قضايا وآراء

الاستراتيجيات السردية وسياسة التمثيل في رواية ما بعد الحداثة

والسياق الفلسفي، والسياق الأدبي . فمن ناحية السياق التاريخي أو التاريخي الاجتماعي فان ما بعد الحداثة هي الفترة التي تلت الحداثة تماما، إذ أن الحداثة جاءت بعد عصر النهضة، وتميزت هذه الفترة بانهيار العقلانية وروح التنوير. أما في السياق الفلسفي فان ما بعد الحداثة تشير الى نقد القيم التقليدية والإيديولوجيات، فضلا عن كونها مرحلة نهوض التشكيكات المعرفية ونقد ما أطلق عليه القصص الكبرى أو ما وراء السرديات. ويقترب هذان المفهومان من المفهوم الأدبي لما بعد الحداثة، فعلى المستوى الأدبي فان ما بعد الحداثة تشير الى النظرية الأدبية والتطبيق الذي ينتقد ويتجاوز الأشكال السردية والتأويلات وطرق التحليل الأدبي التقليدية والحداثية على حد سواء. وفي حين تتميز الحداثة بوحدة منهجية ـ وان كانت ضبابية ـ لأنها تضع وزنا كبيرا لطريقة أو شكل التقديم . تتميز ما بعد الحداثة بالتنوع الذي لا يحاول خلق انطباع بنيوي . ومما لا شك فيه ان مصطلح ما بعد الحداثة التاريخي وثيق الصلة بما بعد الحداثية الأدبية، إذ يشير أكثر الأدباء إلى ان أصل المصطلح مرتبط بالحرب العالمية الثانية، والإبادات الجماعية للأقليات التي سبقت هذه الحرب او تزامنت معها، أي التي شظت بصورة جوهرية الإيمان بالعقلانية بوصفها مصدر الفلسفة الإنسانية والتطور والأخلاق. إن توظيف العقلانية لتحقيق أهداف شائنة، وأسلبة الرعب بوساطة استغلال الفن يستجوب صلاحية العقلانية، وأضحى التركيز على قضية من الذي يوظف العقلانية لمصالحه وللوصول إلى أي هدف؟ السؤال الذي يقترب في فكرته الأساسية من مفهوم ( سياسات التمثيل) The politics of representation. يشير مصطلح التمثيل الى تركيب او بناء جوانب من الواقع / الحقيقة مثل الناس او الأماكن او الأحداث او الهويات الثقافية او غيرها من المفاهيم المجردة في بنية ما وهي في حالتنا هذه، رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر). يبدو أن بشار عبد لله ـ شأنه شأن الروائيين المثقفين واسعي المعرفة والاطلاع ـ لم يجد نفسه محاصرا بالقيود: اللغة التي تنصب قيودها حول الفكرة، والقدرة المحدودة على تمثيل الموضوع، والقيود على التاريخ بوصفه نسخة واحدة عن الحقيقة، والقيود على السياق ضمن الرواية، والقيود على الشكل حين نوظفه لتمثيل الواقع أو الحقيقة. منحت ما بعد الحداثة الروائيين فرصة للتحرر من هذه القيود، إذ يقول ليوتارد: (الفنان والكاتب يعملان الآن بدون قواعد من اجل تشكيل وصياغة قواعد ما سيتم انجازه). يفترض التقليد أو المحاكاة Mimesis ان التمثيل هو نسخة طبق الأصل عن (الواقع) ويفترض أيضا ان هناك واقعا لتمثيله. وإذا ما وظفنا هذا التحديد للتمثيل، تقول هتشيون: (أن ما بعد الحداثة يتحدى افتراضات التمثيل المرتكز على التقليد والمحاكاة) أي أن الروائي يقوم بنزع الطبيعة الأصلية عن الواقع التي افترضت الايدولوجيا أنه الحقيقة. ولذا فان روايات ما بعد الحداثة توظف ثم تخرب الاتفاقيات السردية لتحقيق هذه الغاية. وبتطبيق ما سبق على رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر) نجد أن كل اسم (لشخصية أو مكان ) ورد في الرواية بوصفه علامة تتعالق خطاباتها بشكل مدهش، ويمكننا القول ان كل ما كتب حول شخصية ما في الرواية شكل فضاءً استطراديا discursive space، فمثلا مثلت الأميرة دايانا (والأمر ينطبق على كل الشخصيات المعاصرة الواردة في الرواية ) مركزا مبهما لتمثيلات متنافسة: الملكية والأنوثة والديمقراطية والأخلاق والشهرة والموضة والخاص في مقابل العام اللذان يصطدمان ويتنافسان .

/ صوفي مارسو، أسمهان خوري، روزي عبده، فاطمة بن حوحو، دليلة بن مراد، نجوى كرم، لطيفة، رندة جدعون، نبيلة عبيد جداً جداً جداً وآخر العنقود جيهان نصر.. ما الذي أبقيت لأصالتِك .. لي .. أنا أصالة … دايانا … و …/ الرواية

تلفت رمزية الفضاء الاستطرادي انتباهنا الى أمور عدة : أولها: التركيز على الخلاف. فهناك دائما في الحياة الاجتماعية صراع حول كيف يجب ان تفهم الأشياء، ولهذا السبب فان الحديث عن سياسة التمثيل يحمل معاني كثيرة. وثانيها: نجد أن للسلطة دورا في قضية التمثيل، إذ اهتم علماء الاجتماع الذين درسوا الخطاب بطريقة الناس أو المجموعات أو الهيئات في إدارة أو تحريك او تعبئة المعاني، وكيف أن بعض التأويلات تصبح أكثر هيمنة ولصالح من يتم ذلك؟ ومن المعروف ان السيطرة على الخطاب مصدر حيوي للسلطة، ومن المعروف أيضا ان هناك حدودا لتلك السيطرة، ذلك ان المعاني مائعة وقد تهرب من موظفيها، ويمكن تعبئتها وإعادة اشتغالها لتقاوم الهيمنة. منذ الاستهلال نجد رواية او بناء تاريخيا موازيا لبناء الرواية ويقوم البناءان معا بقلب اتفاقيات وإيديولوجيات الثقافة السائدة والقوى الاجتماعية المهيمنة. وما نحتاجه هنا ليس علاقة 1:1 بين العلامة والشيء، تلك العلاقة الاستبدادية الاعتباطية. إن نظرية التمثيل الموحدة هي التي سادت في مرحلة الحداثة وهي بالتحديد ما قامت ما بعد الحداثة باستجوابها والتشكيك فيها. وهناك أمر مشترك بين ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية على حد سواء وهو أن العلاقة التي تحكم العلامات والعالم الواقعي قد عُكست. إن حالة الأشياء في العالم الخارجي لم تعد هي التي تحدد أنظمتنا التمثيلية، بل ان طبيعة أنظمتنا التمثيلية هي التي تقرر الطريقة التي ندرك فيها العالم الخارجي. وقد تلخصت تبعات انتقاد وتفكيك معايير وقيم الحداثة في ثلاث اتجاهات: الأول: ما تبناه بودريلار بان تفكيك ما وراء السرديات كان سلبيا، وأدى في النهاية الى تدمير الشيء والموضوع على حد سواء، وبالمقابل كان الاتجاه الآخر الذي ثمن فقد الاتجاه الناتج و تعددية الخطابات واعتقد بان الإطاحة بعرش العقلانية كان خطوة مهمة في طريق الحرية وكان كتاب ” سياسات الرغبة ” ليوتارد الممثل الرئيسي لهذا الاتجاه. أما الاتجاه الثالث فقد مثلته ليندا هتشيون التي وقفت من ما بعد الحداثة موقفا دياليكتيكيا نقديا. إن مفهومها عن ما بعد الحداثة كان جماليا أدبيا على نحو خاص يوازن المخاطر والمزايا المحتملة. إن أهم اشتغالات الرواية هو مَشْكَلة معرفة الماضي من منظور معاصر. وخلفية هذه المَشْكَلة هو نقد التمثيل. وبتوظيف هذا المفهوم يمكننا تحديد باقي العناصر الما بعد حداثية في رواية بشار عبدالله مثل نقد التأويل أيضا. فإذا ماانطلقنا من فرضية أن السذاجة التمثيلية (علاقة 1:1 بين العلامة والشيء) لم تعد خيارنا، فان أي تمثيل أو تأويل لا يعكس بالضرورة الوضع الذاتي للقضايا المطروحة فحسب، وإنما يتناول التفضيلات والميول وحتى الأهواء والنزعات الشخصية لأولئك الذين ورطهم بشار عبدالله في روايته الشعرية. وهذا يعني ان المؤلف الذي عرض علينا بنياته السردية وحرضنا على تشكيل فرضيات تأويلية، لم يتمكن من تنحية تأثير اهتماماته الخاصة على ما يطرحه. تلقي الرواية الضوء على خصوصية التمثيل والتأويل، واضعة خصوصية كل شخصية بوصفها مركبة او منشأة للمعاني، كما تظهر الرواية اهتماما بالحالة الابستمولوجية للأحداث الماضية بالنسبة للاستراتيجيات التمثيلية المعاصرة. لقد طرحت الحداثة قضية ما إذا كان المؤلف وحده هو خالق النص ومبدعه (ملمحة إلى أهمية التناص وتأثيره عليه) وبالتالي فان اعتماد وجهة نظر واحدة ومتوحدة أصبح خاضعا للتشكيك والمساءلة. ومع تلاشي الموضوع الموحد الواحد، أصبح من غير المحتمل حكي قصة متماسكة. وتهتم ما بعد الحداثة تحديدا بالأبعاد السياسية لهذا التفكيك: السلطة المهيمنة. وعلى مستوى تقانات السرد قام الروائي بمحاولات عديدة لتشظية البناء السردي/ السلطوي إن لم يكن محوه تماما، موظفاً نوعا أدبيا ما بعد حداثي أطلقت عليه ليندا هتشيون ما وراء القص التاريخي الذي يتعامل مع التاريخ والتخييل بوصفهما تراكيب لغوية وإيديولوجية مُنِحت صلاحية وشرعية تستند الى وفرة النصوص السابقة. تستجوب الرواية الحدود بين التاريخ والتخييل، بل أنها تسعى لإظهار(أن التخييل هو تكييف تاريخي وان التاريخ تركيب استطرادي ونجح الروائي في توسيع النقاش عن التضمينات الإيديولوجية للسلطة والمعرفة). أعادت رواية من يسكب الهواء في رئة القمر (تقديم السياق التاريخي ومَشْكَلت قضية المعرفة التاريخية برمتها) ولفتت الانتباه الى وجود بديل للمفهوم المحدد للتاريخ بل أنها قدمت النموذج البديل لتوظيفات الحكاية التاريخية والزمن الخطي. يتبنى الروائي موقفا محددا (ضد) التاريخ بوصفه حليفا للسلطة الإيديولوجية والمؤسسة الرسمية المهيمنة . نجح الروائي في توظيف الاستراتيجيات الشكلية مثل التناص والتهكم والمحاكاة الساخرة والمفارقة التاريخية ومزج الأجناس الأدبية للوصول الى جنس هجين (الرواية الشعرية) لتحقيق نقلة من إدراك الأدب الذي ينتج تحت ظروف سياسية معينة الى الأدب الذي يستجوب السياسات التي أنتجته وهذا هو بالتحديد ما أطلقت عليه هتشيون (سياسات التمثيل). وظفت معظم الروايات التناص ـ ومنذ زمن بعيد ـ ولقد نظر إليه في السابق بوصفه تفاعلا بين القارئ والمؤلف، ذلك أن المؤلف يفترض أن قارئه على علم بتناصاته ويفترض القارئ ان المؤلف يعلم بمعرفته بهذه التناصات، ومن ثم يصبح التناص علاقة واعية جدا بين القارئ والمؤلف. وفي كتابات ما بعد الحداثة فان النص الذي لا يتأثر بالتناص أضحى في حكم المستحيل. ولكن الطرق التي تدخل فيها هذه التناصات ضمن النص لم تعد في نطاق وعي القارئ او المؤلف. وبينما كان المؤلف الحداثي يتحكم في التناصات التي يرغب في لفت نظر قارئه إليها، فان القارئ لنصوص ما بعد حداثية يترك وشأنه ليقرر بنفسه التناصات التي سيضعها في اعتباراته القرائية، ذلك أن تناول كل التناصات في نص ما أصبح مستحيلا. ومن التداعيات الأخرى لتوظيف ما بعد الحداثة للتناصات هو استجواب طبيعة أي نص بوصفه وحدة متكاملة لان التناصية تشظي النص الى تشظيات مختلفة على القارئ ان يعيد تجميعها بحرية تامة. تبنت ما بعد الحداثة تقانة المرجعية الذاتية من الحداثة، وهناك عدة طرق يلمح النص الما بعد حداثي بها الى نفسه، ولكن خصوصية المرجعية الذاتية الما بعد حداثية تتجلى في التركيز على سياسات التمثيل وتتضح في المساءلة المتكررة لتوظيفات وحالة كل نص. يحشد بشار أسماء لشخصيات تاريخية ومعاصرة وأسطورية ومعاصرة معا فمثلا:

/ مروا بالأبراج الاثني عشر واكتشفوا أبراجا أخرى: برج التوسيرام والأرقام المدقوقة وأسمهان خوري، وروزي عبده، وحسرات أخرى مثل فاطمة بن حوحو ودليلة بن مراد، ونشوى، وليليان اندراوس، ورندة جدعون .. مرّوا بها وورموها بهموم الأبناء… / الرواية.

فإذا كان القارئ لا يعرف شيئا عن الشخصيات التاريخية، فانه حتما يعرف الكثير عن الشخصيات المعاصرة ولا شك في انه سيبحث عن العلاقة او الروابط الخفية التي جعلت الروائي يقوم بحشدها معا في فعل واحد او في مكان واحد. يتضاعف التعقيد بالنسبة للقارئ حين يكون مكان تجمع هذا الحشد معروفا له وموجودا في واقعه المعاصر. يقع القرء في حيرة التخيل والتناص والعناصر الحقيقية التي تضخم وتفسد انطباعه بالواقعية في ان معا. تضع العناصر التناصية الفعل في الرواية ضمن سياق تاريخي مناسب. أما على المستوى الحقيقي او الواقعي فان حشد شخصيات تاريخية وواقعية معاصرة يعد انتهاكا لمعيار الحقيقة، الأمر الذي يعزز احتمالية حدوث النص الروائي التخيلي خاصة إذا كان النص ما وراء القص التاريخي. وهذه لا تبتعد كثيرا عن مفهوم بودريلارد عن التزييف simulacrum الذي حدده بأنه إبدال الحقيقي بما هو أكثر حقيقية. هذه الإستراتيجية التزيفية وجدت مكانها في ما وراء القص التاريخي ولربما كانت احد أهم مكوناته وكانت وظيفتها تجسير الهوة التي تفصل القارئ المعاصر عن العصر أو الزمن الذي ينطوي على مفارقة تاريخية مع الواقع المعاصر والذي وظفه الروائي لأغراض واستراتيجيات خاصة. وتبعا لذلك يصبح التناص ـ الذي تجاوز المحاكاة الساخرة والمزيج ـ وظيفة تحقيق الإدراك في صورة موجهة للقارئ بدلا من توجهها نحو الشخصية. ان توظيف التناص في الرواية يطابق نظرة هتشيون لكتابات ما بعد الحداثة التي تتورط مع التناص ثم تنتقده. التورط معه بمعنى ان التناص يساعد في إضفاء انطباع متماسك وواقعي وانتقادي لان التناصات تكشف الطبيعة التخيلية لأجزاء النص الأخرى. وبهذه الطريقة فان التناص يضرب مثلا على المشكلة المعرفية التي تميز ما وراء القص التاريخي والتي هي بحد ذاتها مثل على التشارك والنقد في ان واحد. في السابق كانت القصص الكبرى Grand Stories أو النظريات الإنسانية الكبرى تعرض المعرفة بمصطلحات محددة. لم يستجوب أحد الدين، أو الدولة، أو الوضع الراهن. وإذا كان لدى الناس بعض الأسئلة المعرفية، فان كل ما عليهم فعله هو الرجوع إلى دينهم وحكومتهم، والرأي العام.. لكن بشار عبد الله في روايته يعارض هذا التوجه المعرفي ويساءل منظومة القصص الكبرى ممثلة في الآلهة والأديان والأنبياء والفلاسفة والحكماء وأصحاب السلطان الذين حشدهم بوصفهم منظري ” القصص الكبرى” : / الفيدا والاوبانيشاد، في الايتشنغ، في / النيرفانا، في التوراة، في الاناجيل الثمانين، في حاويات الزيت المقدس، في فقه السنة وفقه الكلام وفقه المرُاباة)../ الرواية

 يتساءل بشار:

/ ماذا فعلت بي؟ لماذا قطعت علي الطريق المفضي الى صهيل إلهكِ الشائخ؟ هل كان آريا إلهك فخفت على لكنته من لطمات البرق؟ وأنت يا إلهاها، أين كنت عندما جف حلق الكلام وأنا أحدثها عن العقل ساعة يحلق عاليا في سماوات العقد ويقطف من أفلاكها حكمة الاوهام. اين كنت عندما تكور على خجله الخجل وهو يحدثها عن الظلمات السبع المتدفئة بين وركي المعرفة؟ ام كنت تسبح هناك، في نبع أولئك الذين وخطوا الموت بالفناء واحتجزوا الأبدية في حصالاتهم؟ ها أنت ذا ترانا نغطي وجه الخلود بشمس حارقة وقمر خجول وجهل معبود دون ان ندري الى اين ستفضي بنا خرائط الكتمان./ الرواية

 يستجوب بشار سلطة الدولة /النظام الذي يوظف مفهوم النهايات السعيدة باعتبارها وسائل لصرف الناس عن استيائهم من تجربة الحياة اليومية. و يمكننا القول أن حضور دايانا ودودي الفايد في الرواية كان انطلاقا من هذه النقطة تحديدا، فالنظام الزائف لم يوفر لأميرته ـ التي مثلت فضاء استطراديا مثقلا بالرموزـ نهاية سعيدة، كما أنه لم ولن يوفر للمؤلف الذي تماهى مع دودي أو (لأي منا/ نحن القراء) نهاية سعيدة أيضا. إننا نعيش وهم السعادة او نقضي حياتنا نطارد هذا الوهم كما تريد لنا السلطات الحاكمة: /أنا الوهم المنتشر كدم ادم في ثياب البشر.

انا دودي .. دودي .. دودي فأعيدي الي الحقائق يا ساعتي المستنكرة وهمي، اعيدي دقائقي وخذي ساعاتك الصاخبة….. أنا دودي … دودي .. دودي .. ومع ذلك كانت الغرامةُ أن أدفعَ حُضرةَ أياّمي لكائن الحرب الشره أبداً .. هذا ما أعلنتهُ أيضاً للزنابق البرّية، إذ وجدتُ من المستحيل أن أعيش الحُزنَ وحيداً، وحين تلفّتُ حولي، إثر دويًّ غريب، فتحت لي المتاهةُ بوّاباتها ونوافذَها ودعتني للدخول./ الرواية

 يقودنا ذلك الى اشتغال ما بعد حداثي آخر وهو الوجودية في مقابلة المعرفة الحداثية. يوضح ماكهيل ذلك ” عندما يذهب الاستجواب المعرفي إلى مابعد عالم التفسير الكبيرBig explanation وينقلب حرفيا إلى تشكيك وجودي، عندها تكتسب ما بعد الحداثة زخما”. يعرض بشار هشاشة الوجود الإنساني والعشوائية والمفارقة، في مواجهة الخلود والسيطرة والعقلانية ويمكننا ان نتلمس ان هذه الثنائيات ـ متصارعة او متوافقةـ في قلب روايته: /أشقُّ طريقي في فكرة الموت التي تخشاها، وأتذكرُّ كل شيء .. دودي الأول، ولهفتي عليه في نفق باريسي……. وتبقى خلف النافذة تتلمظ الى مشهد غريب. تعبُّ عرقك الممزوج بي وتفتح النافذة لا لتُنقذني، بل لتخُذلَ الموت في ذروة الانتصار./ الرواية

لا يفترض بشار الذي يمارس التشكيك الوجودي في روايته وجود شرح أو تفسير، كل ما يفعله هو محاولة استجواب مكانه في عالمه المدرك. بدوره يخلق هذا التشكيك توترا دون شك إلا أن الشيء نفسه يحدث في التجريب الشكلي (الرواية الشعرية) التي وظفها بشار عبد الله ليمارس ببراعة استجواباته المتعددة المستويات فلا عجب إذا ان تكون الرواية برمتها من عتبتها الى نهايتها أسئلة بلا إجابات وبدايات لا نهاية لها. من الواضح إذا ان الاستراتيجيات التمثيلية الموظفة في الرواية بعيدة كل البعد عن البساطة والمباشرة. من الواضح في بعض الأحيان ان ما تعتقد به الشخصية واقعا لم يكن أكثر من تحيزها وتحاملها الشخصي بدلا من كونه حقيقة واقعة ويمكننا أن نضيف أيضاً ان بشار عبد الله أكد لنا أن نقد التمثيل ممكن، لان هؤلاء الذين يمثلهم لهم أهداف معينة واتفاقيات وتحيزات. ومن حيث كون الرواية حالة ما وراء قص تاريخي، فان النقد التمثيلي يتوسع ليشتمل على أسئلة من نوع: كيف يمكن ان تنقل انطباعات واقعية عن الماضي الى قارئ معاصر؟ الفرضية المباشرة هي انه إذا كان القارئ مطلعا على النصوص القديمة، فانه سيحصل على صورة خاطئة لأنه يقرأها بعقل القرن الواحد والعشرين. لكن توظيف الروائي للمفارقة التاريخية ساهم في الحصول على انطباع واقعي لدى القارئ المعاصر، ولم يكن هدف هذا التوظيف تدريس الماضي والإعلام عنه، وإنما لتمثيل موقف التوريط والانتقاد الذي عدته هتشيون أهم سمة لما بعد الحداثة. لا يمكننا موضعة المؤلف في مكان واحد. وعندما يُموضِع مؤلف الرواية نفسه ضمن النص فانه لا يسمى، ولكن (بشار عبدالله) أصبح شخصية في روايته،

/ الهي المستوي على العرش بكيفية الفضل واللطف أغثني، أنا الغريق في غمر الجسد أنا بشار عبد الله الذي أقرئ العالم السلام والمحبة/ الرواية

