قضايا وآراء

قراءة في قصيدة: سكون فياجي ايسواران ( القصيدة الميِّتة) للشاعرة المتميزة نجلاء الرسول

الكتاب الذي يبحث في فلسفة الصمت كوسيلة بلوغ المرام في الحياة العملية أو الثقافية أو الروحية، ولم تغلق الابواب بعدها الى الدخول في الجواني المهيب والجواني المنعش من الذات البشرية، التصريح في العنوان يدل على ماهية الرؤية المتمثلة في الشخصية الكاتبة، حيث جعلت شاعرتنا تستعير سكونه لتعبر به عن ما تلتقطه من انفاس شعرية رسمت داخل اطار تلاحمي بين السكينة والموت .

 

كوجعٍ يلبسُ دقات صمتهِ

يحملُ حقيبةَ شفتيها لتحطَّ أوزارهُ أرضَ القراءاتْ.

 

 الاستهلال بالكاف، رغم ما تتجه اليه القصيدة الحديثة من استدراكات تعمل على التقليل من التشبيه الا انها هنا تمثل وقعا خاصا سواء على المستوى السمعي و البصري او النفسي و الادراكي، لانها جاءت تفسر الصمت، هذا الصمت الذي لايسع المتلقي الا ان يقارنه بالصمت الذي اوحى به العنوان نفسه، من خلال استحضار فياجي ايسواران وما يترك ذكر اسمه من صدى وأبعاد درامية متنامية عمادها الأساسي هو التأمل في مفارز الشكوك التي تراود النفس البشرية في أيامنا والتي لا حصر لها، وهذا ما جعل النص في بدايته يتوشح بالوجع المستعير وفق تداعيات الصمت، الدال على الذات الاخرى، ومن ثم الذات الحاملة لدلالات التوحد الصوفي، ولعل ما يبرز عند قراءة (يحمل)و (لتحط)، من دلالات تفضي بهذه الكينونة المتحدة رغم كونها تبرز الذات الاخرى كحاملة للوزر ضمن مكانية مفترضة.

****

 

يتمتمُ عينيها في صورِ الفراشاتِ المحترقةْ

ويسكن قميصَ الشجرْ .... ليعيدَ زمنَ النبوءاتْ .

 

التمكين من الفعل نفسه امر يحتاج الى توافق ذهني روحي مباشر، من اجل خلق ديناميكية تساعد على استمرارية الاداء الشعري نفسه ضمن اطار روحي صوري، واخر رمزي دلالي، وهنا بين الاحتراق، والنبوءات ازمنة اخرى تتسم بالذهول النفسي جراء فعل حاصل مركب، من حالتين الاولى ربما تمثل بعدا حقيقيا، والثاني يعتمد على التخييل المضمر المؤدي الى انسكابات شعرية عميقة.

******

 

يقلِّبُ نفسهُ في صفحاتِ ايسوارانْ

ويقول للمعاولِ الداكنةْ :

سأغربُ عن وجهي كي لا أصفعني

سأفتحُ باباً لبابي ..... وأكنس أحداقَ الريحْ

أو أنسخ بصمةَ الكتابِ أعمِّمها قتيلاً لي.

 

استمرار الفعل بدلالته الحاضرة المضارعة يعمق فكرة التأثير الحاصلة من استحضار اسم فياجي ايسواران، والترافق الموحي ضمن اطار في فضاء الصمت، حيث تشريح النفس البشرية وما قد يؤول اليه جراء فعل التقلبات، تصبح هنا مادة دسمة وداكنة تستهل توصف بالمعاول، وتتخذ من النفس اداة انطلاق الى عوالم اخرى تستمد قواها من العدمية المتراكبة، وهذا ما يحليل الذات الشاعرة الى عوالم التخييل المضمر الموحي الرامز، حيث تصب جام غضبها على النفس/ الذات نفسها، فتدخل مرحلة الذوبان والتيه، وتنسج من مخيلتها لغة تتسم بالتضاد المضمر، فتغلف الشعرية بصور موحشة جدا .

