعيش في فرنسا وتظل تحلق في المعاني ضمن عملية الحياة الكامنة في البذرة أو الوردة في القبر فنحن في صراع نبحث عن الحقيقة دائما:

فاتنات أغراهن سر الروح

وانتهاء لنسيانه في السراب

لكن النهاية تحتم  على هذا الصراع أ، ينتهي بالتطهير. الشاعرة صورت مأساة الصراع والمأساة تنتهي بالتطهير وفق تعبير أرسطو" المأساة محاكاة فعل نبيل تام تبعث فينا عاطفتي الخوف والشفقة وتدعونا للتطهير منهما"  ونحن نسأل أين هو النبل في الفعل حين يقتل أودب أباه ويتزوج أمه؟ إن عملية التطهير هي التي تجعل من الفعل نبيلا لأن الشفقة نفسها فيها جانب أناني – أناني خطأ شائع لكني لم أجد إلا الأثرة بديلا وهي لاتفي بالغرض- فأنت حين تسمع بحادث دهس قريب من بيتكم ينصرف ذهنك إلى طفلك أو أخيك وحين تتأكد من أنهما قربك ترتاح نفسيا ثم تشفق على المدهوس. لقد أشفقنا على أودب حين علمنا أن الفاعل لم يكن واحدا منا ثم أشفقنا عليه لأنه حكم على نفسه بالعمى ففقأ عينيه.تقول الشاعرة:

أخلع ثيابي خلسة

وخلف الستائر الحمر

رغباتك وشهواتك وشهقاتك

فهل هذه هي ورطة الإثارة المؤقتة؟

تتشظى التأوهات أقدارا

والمسافات حشرجات تطول

عند نهاية السطر أعلاه تبدأ عملية التطهير الذي يحول الفعل من فعل عادي إلى نبيل ، تؤكد قولها:

وتراهم كلهم – في المنفى- يرحلون

يرحلون

يرحلون

الشاعرة عادت إلى فعل الفراشات التنقل فكررت الرحيل في المنفى ثلاث مرات" يرحلون" ممكن أن تكون الرحلة من الذنوب ، بلد إلى بلد، من الجسد، والمثلثات في اللغة العربية  والمفهوم  العالمي ذات دلالات متنوعة.في حقل الفلسفة تعيد الثلاثة أو رقم ثلاثة 3 تركيب الثنائية من جديد عبر تسامي ثنائية الذكر الأنثى وتماثلهما إلى الكمال بفعل الثالث . في الموروث الأسطوري السومري أن هناك 4600 إله تخضع كلها لثالوث أعظم هو إله السماء والهواء، وإله اليابسة، وإله المياه العذبة   والتثليث في الفكر المسيحي يدل على وحدة الأب والإبن والروح القدس، وفي القرآن الكريم ورد" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخر"  والمثلثات المقدسة عند العرب كثيرة  لأن الرقم ثلاثة يدل على الرفعة كالإلهات الثلاثة أو التثليث أو تفعيل الرقمين واحد وإثنين مما يعني أن الشاعرة وعت تماما أهمية هذا الرقم فثبتته لتوكيد التطهير في ختام موضوع الصراع الذي بدأت به أولا.

الخاتمة:

وفق ما سلف أقول قي قراءة أي نص يجب علينا أن نتمعن في صوره وأبعاد كلماته قبل أن نصدر حكمنا عليه حتى لانظلم النص ولانسيء الظن بالشاعر بالتالي تكون قراراتنا وأحكامنا أقرب إلى الصواب، وبعيدة عن الانفعال  فنكون قد اقتربنا من روح الشاعر وأصبحنا واعين لمعانيه وصوره وأفكاره التي صاغ بها عمله الإبداعي.

 

......................

* للاطلاع على قصيدة الشاعرة جوزيه حلو : عشيقة هذا الليل الحزين

http://almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=8629:2009-12-16-13-04-37&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=0

 

 

...........................

هوامش

 1 ديوان سحيم عبد بني الحسحاس ط بغداد.

2-  إذكر من القدماء جرير الذي قال في إحدى نقائضه عن سكينة أخت الفرزدق:

ودت سكينة أن مسجد قومها   كانت سواريه أيور رجال

قال الفرزدق: قاتل الله جريرا كلما دخلت مسجدا لأصلي تذكرت قوله ودت...

3-  نزار قباني، المجموعة الكاملة ط بيروت.

4-لا أخفي أن هناك قولا عن عرس  ورد في مجموعتي " رحلة الشمس والقمر

تعلو الزغاريد من النسوان  إذ يفتك العوران بالشرحان

وقلت في أم فخامته أخزاه الله:في ديوان لم يطبع بعد:

يابن التي ودت تعمر مسجدا   فيه تضم غرابة الأطوار

من كل  سارية رأتها فيشة  أو كل مئذنة كأير حمار

 5-  راجع ديوانه وتعد هذه القصيدة من قصائد الرثاء المؤثرة.

 6- متى 1/19 22

7-  الأنبياء21/91

8-  التحريم 66/12

 9- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص 478 وغيره من التفاسير.

10-  متى8/14-17

 11- المائدة 5/110

12-  ترانيم وأدعية سومرية، د فيصل الوائلي، ص12

13-  أثر الفراشة ، محمود درويش، ط الريس بيروت

14-  أنا هنا أقيم المرحوم درويش من ناحية الشاعرية أما كونه صاحب موقف فأقول محمود الشيوعي خلال الثمانينيات من القرن الماضي ونحن مشردون في دمشق وعواصم أخرى كان يحضر المربد سيء الصيت ويعانق الجلاد ويقبله وهو يذبح الشيوعيين واليساريين والتقدميين والإسلاميين والوطنيين المستقلين وغير المستقلين.

15-  فن الشعر، ارسطو، ط بيروت

16-  أذكر القاريء بقصة النبي يوسف عليه السلام فهو البريء الذي طلب السجن " السجن أحب إلي " لماذا لم يطلب من الله وهو النبي المستجاب الدعاء أن يجعله في حديقة، فعملية التطهير المراد بها نحن لا النبي يوسف عليه السلام

17-  رمزية الأعداد في الأحلام، لودفينغ بانيث، ص 35-36.

18- شعار سومر، محمود الأمين ، بشير فرنسيس، دار الوراق ص8

19-  النجم 53/20-21.

 20- أساطير العرب قبل الإسلام وعلاقتها بالديانات القديمة ، قصي الشيخ عسكر، ط دمشق.

في المثقف اليوم