 ولذلك فإننا مضطرون إلى محاكمة سلطته التأليفية بوصفه أصل النص وأصل معناه. لا يمتلك المؤلف بصيرة سرية، على الأقل ليست أكثر من التي يمتلكها أي شخص في قراءة النص، لذا فان رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر) تظهر نقص السلطة فيما يتعلق بالمؤلف. وكيف أن المؤلف لا يجب أن يحتفظ بسلطة خارج النص وداخله في وقت واحد. في كتابه : ما هو المؤلف؟ يقول “فوكو”: اسم المؤلف ليس…… خيالي ” ولكن ظهور رواية ما بعد الحداثة ـ التي وظف بشار تقاناتها في (من يسكب الهواء في رئة القمر) ـ جعل هذه العبارة مليئة بالنقائص. لا نقصد بالطبع ان المؤلف بحالته الوجودية وبوصفه جسدا قد أصبح خياليا، ولكن ما نعنيه هو أن اسم المؤلف أصبح مفرغا في قالب روائي: ثنائية جديدة تنضم الى الثنائيات التي تستجوبها الرواية. وعندما تتوغل القراءة في النص، فان شيئا حيويا ومزعجا يحدث. المؤلف يكون خيالا مرة ولا خيالا مرة أخرى. كما أن القارئ يكون خيالا ولا خيالا دفعة واحدة. ونفس الأمر بالنسبة للقراءة ـ العملية ذاتها. إنهم يتواجدون ضمن النص وخارجه، وعلى حافتي النص من كلا الجانبين، العلاقة بين المؤلف، والقارئ، والنص تظهر بوصفها تفاعل تذبذباتهم الذاتية: العلاقة بين المؤلف والقارئ والشخصية ليست اختزالية، إنها تفاعل لطيف يبرزالشخصيات بوصفهم قراء وكتابا لنهايات نصهم الذاتي:

/ يا يقظة الأشكال والألوان والأذواق والعطور والصور، يا سبات الحكمة والبصيرة والحدوس، أفيقي جميعا في تلك الرغبات النائمة كي نعبر معا الى ما وراء الخدود والنار والريح والسعادة أفيقي واقرأينا، نحن الدفاتر،….. ثم أني بقيت اقرأ وافهم كأي حمار يقرأ ويفهم ….. تصفّحتُ أسفار عدداً.. عدداً، مُنذ أختفائِكِ، وكثيراً ما توقفتُ عند باب الأفوه الأودي أقرأه حرفاً حرفاً، وأقلبُ الصفحة الثانية لأتكّهن صورتها في المربع الفارغ../ الرواية

وبنهاية الرواية، نجد رواية (جنسية)  في موضوعها ,ترتكز على رواية (أو روايات تاريخية)، تنكر حقيقة أي معنى أو حل لسؤال من يسكب الهواء في رئة القمر؟ لا يمكن أن يكون الرد على هذا السؤال من خلال النص. انه يترك للقارئ لتأويله وتفسيره. النص يوجد ليكون متعدداًـ غير قابل للاختزال. يستخرج النص الأفكار الرئيسية من القدر والإرادة، بدون أن يحدد خيارا مطلقاً، انه لا يتعامل مع ثنائية إما/ أو، ولكنه يقول إن المعنى بتمامه يتواجد في هذه المساحة الرمادية. النص يعري القارئ، تماما مثلما يعري الكاتب، أمام حياته الخاصة. وبوساطة تحرير وإعادة كتابة النقاط الأقل إرضاء، يثبت بشار عبدالله أن النص ليس مكانا للامان أو الاستقرار وأن القراءة ليست هروبا من عالم فوضوي لا معنى له، لكنها إدخال في عالم آخر. وأن القارئ كائن ومتحول معاً تماما، كما أن النص شيء وعملية. إننا نجد الجمال في هذه المتجاورات، في هذه المساحات من الحركة واللا- استقرار. أن تقرأ يعني أن تتغير، أن تجعل شيئا ما جديدا، سواء أكان هذا الشيء النص أو القارئ أو القراءة نفسها.

 

......................

هوامش:  * بشار عبدالله  :شاعر، و روائي، و صحفي، ومترجم عراقي يقيم في دمشق . في العام 2007 صدرت له روايته (من يسكب الهواء في رئة القمر) عن دار الأديب في عمّان  وهي الرواية التي سبق أن فازت بجائزة الاستحقاق في الرواية العربية للعام 2005 ضمن جوائز مؤسسة ناجي نعمان الأدبية ببيروت.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم