قضايا وآراء

قرار تقسيم فلسطين: بين تشريع التهجير القسري ومأسسة العنصرية

الذي يقضي بتقسيم أراضي فلسطين الانتدابية إلي دولتين، فلسطينية  على 45% من الأرض  ويهودية على 55% من الأرض، وعلى أن تكون القدس والأماكن المقدسة تحت الوصاية الدولية . وعندما أعلنت النتيجة انسحب المندوبون العرب من الاجتماع وأعلنوا في بيان جماعي رفضهم للخطة واستنكارهم لها، ورفضت الزعامات العربية، باستثناء زعماء الحزب الشيوعي خطة التقسيم، ووصفتها بالمجحفة بحق الأكثرية العربية, كما رفضتها الجماهير العربية في فلسطين وخارجها، وجابت المظاهرات المنددة بالقرار شوارع العواصم العربية .

أثار القرار جدلا قانونيا وسياسيا وأخلاقيا حادا على الصعيدين العربي والدولي في حينه، وما زال موضع جدل ونقاش حتى يومنا هذا. تعاقبت الأحداث بعد توصية التقسيم، وتوسّعت إسرائيل على الأراضي التي استولت عليها في نزاعها مع العرب حتى تمكنت من السيطرة التامة على كامل فلسطين الانتدابية. الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن القرار كان  ـ استنادا الى ما آلت إليه الأمور فيما بعد ـ فرصة ذهبية ضيّعها العرب المتهمون بأنهم " لا يفوتون فرصة إلا لتفويت فرصة " . ذلك ان القرار من وجهة نظرهم،  يعني قيام دولة فلسطينية معترف بها  دوليا على مساحة اكبر مما تطالب به القيادة الفلسطينية المفاوضة اليوم. ويقولون:  كان من الممكن أن يبقى هؤلاء الفلسطينيون الذين أصبحوا لاجئين في ديارهم بسلام, وأن تحتفل دولة فلسطين المستقلة هذا العام بالذكرى الثانية والستين لاستقلالها،   و أن يكون كل شيء جميلا ولطيفا وإنسانيا فقط لو أننا قبلنا بقرار التقسيم.

ولكن ماذا لو أننا فعلنا ؟  هل كان من شأن ذلك أن يعني العيش بسلام في دولة منذ 1948؟ .

 الإجابة ـ من وجهة نظري ـ هي لا. بل أنني استغرب وعي القيادات العربية ومقاومتها للضغوط والإغراءات ـ الأمر الذي لم نعتد عليه ـ حين رفضت قرار التقسيم بالإجماع. 

يعني الاعتراف بقرار التقسيم اعترافاً بالدولة اليهودية وشرعية يهوديّتها، لأن قرار التقسيم لم يعتمد على حق تقرير المصير لليهود ـ فنحن نعترف بحق الشعب اليهودي الذي لا يمكن إنكاره في العيش في أي مكان , في أي مكان على هذا الكوكب، والتمتع بحقوق الإنسان ـ  ولكنه اعتمد على شكل تقرير المصير لليهود ممثلاً بالدولة اليهودية.

والنتيجة هي تشريع عملية تهجير قسري واسعة النطاق في المناطق التي منحها قرار التقسيم "لليهود " على أساس هويتهم الدينية فحسب. و على الرغم من ان القرار تضمن الإشارة الى عدم ترحيل السكان المقيمين في أي من الدولتين الموعودتين ، إلا أن ذلك لم يكن إلا من قبيل تجميل  القرار الظالم . إذ من المستحيل تطبيقه من الناحية العملية. ذلك أن "دولة يهودية" ستكون دولة يديرها اليهود ولليهود، وستعمل الدولة وفق مصالحهم.  وتبعا لذلك  فان من حق هذه الدولة طرد من هو غير يهودي من أراضيها ـ تحت ذريعة الأمن مثلا ـ  حتى وان كان صاحب الأرض الفعلي منذ الاف السنين . وسندرك حجم الكارثة  إذا ما تذكرنا بان اليهود لم يشكلوا أغلبية إلا في قضاء واحد هو قضاء ( يافا ـ تل أبيب ) من بين الاقضة الستة عشر التي كانت تمثل فلسطين الانتدابية والتي  خصص قرار التقسيم تسعة منها للدولة اليهودية،  أما في الأقضية الثمانية الأخرى فكانت نسبة اليهود على التوالي هي: أقل من (1%) في  بئر السبع و(13%)  في صفد، و(16%) قي الناصرة، و (17%) في طولكرم،  و(22%) في الرملة، و(30%)  في بيسان، و(33%) في طبرية، و (47%) في حيفا .  وكانت الغالبية الساحقة من الجماعة اليهودية في فلسطين تقطن في ثلاث مدن هي : حيفا، وتل أبيب، والقدس في حين كانت تشكل أقليات خارج هذه المدن(2) . وتبعا لذلك فان تطبيق القرار لن يتم إلا بترحيل آلاف البشر من أراضيهم طواعية كما كان من المؤمل لو وافق العرب وعنوة كما حدث بعد ذلك.