******

 

كحطيمِ القمر ِ في نهرِ يديها

ونسغِ الضياعِ في الموانئ البعيدة

ما عادَ يبقيني غير جثةٍ تتأمَّلُ دفنها تحت العويلْ

لــــ تعودَ هي

 

هذه المناجاة المبطنة والتي استهلت هي الاخرى بالكاف الموحية، الدالة هنا على تعظيم الفعل نفسه، ضمن اطار وصفي مكثف، (كحطيم)، الحطام يمثل قمة العدمية، والكاف هنا ابرزت القوة التفعيلية للكلمة بحيث ادخلتها مرحلة تفوق القمية نفسها، واذا ما تمعنا النظر بالدالة المقرونة بالتحطيم هذا سنجدها دالة تمثل الرومانسية والهدوء، وعلى مكانية تلزم الامان، وهذا ما يحلينا رأسا الى الفقرة التالية التي توظف هذا التحطيم بشكل يتناسب وجو القصيدة، بين الصمت المهذار، والروح الالتحامية الصوفية، والضياع المسافاتي، ونتائجها الحاصلة، جراء تدخل ذات ثالثة على المسار الروحي الوصفي التوحدي .

******

 

لتعودَ ...

في خرابِ الموتِ تنقشُ للتائهينَ مقابرَ الطريقْ

تنهشُ النايات كوحيدةٍ للخليةْ.

 

المتخيل من العودة لن يتعدى هذه اليأسية المطلقة التي اوشكت ان تفرز عنوانين ضمنية للقصيدة، فهذه الدلالات التي لاتقف عند حد التخيل العادي توجب عملا شاقا للمتلقي، وبما ان النقد بحد ذاته فك لطلاسم التعقيد لذا نجد بأن الضرورة تفرض علينا ان نخلق هذه الذات الثالثة من اجل ادراك كنة العودة، التي تمثلت ب (هي) في الفقرة السابقة وباللام الموحية على رأس الفقرة هذه، اما نتائج العودة تبقى مرهونة بالحدث النفسي اولا ومن ثم بالفعل المؤثر ثانيا، ولعل افتراض الوحدة، ووصفها بالخلية تمكين للانين الذي يرافق عملية تأسيس خلية في الوقت نفسه.

******

 

لــــ تعودَ هي

تقطعُ للضياعِ أناملهُ اللقيطةْ

تصلِّي للمذابح في سطرٍ غريقْ

وتخرج في جنازاتِ القصائدِ الميتةْ.

علّها يوماً تشربُ قهوةَ عيني

وعلّ أكفانَ الطريقِ خلسة ًتكمِّمها

لأن العودة تمخض عنها ذات ثالثة، فان القصيدة نفسها تنامت لغتها وفق التداعيات المفترضة اولا، ومن ثم التداعيات الواقعة ثانيا، فالتهيء الزمكاني شبه حاصل، ولأن الضياع يمثل مرافقا ومعلما ثابتاً للذات الشاعرة فان الكلمات تتشرد في كل درب، لا المعاني تجد مستقراً لها، ولا الاستعارات البيض تجنح إلى هدوء، فاللغة في جوهرها، مجازية، وهي بالتالي خيانة مستمرّة للمعنى، تقول الشّيء ونقيضه، محكومة بالانزياح، في البدء، كانت الكلمة صمتاً، وكان المكان متاهاً، ولما اهتدت الشاعرة الى مفرداتها، كان الزمن قد ادى فعله الجبار، بأن ترممت العين جراء تراب تراب تعثر بها، لذا نجدها بين الالفاظ العميقة والمكثفة، والصور الوحشية المتمرسة، تستقطب الدلالات لتحفرها على رخام اللغة نفسها، ولتبعث من خلال ايحاءاتها الصورية رسالة واضحة المعالم الى الذات الاخرى، والذات الثالثة التي اقتحمت اسوار الصمت المهذار .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1427 الاثنين 14/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم