قضايا وآراء

رؤية في نص (بعيدا عن الماء....بعيدا عن البدء) للشاعرة ضحى بوترعة / جوتيار تمر

رؤيتها لتخلق رومانتيكية الخصب المحتدم بالانوثة، والمكتضة بالوجد والرغبة والظمأ الدائم بين الامتلاك الروحي والجسدي، فهي لاتؤمن بمبدأ الفصل بين الروح والجسد، وتتغذى نصوصها برؤى تبرز من خلالها هاجس المسافات، وذلك الفراغ الازلي الذي تخلقه هذه الهواجس،وكذلك الهوة الفاصلة بين الحنين الى مطلق الحب، وبين سيزيف في مواجهة مخلفات كثيرة تتصل بماهية الفصل الزمكاني وبين برومثيوس المتمرد المخلص والقائم بتأثيث ماهية العطاء.

ومن يتعمق في نص بعيدا عن الماء..بعيدا عن البدء يدرك تماما ماهية هذه الهوة، وماهية المزج الفكري،النفسي،الفني فيه،حيث نلامس من خلال العنوان نفسه ثورة على مضامين الفكر التقليدي حول مكونات النفس وتلك الرعشة التي تتكرر وترافق في كل بدء، وحين يمسي قوانين تكبح ثورة الجسد واشواق القلب ازاء تجربة الحب وقد باتت هنا اكثر خصوبة وتعقيدا من تجربة الغزل التقليدي، فالبعد هنا ليس بعدا ميتافيزيقا، انما هو بعد دلالي ذا مغزى وجودي فعال.

 

بعيدا عن الماء.........بعيدا عن البدء

كنت أعرف الخيط الذي يرتق الصرخة الأولى.....

وضربة اليد فوق العشب المريض

مقذوفة أنا كصوت المغني في الصخب........في متسع من الاكتظاظ

أرى الجسارة في الخجل العابر...........أرى الوقت في سوء الظن

 

نجد الشاعرة وهي تمجد ثورتها الداخلية، بعبارات وجمل شعرية جامعة، مشحونة، بين الوضوح في المعنى، والميل الى ان تكون جملا مشبعة بالوان نفسية داخلية، عبر بوح ذاتي مدرك، من خلال المعرفة التي طغت على اللغة،والزمكانية التي عبرت من خلالها عن هواجسها الموحية، فالعشب وان لم يكن كما عهدناه في نصوصها الا انه يبقى هاجسا له حضور مؤثر، فدلالات البدء تظهر من خلال الجمل هنا، لا من خلال الصورة، وهي دلالات ينبثق منها ماهية الصخب وضرورته لكونه يمد الصرخة قيمة وجودها، كما تؤكد على ان التناقض قائم بين النفس والفكر، الروح والجسد، وكل ما يترتب على هذه الثنائيات.

 

 

وحدائق شرّدتها فتنة النّدى........

هذه يدي آنية لدم يهرع في نشوة الأخطاء

ووجهي الخفي يرتدي كل الاحتمالات

أتولد الأشياء من أضدادها..........؟

أم أنّك أكثر في الغياب

أم أنّك تعلن للماء

خلع نعليك حين تبدأ الخليقة

وترتفع الذاكرة لغزا عند الميلاد......

 

تغير اللغة مسارها الحتمي هنا، لتركن الى الدعة بعض شيء، وهي تبدأ بالندى وحدائق، رغم تجليها بالفتنة، إلا انها كوقع نفسي لها مدلول اقل خفة من لغة التضاد السابقة،ولكن هذه اللغة لاتدوم، فالحتمية تبرز من جديد عاصفة، تعري الداخل الخلقي،بتعابير رومانتيكية اقرب الى الشبقية،

لتلازم الخطأ هنا النشوة،وكأننا امام نص يرصد لنا رمزيا واشاريا وايحائيا هواجس رحلة الخليقة من الصلب، الماء، النشوة، الى الكينونة الطافية على بحر الخطأ، وتعيد الامر على الاحتمالية التي يتولد منها التساؤلية المستفزة للذهنية،التي تخلق بدورها جواً من التضاد بين الانسان في طور ولادته الاولى ومبعثه الاستمراري والقلق المحتم على مصيره، فالدلالات هنا لاتقف عند حد معين، ولاتبرر الفعلة وحدها، انما تستفيض بماهية التوحد الروحي الجسدي الذي سبق وان قلنا بان احدى الاسس التي تبني الشاعرة نصوصها عليه،ولعل التكثيف الرمزي الذي رافق النص هنا قد اخذه الى التجريد بحيث مزج بين الحالتين، النشوة والخطأ، هواجس العالم الداخلي بؤرى ميتافيزيقة تأملية، لكي تبقى القصيدة متاحة للمتلقي، فهي منفتحة على عوالم تأملية غائمة لايمكن حصرها ضمن اطار سبقي محدد، ولعل الروح الصوفية هنا قد الهمت ضحى رؤى اخرى اكثر اتساعا من سابقتها وجعلتها تمزج بينها وبين الرفض الكامن في العملية في ذاتها، ولكن هذا لم يمنعها في الامثال للواقع وهي تعلن في كينونتها التماثل القائم بينها وبين عقيدة الخلاص والانبعاث.

 

يغمرك نبيذ منتصف اللّيل.......... وتختزل فيك المدن نواقيس

كنائسها...........فتشهد صلبي فوق المشهد الأخير

أنت فيّ..........

فسحة اليقظة في أسفل الحلم......وبلاغة الجمر في طرف قميصي

كل الأسماء أجمعها في جملة اسمية

واسمي الغيمة التي تستغيث في سقيفة العشاق

اسمي النّخلة التي تسجن الرّيح في نسغها......

أسمي.........وأسمي......

صوت الدّيك الذي يجرح رقة الفجر

ويذبح صوت المغني في خمارات آخر اللّيل

أسمي رصيفا يطارد آخر العابرين حين تبدو الحواس غير الحواس

واللغة مناحة.........

 

هناك حرص ظاهر من الشاعرة على الاحتفاظ بكنة البدايات، التي تفرز من خلالها جوا تلائمياً للمتلقي، بحيث عندما يدخل النص، تكون نفسيته قد تلائمت مع الجو السائد في النص،ولعل وجود هذا الهيكل الجدلي الداخلي الخارجي، قد اضفى لحركية القصيدة وحدة تلازمية، نابعة من المعنى الاساسي للقصدية نفسها، والتي نجد اللشاعرة تحاول من خلالها ابتعاث تنويعات تتناسب وبناء القصيدة، وهنا يأتي دور اللغة كمدخل لكل فقرة، فالليل لايقل في موسيقاه وهدأته من الندى، فبالرغم من كون الليل دائما يفضي في مثل هذه المواقف التي تغلب عليها فكرة الحتمية الجسدية

الى ماهيات شبقية،الا انه هنا يثير شهقة النبيذ والتلذذ الروحي داخل قضبان الاسمنتية التي تتناسب وجو المدن، فتصير الورح في مشهد جنائزي مصلوبة، والصلب لايفضي الى نهاية، انما كما هو كائن منذ البدء على مفاهيم الخلاص والانبعاث، فهو هنا ليس الا اشارة واضحة الدلالة على الاستمرارية لذا تأتي انت في لتحسم الامر،ولتدخل الروح في اجواء اكثر رومانتيكية، في اجواء الحلم الذي يعد احد المداخل الاساسية في نصوص ضحى المفعمة بالامل رغم السوداوية،فكيف لها ان لاتكون مفعمة بالامل وهي تؤثث لتهميش كل ما ليس هو في كل ما هو، هنا اللغة تعلب دورها في اظهار حرفية ضحى، في توظيف الكلمة في مسارها الصحيح، فتنطلق من كل ما هو حولها الى نقطة البدء في التكوين المائي الوليد، وتضيف اليه الدلالة التي تسهم في الانتاج الخلقي، لذا نجدها تستعين بواو تعطف به اسمه الجامع لك لالاسماء باسمها المتلحفة بياء الشاعرة،ويستمر المشهد الدرامي لبدء التكوين، فيأتي صورة الديك،ومغزاه الفجري، ليعلن عن حقيقة كامنة في الوجود، ورعشة لامتناهية، وحتى وان كانت رعشةة قد جبلت على الخطأ، فانها كائنة ملموسة، وها هو صوت المغني يأتي ليبجل في الليالي الامر، ويضيف الى حتمية التلاحم المفضي في كينونته قرائن ودلائل نابعة من المناحة واللغة نفسها .

 

كنت أجهل لون الحصى واتجاه الكف في أسفل الحلم

وقميص عاشق يدفن في تعب الشهوة

بعيدا عن الماء .........بعيدا عن البدء

وفي متسع من الحيرة أرى المعنى يئن.........

ألوح من بعيد كفكرة....................

 

لقد سارت ضحى بالنص الى نهاية ترسم ملامح القصيدة كعمل فني ذا قيمة واقعية، فنصها يدخل معترك تشكيل الصورة الفنية ضمن العلم المرئي، الساكن والمتحرك معا، محافظا على شفافية الرمز ووضوح الدلالة ليتجنب الوقوع في الواقعية الفوتوغرافية، والتجريدية التي تغلي العيانية، فالاستعانة بلون الحصى، وارتباطه باسفل الحلم هنا لايخرج النص من واقعيته، انما يجعله يتخذ الوسطية، لأن الحالة التي يتم رصدها هنا هي خلاصة الزوبعة الروحية الجسدية القائمة في النص،وتبرز الاناة الداخلية هنا بصورة تصعيد وجداني نفسي بليغ،فتخرج عن المألوف في الوصف والتعبير، لتستحضر قيمة دلالية صوفية، متمثلة بالقميص،وماهية الرؤية الزمكانية في الاستدلال به، فالاخر هنا ليس الا متفرس ومتمرس في آن واحد، هو كائن خرافي في وجوده، لكنه حتمي في الوقت نفسه، سمته الهرب، من التلامس المفضي الى الخطأ،والذي هو الاصل في التكوين بدونه لايتم الاخر،انما يعيش حالة تيه وهذيان ذاتي،تبعده عن كينونته الطامحة الى جمع الماء في وعاء يتسم بالخصوبة، ولعل هذا الانفلات، هذا التفرد، وهذا الاستثناء من هكذا مخلوق يبعث فيها الرؤية الاجمالية للنص كله، وهي في تناص من واقعها، حيث تمجد فيه هذا التفرد، وتحن الى لحظة انفلات منه لعل من خلالها الاقتراب من الماء في منبعه، فيتكسر ابواب الحيرة على وقع انفاسه،والفكرة في جوهرها تبقى في سموها الصوفي النقي.

 

جوتيار تمر

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)

 

في المثقف اليوم