ومن الناحية القانونية فان أقصى ما كان يحق لليهود ـ كونهم اقليه على الأرض ـ  هو  تطبيق إحدى الوسائل التي حددها العمل الدولي لحماية الأقليات  والتي يمكن حصرها في       أ ـ اتفاقيات حماية الأقليات: والحماية التي تتضمنها تلك الاتفاقيات والتصريحات هي حماية الحياة، وضمان الحرية الفردية والحرية الدينية، والمساواة المدنية والسياسية واحترام ذاتية الجماعة المعينة بالسماح لها بحرية استعمال لغتها، وبحقوقها الخاصة في الأمور الثقافية والتعليمية .

ب ـ  نقل الأقليات عبر إجراء اتفاق ولكنه إجراء مؤلم لا يجوز الالتجاء إليه إلا في الضرورة القصوى، ومن أمثلة ذلك بروتوكول القسطنطينية اليوناني البلغاري في 16-29 سبتمبر 1913م (3) .

 وبناء عليه فان قرار الأمم المتحدة بتقسيم البلاد بين سكانها الأصليين والأقليات القادمة من شتى أصقاع الأرض لا تجمعهم لغة واحدة ولا تاريخ مشترك، مما يعني أنهم لا يمتلكون مقوم من مقومات تكوين الأمة، ولا أي عنصر من عناصر القومية، ولا  إقليم يجمعهم أو يجمع غالبيتهم حتى يطالبوا بأن تصبح لجماعتهم دولة على زعم أنهم أمة، قرار باطل بطلاناً مطلقاً في القانون الدولي التقليدي والمعاصر، وكذلك  في ميثاق الأمم المتحدة وكافة القرارات والاتفاقيات والمواثيق الدولية       .

 ولقد منح القرار لليهود والذين كانوا يشكلون أقل من ثلث السكان ويستوطنون أقل من 6% من الأرض عشرة أضعاف ما كانوا يستوطنون. هذا  فضلا عن أن الأراضي الممنوحة للدولة اليهودية اشتملت على أخصب أراضي الساحل الفلسطيني الممتد من عكا إلى أسدود. أما الفلسطينيون أصحاب الأرض، فقد ترك لهم المناطق الجدباء المقفرة ما يعني ان  الأمم المتحدة حتى في خرقها للقانون الدولي لم تعر مبادئ العدالة أي اعتبار.

إن عدم قانونيـــة القـــــرار وافتقاره لأبسط قواعد العدالـــة، لا يعطــــي ولا حتى للفلسطينيين أنفسهم، أو ممثليهم، أي حق بالاعتراف بالقرار" 181" . ذلك أن الاعتراف الباطل بقرار باطل لا يجعله قانونيـــاً.

لقد تسبب القرار المشئوم في  أقذر عملية تهجير قسري  في التاريخ .  لم تكن الدولة اليهودية لتقوم من دون اقتلاع الاف الفلسطينيين،  فطالما ان الدولة اليهودية شرعية حسب الأمم المتحدة  فانه لا خيار آخر سوى (تنظيف) مناطق الحدود والمحاور الرئيسة من غير اليهود  كما يقول المؤرخ الصهيوني بيني موريس (4) . بل انه يذهب ابعد من ذلك حين يقول ان بن غوريون اقترف خطا تاريخيا جسيما عام 1948  عندما طرد عربا اقل من اللازم . فلو أنه قام بعملية طرد كاملة  لكل العرب من كل (ارض اسرائيل!!) حتى نهر الأردن لكان جلب الاستقرار لهذه الدولة لأجيال عديدة لكنه أبقى مخزونا ديموغرافيا كبيرا ومتفجرا في الضفة الغربية وغزة  ـ لاحظوا أن الأمر ابعد من قرار التقسيم وال54%  التي منحها لليهود ـ وداخل اسرائيل نفسها . لم يكن الهدف إذا هو التقسيم، بل دولة يهودية على كامل فلسطين الانتدابية تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة  وبموافقة الدول العربية بالإجماع على هذا القرار وإلا فان العرب شعوب عدوانية غير متحضرة تريد رمي اليهود المضطهدين الناجين من المحارق والرزايا في البحر .

يؤكد كلام موريس حقيقة أن  الحركة الصهيونية قد وضعت  هدفا لها إقامة وطن قومي لليهود على كل  فلسطين،  وحين أدركت عام 1946 ان ليس بإمكانها إقامة دولة يهودية على كامل أراضي فلسطين، اتخذت  قرار إنشاء دولة يهودية على جزء من فلسطين، في أي منطقة باستطاعتهم إنشاء أغلبية فيها حتى ولو عن طريق القوة وسعوا الى تقسيم فلسطين  كخطوة مرحلية يتواصل بعدها النضال اليهودي للاستيلاء على كامل فلسطين وطرد كل سكانها. فقد أعلن بن غوريون في حزيران/يونيو 1938، في كلام أمام قيادة الوكالة اليهودية، بشأن اقتراح آخر لتقسيم فلسطين، عن نيّته في إزالة التقسيم العربي اليهودي والاستيلاء على كلّ فلسطين بعد أن تقوى شوكة اليهود بتأسيس وطن لهم.

وفي بث إذاعي  في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، صرّح مناحيم بيغن،الذي كان في ذلك الحين أحد زعماء المعارضة في الحركة الصهيونية، عن بطلان شرعية التقسيم، وأن كل أرض فلسطين ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد .

يقول موريس ان عملية الترحيل الكامل قادمة لا محالة ليس الآن  لان العالم لن يسمح بذلك ولكن ـ والكلام لموريس ـ   في ظروف ابوكاليبتية ( أُخروية)  يمكن ان تتحقق خلال خمسة الى عشرة أعوام .  ويتابع موريس " بوسعي ان أرى عمليات  الطرد ان توفر سلاح نووي !!  حولنا او وقع هجوم شامل علينا  وفي حالة الحرب  ستكون عملية الطرد معقولة تماما ومن الجائز ان تكون إلزامية " .

فهل يمكننا الآن ان نضع معركة السلاح النووي الإيراني والمعركة التي تدعي اسرائيل ان سوريا وحماس وحزب الله يعدون العدة لها في هذا السياق؟ وهل نحن بانتظار إكمال تطبيق قرار التقسيم الذي يتباكى عليه بعض العرب فيما تتخذه اسرائيل ذريعة لتبرير جرائمها بحجة الدفاع عن "يهوديتها"  المقررة دوليا والتي لم يتأخر عن شرف الاعتراف بها سوى العرب قصيري النظر وعديمي الحكمة ومضيعي الفرص؟.  

قد يقول قائل ان الأمر قد تحقق  بالقوة و بقبول العرب او بعدمه وأنهم الآن يفاوضون دون نتيجة مرتقبة على مساحة اقل من تلك التي منحها لهم قرار التقسيم وانه قد جرى تهجير الفلسطينيين ومن غير المحتمل ان تتم عودتهم الى فلسطين في المستقبل المنظور، وان حل الدولتين المقبول دوليا هو تجسيد أكثر إجحافا وظلما  لقرار التقسيم . وأقول ان كل ذلك حقيقة ولكنها تختلف عن تشريع ومأسسة العنصرية والتهجير القسري والإبادة الجماعية والترحيل التي ينطوي عليها تقسيم الأرض على طريقة القرار: دولة عربية للسكان الأصليين الموجودين في المنطقة منذ الاف السنين ودولة  تُمنح (هكذا)  لكل من يدين باليهودية من أي عرق او جنس او بقعة على الأرض . فإذا حدث ذلك بالقوة في فترة تاريخية ما فلا يعني أبدا شرعيته او أخلاقيته او قانونيته . وتبعا لذلك فان قيام اسرائيل العنصرية بطرد الاف الفلسطينيين الذين يمتلكون الأرض ما زال جريمة دولية وأخلاقية وإنسانية لم تكتسب أي شرعية أخلاقية او دولية الأمر الذي ألزم الأمم المتحدة باستصدار القرار 149 الذي  يوفر الأساس القانوني الذي ينص على حق اللاجئين في العودة و على حقهم في التعويض كذلك عن فقدان الممتلكات و الضرر .

 ينطوي القرار على جانب آخر لا يقل ظلما وإجحافا ولا قانونية عما سبق حين يضفي على العنصرية شرعية  قادت في النهاية إلى مأسستها في دولة إسرائيل الساعية الى تكريس يهوديتها على كامل المساحة الانتدابية بل وخارجها إذا لزم الأمر  .

واستنادا إلى الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، فان التمييز العنصري هو "أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو ألاثني، والذي قد يكون غرضه أو أثره إلغاء أو إعاقة الاعتراف، أو التمتع أو ممارسة، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، على قدم المساواة، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة" . وإذا ما أراد المرء أن يكون صادقا في ما تعنيه الصهيونية وما تدلل عليه، فان هذا البيان هو  تحديد دقيق للصهيونية التي حاولت وما زالت شرعنة ممارساتها العنصرية ضد من بقي من السكان الأصليين استنادا الى قرار التقسيم الذي أقر بيهودية الدولة  وجعل الظروف "سليمة "  لإنشاء دولة  الأغلبية اليهودية مع أقلية فلسطينية . هذه الأقلية  ليست كبيرة بما فيه الكفاية لتهديد الأغلبية اليهودية في إسرائيل، ولكنها تواجه معوقات التمييز الذي  ينظر إليه  الغرب على انه مؤقت، انتهاؤه مرهون فقط  باستعداد العرب  لتقبل وجود إسرائيل كدولة يهودية .

وكلما زادت إسرائيل من مصالحها  في الأراضي المحتلة، وكلما تضخم عدد المستوطنين الإسرائيليين، والمستوطنات الإسرائيلية، والطرق للإسرائيليين  فقط , وكلما كانت البنية التحتية التي لا تفيد إلا اليهود فقط  تصادر المزيد والمزيد من الأراضي، يصبح من غير  الممكن تجاهل العنصرية الداعمة  للإيديولوجية الصهيونية التي توجه هذه المشاريع. ومن الواضح الآن أن سيطرة  إسرائيل على الأراضي المحتلة، كان وعلى الدوام، حملة لتأكيد السيطرة اليهودية الخالصة، وترويض الفلسطينيين لحملهم على الخضوع وحشرهم  في قطع منفصلة تزداد  صغرا  من الأرض، وإذا لم ينجح  ذلك، إجبارهم على مغادرة فلسطين برمتها. ومن الواضح تماما لأي شخص يمضي بعض الوقت في فلسطين المحتلة  أن قوة موحية هي وراء سياسات هذه الحكومة  جميع الحكومات الإسرائيلية في الماضي في إسرائيل وفي الضفة الغربية المحتلة،  وفي غزة، والقدس الشرقية كان هناك دائما التصميم على  هيمنة  اليهود على  الفلسطينيين. هذه السياسات لا يمكن وصفها إلا بأنها عنصرية .

وإذا كنت في فلسطين، يمكنك أن ترى الصهيونية جسداً مطبوعا على المناظر الطبيعية. يمكنك أن ترى أن هناك مستوطنات، مبنية على أراض صودرت من الفلسطينيين، حيث لا يجوز للفلسطينيين العيش عليها. و يمكنك أن ترى الطرق في الأراضي المحتلة، ومرة أخرى مبنية على أراض أخذت من الفلسطينيين، ولا يمكنهم السير عليها. ويمكنك أن  تلاحظ أن المياه في الأراضي المحتلة  مخصصة ، من جانب السلطات الحكومية الإسرائيلية، بطريقة غير عادلة حيث يحصل المستوطنين الإسرائيليين على  خمسة أضعاف نصيب الفرد الفلسطيني، وفي فترات الجفاف، يقف الفلسطينيون في طوابير  للحصول على  مياه الشرب في حين أن المستوطنات الإسرائيلية تتمتع بحدائق  معشبة وحمامات السباحة. و يمكنك الوقوف مكتوف الأيدي كلما قامت الجرافات الإسرائيلية  بتجريف بساتين الزيتون الفلسطينية وغيرها من الأراضي الزراعية، وبتدمير الآبار الفلسطينية، وبهدم المنازل الفلسطينية لإفساح المجال لبناء الجدار الفاصل عبر الضفة الغربية طولا وعرضا . الجدار  الذي يفصل  الفلسطينيين عن  الإسرائيليين، و يفترض أن  يوفر قدرا أكبر من الأمن للإسرائيليين ولكنه  في الواقع من اجل حشر الفلسطينيين في قفص،  ومن اجل تحديد حدود  إسرائيل  اليهودية التي من شأنها أن تستبعد اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ؛ لأنهم ليسوا يهودا فحسب.

ولكن  إذا كان هذا لا يكفي للبرهنة على العنصرية المتأصلة للاحتلال الإسرائيلي ، فانه يمكنك أيضا التجول في  المدن الفلسطينية وأحيائها في القدس وضواحيها  لترى  ما ربما يكون الأكثر قسوة في ترسانة السياسة العنصرية الصهيونية : هدم المنازل، الرمز البارز للصهيونية في سعيها  للحفاظ على السيطرة اليهودية. تقريبا في كل شارع هناك  منزل أو منازل تحولت  إلى أنقاض، وهبطت طوابقها واحد فوق الآخر، أو تحولت إلى  مجرد كومة من كسر وتراب.  لاحظ جيف هالبر (5)، مؤسس ورئيس مجلس إدارة المنظمات غير الحكومية واللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل (ICAHD)، و العالم في علم الإنسان والمختص بالاحتلال،  أن الصهيونية وقادة إسرائيل وعلى مدى ثمانين عاماً قد نقلوا  ما يسميه "الرسالة" إلى الفلسطينيين. الرسالة،  يقول هالبر ، هي "اخضع . فقط  عندما تتخلى عن أحلامك الخاصة من اجل إقامة دولة مستقلة، وتقبل أن فلسطين أصبحت ارض إسرائيل، فإننا سنلين  [أي نوقف الهجوم على الفلسطينيين]. " المعنى الأعمق للرسالة، هو ما تقوم به  الجرافات الموجود في كل مكان باستهداف الأحياء الفلسطينية اليوم: أن "عليكم  أيها [الفلسطينيون] أن لا تنتموا إلى  هنا. ونحن اللذين  اقتلعناكم  من منازلكم  في  1948  سنقوم الآن سنقوم باقتلاعكم  من كل ارض إسرائيل. "

 يعدد هالبر باطراد تاريخ التدمير  حين يقول : في السنوات الست الأولى من وجود إسرائيل، هدمت إسرائيل بمنهجية 418 قرية فلسطينية داخل (إسرائيل )، تماما 85 % من القرى الموجودة قبل 1948؛ ومنذ بدء الاحتلال في 1967، هدمت إسرائيل  11000 من البيوت  الفلسطينية. بيوت أكثر  هدمت لإفساح الطريق أمام  "الجدار العازل. ومن المقدر أن أكثر من 4000 منزلا قد دمرت في خلال الأعوام القليلة الماضية .

الغالبية العظمى من هذه المنازل  المهدومة، 95 %، ليس له علاقة بمكافحة الإرهاب، ولكن  العملية مصممه خصيصا لتهجير غير اليهود، وتأكيد الصهيونية . في القدس، و منذ بداية احتلال الجزء الشرقي من المدينة في 1967،  صممت السلطات الإسرائيلية  خطط التخصيص تحديدا لمنع نمو السكان الفلسطينيين.  وقد تطلب الحفاظ  على "الطابع اليهودي" للمدينة على ذات  المستوى القائم في 1967 (71 ? من اليهود و 29 % من الفلسطينيين) تخصيص الأرض و  تقسيم الحدود لمنع الفلسطينيين من  التوسع خارج الأحياء القائمة، ومصادرة الأراضي المملوكة للفلسطينيين، ومصادرة تصاريح الإقامة في القدس من أي فلسطيني لا يستطيع إثبات أن القدس هي "مركز الحياة،" بالنسبة له . وتنتهج الحكومة الإسرائيلية  سياسات ضد الأقلية البدوية فيها، إذ تشبه إلى حد بعيد ممارساتها في الأراضي المحتلة. فقد تم توطين هؤلاء السكان  قسرا وحشرهم في  مناطق صغيرة في النقب، ومرة أخرى لإجبارهم على النزوح، ويعيش نصف البدو في النقب، في قرى لا تعترف  بها الحكومة الإسرائيلية ولا تقدم  لها أدنى الخدمات.  ان كل منزل لبدوي في قرية غير معترف بها مهدد بالهدم  , كما أن  جميع المنازل، لمجرد وجود البدو فيها ، هي رسميا غير قانونية.

مشكلة 'القرى غير المعترف بها " للبدو ليست سوى دليل جزئي على وجود السياسة العنصرية التي سادت في إسرائيل منذ تأسيسها عنوة .  فبعد  أن اطمأن الزعماء الصهاينة  / الإسرائيليين  إلى أن غير اليهود (أي الفلسطينيين)  الذين كانوا يشكلون  اغلبيه سكان فلسطين (اغلبيه الثلثين في ذلك الوقت) قد طردوا من المشهد في عام 1948،  قامت الحكومات الإسرائيلية بمأسسة الأفضلية لليهود بموجب القانون . وبوصفها الدولة اليهودية كما أراد قرار التقسيم فان إسرائيل حددت نفسها دوما بأنها دولة اليهود و ليس بوصفها دولة مواطنيها اليهود والفلسطينيين، ولكن دولة جميع اليهود في كل مكان في العالم.تضمن مؤسسات الدولة حقوق اليهود فقط وتوفر المنافع لهم. ويمنح قانون العودة الجنسية تلقائيا لليهود من إي مكان في العالم، لكن دون غيرهم من الناس وتحديدا أولئك الذين  عاشوا على الأرض منذ الاف السنين .

فكرة أن إسرائيل (الدولة اليهودية / الصهيونية) لها الحق في امتلاك الأرض، أو الحق الأكبر  في الأمن، أو الحق في الحصول على قدر اكبر من اقتصاد مزدهر، أكثر من الناس الأصليين على هذه  الأرض هي غاية العنصرية ولكنها لا تختلف كثيرا عن مبررات نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب إفريقيا و عن الأساس المنطقي لجميع النظم (العنصرية)  للاستعمار الأوروبي  التي استغلت  الموارد البشرية والطبيعية لإفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا على مدى قرون وفقط  لصالح المستعمرين. العنصرية لا بد أن تكون بالضرورة عمياء بفسقها وفجورها،  وإلا فان تأنيب الضمير سيكون عظيما جدا. والحل الذي أرادته تفاهة البشر هو نزع اعتراف الضحية بشرعية التهجير القسري والممارسات العنصرية ضدها حتى ينام المجرمون ملء جفون مجلس الأمن وهم يلتحفون القرارات الدولية ويحلمون بالمزيد من الأفضلية لهم  والظلم  لغيرهم . 

لقد مثل قرار التقسيم سابقة خطيرة في القانون الدولي , فخلافا للفلسطينيين , لم  يحدث ان طُلب من سكان البلاد الأصليين أن يعترفوا  أبدا " بالطبيعة العنصرية السافرة  "  لحكومات بلادهم أو بشرعية جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتطهير العرقي  بحقهم حتى وان انتصر المحتل أو المستعمر وتمكن من ذلك , ولم يطلب منهم مغادرة أرضهم وممتلكاتهم طواعية وتقديمها لغزاة ومحتلين ليصبحوا دولة شرعية ويتحول هؤلاء بصورة شرعية أيضا الى لاجئين ومهجرين او مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم الأصلية . وعدّت تلك رؤية  عنصرية فجة لا يمكن قبولها . ويمكن عدّ جنوب إفريقيا أنموذجا في هذا السياق، إذ لم يطلب من  سكان البلاد الأصليين الأفارقة الاعتراف  أبدا " بالطبيعة البيضاء"  للبلاد . ولم تكن فكرة تعريف البلاد بأنها " بيضاء وديمقراطية"  في الوقت نفسه مقبولة من قبل المجتمع الدولي ـ الذي يكيل بمكاييل عدة حين يتعلق الأمر بالعرب ـ الذي ما زال مصرا على مطالبة العرب الاعتراف بإسرائيل " يهودية وديمقراطية " في آن واحد. 

وعلى الرغم من ان إسرائيل تستمد شرعيتها جزئيا من قبول القيادة الصهيونية بخطة التقسيم إلا ان فشلها في انتزاع  اعتراف العرب والفلسطينيين تحديدا بهويتها بوصفها دولة يهودية ما زال يقض مضجعها، وما زالت تحاول جاهدة الحصول على هذا الاعتراف فمن الواضح أن مصطلح يهودية الدولة اليوم بات يمثل في الآونة الأخيرة جوهر ومضمون الغايات الأسمى والأهداف الكبرى لإسرائيل، وتحولت مقولة الدولة اليهودية بصورة غير مسبوقة ولا معهودة إلى القاسم المشترك بين مختلف التيارات والكتل والأحزاب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية في إسرائيل على حد سواء .

وقد تأكد التوجه الإسرائيلي عبر محاولة استصدار وثيقة إسرائيلية فلسطينية مشتركة في مؤتمر أنا بوليس يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 تتضمن موافقة فلسطينية على فكرة يهودية الدولة، الأمر الذي يعتبر محاولة إسرائيلية لكسب ليس فقط مشروعية التهجير القسري الذي مارسته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في السابق، وتبرير الممارسات العنصرية ضد مواطني البلد الأصليين فيها بل الذهاب إلى أبعد من ذلك، عبر وضع مخططات إسرائيلية لتنفيذ "ترانسفير" إضافي بحق ما تبقى من الفلسطينيين في داخل الخط الأخضر في البداية ثم الضفة وغزة حسب  بني موريس .

 

........................

هوامش:

(1) أطلق المؤرخ الإسرائيلي ايلان  بابية في كتابه الشهير "التطهير العرقي في فلسطين"  والصادر بالانجليزية عام 2006  على ما قامت به الصهيونية الغازية بحق السكان الأصليين في فلسطين وصف  "التطهير العرقي" . لاقى المصطلح رواجا كبيرا بين الأكاديميين والباحثين العرب على وجه الخصوص . ولكني اخشي ان إطلاق المصطلح على عناته قد يؤدي الى فهم ان من قام بعمليات  التهجير والترحيل وما رافقها من جرائم بشعة هم اليهود المواطنون  والمقيمون في حينه على الأرض والذين ولدوا وعاشوا هم وأجدادهم في فلسطين وليس العصابات المستعمرة القادمة من إرجاء الدنيا ضمن مشروع استعماري استيطاني تقوده جماعة ليست من المنطقة بحال .وفي هذه الحالة فان توصيف ما حدث بالتطهير العرقي قد يوحي بأن هذه  الجماعة موجودة على الأرض منذ القدم . وهذا غير صحيح  فاليهودية كدين وجدت في المنطقة منذ غابر ألازمان وعاش أتباعها بسلام، على وجه العموم، بين ظهراني المسلمين في فلسطين وغيرها , ولكن من قام بهذا الفعل الشنيع هم شذاذ الآفاق المستعمرون القادمون  مما وراء البحار وليس سكان المنطقة في محاولة لسيطرة جماعة على أخرى على أساس عرقي أو ديني .

(2)ينظر: محاضرة للمفكر الفلسطيني وليد الخالدي بعنوان: قرار تقسيم فلسطين بوابة النكبة وذريعة الصهيونية لإنشاء "إسرائيل".  ألقاها الإنكليزية في مؤتمر جمعية الطلبة الفلسطينيين الذي عقد في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS) ) التابع لجامعة لندن في ذكرى مرور ستين عاماً على نكبة فلسطين وعنوانه "ستون عاماً من الاستلاب والمقاومة" ونشرت مترجمة  الى العربية على موقع الزيتونة للدراسات الإستراتيجية .

(3) ينظر: رأي القانون الدولي في قرار التقسيم 181 لعام 1947م . د. محمد الكفارنة

(4)ينظر كتاب ما بعد الصهيونية:  بين الحياة والموت, مجموعة من المقالات لعدد من الكتاب. ترجمها عن العبرية: سعيد عياش وحلمي موسى وقدم لها  انطوان شلحت.  صدر الكتاب عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)  في حزيران 2004، وتضمن مقابلة أجراها  آري شفيط مع بيني موريس ونشرت في ملحق هآرتس بعنوان :(بيني موريس: الطرد في ظروف معينة لا يشكل جريمة حرب!).

(5) ينظر :  الصهيونية باعتبارها إيديولوجيه عنصرية : إحياء موضوع قديم لمنع  الإبادة الاثنية للفلسطينيين كاثلين وبيل كريستيسون ترجمة: أماني أبو رحمة .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1420 الاثنين 07/06/2010)

 

في المثقف اليوم