قضايا وآراء

رحلة استكشاف المعنى عبر ثنايا نص رواية (الزمن الحديدي) للدكتور عبد الهادي الفرطوسي (1)

 

كاتب الرواية الدكتور عبد الهادي احمد الفرطوسي- - رئيس اتحاد الكتاب والأدباء في النجف - له عدة روايات أخرى يمكن تصنيفها ضمن روايات الخيال العلمي بالإضافة إلى عدة مؤلفات ودراسات في النقد الأدبي والشعر،وهنا لسنا في مجال لتعريف بالدكتور الفرطوسي الناقد والروائي والشاعر وكاتب القصة القصيرة والتحقيق الصحفي فهو غني عن التعريف،ولكننا نغامر في دراستنا هذه في محاولة فتح بوابة الزمن الحديدي محاولين استكشاف فضاءاته ودهاليزه وخفاياه، نأمل أن تمكننا عدتنا المعرفية والثقافية في فك مغاليق خزائن النص الروائي الجميل سواء باستخدام أدوات (الحضارة والازدهار) أو عن طريق قوى إنسان القرن العشرين أو قوى (ألتخلفي) المدهشة في قراءة الأفكار والقدرة على التخاطر مع الحاضر والماضي والمستقبل.

إذا كانتوشخصياتها منون القصة أو الرواية أو الكتاب يعرف من عنوانه، فهل إن عنوان (الزمن الحديدي) ينطبق على مضمون الرواية والعصر والزمن الذي تتحدث عنه ؟؟؟

 

الرواية وشخصياتها من حيث الرمز والدلالة:-

 أولا :- إن الكاتب يريد أن يشير إلى هيمنة روح الضبط الصارم والغير قابل للمسائلة والمناقشة أو الرفض والتي تصدر من (العقل الأكبر) الذي يهيمن على حياة وسلوكيات ومقدرات الإنسان والطبيعة في زمن (الحضارة والازدهار) وهذا الوصف ربما يكون انعكاسا لما سمى (بالضبط الحديدي) أو (التنظيم الحديدي) الذي تبنته بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية في لعالم والذي كان الكاتب ينتمي إلى احد أطيافها حسب ما نعلم،وهنا وكأنه يرى إن الحال في هذه التنظيمات لتكون هي وصف المجتمع عموما في ظل حكم هذه القوى،ففي كلا الحالين هو واقع تحت آليات القطعنة وسلوك (الكتلة البشرية الواحدة) وليس الإنسان الفرد،وتبدو لي هي إدانة مضمرة ربما في لاوعي الكاتب وتمرده على هذه الآليات خصوصا إذا كان ما يصفه كأنه امتداد للتجربة الستالينية أو الماوية فالكاتب لا يصرح ولا يلمح ولا يعطي أية دلالة للأ جابة على سؤال المتسائل هل الزمن الحديدي الموصوف هو امتداد أو حالة تطور عليا لنظام اشتراكي أو هو وصف لحالة تطور عليا للنظام الرأسمالي القائم؟؟؟

ثانيا:- إن يكون العنوان يشير إلى حقبة زمنية من التطور العلمي الحضاري عبر حقبه الحضارية المتعاقبة ألتي دمغت باسم المعدن أو المادة السائدة في صنع أدوات الإنسان وحتى استخدامها كعمله وهي:-

-     الزمن الحجري.

-     الزمن البرونزي.

-     الزمن الحديدي...الخ.

حيث يتم طبع عصر بكامله بطابع المعدن المكتشف والمستخدم من قبل البشر في حقبة زمنية محددة.

وهنا يبتعد عنوان الرواية عن مضمون المتن والعصر الذي يتحدث عنه زمن (الحضارة والازدهار) ،والذي يمكن أن يشار إليه بالزمن النووي أو الزمن الالكتروني أو زمن العقل الآلي حيث إن الثورة العلمية والتكنولوجية في عصرنا الحاضر تجاوزت الحديد واستخداماته بمئات من السنين.

ونرى إن الكاتب وضمن مجريات النص يوضح مدى هيمنة الآلة (الريبوت) على حياة الإنسان وسلوكه عبر الآلات وأجهزة قد لا يدخل الحديد ضمن مكوناتها الأساسية بل الأدوات والآلات الحديدية وضعت (في متحف العاصمة) (1) .

 

شخصيات الرواية

يمكن لمن يتابع الأسماء الواردة في النص وإيماءاتها أن يقف عند اسم (د.أنيس، دد.عاطف،د.مشين) فان كل اسم يشير إلى طبيعة الحقبة ودور الشخصية في ظل هذه الفترة من مرحلة التطور الحضاري البشري.

فأنيس ابن القرن العشرين لم يزل يحتفظ بسجايا الإنسان الاجتماعي من حيث مدارات المشاعر الإنسانية ومراعاة الأعراف والتقاليد المتبعة في عصر (ما قبل الحضارة والازدهار) وهنا تواصل ذكي من الكاتب مع د. (عاطف) الذي هو من بقايا ذلك العصر الذي لم يزل حاملا للعواطف والأحاسيس والمشاعر لإنسان ما قبل الآلي.

وقد كانت تسمية رئيس السلطة العليا في الكوكب (د.مشينmachine) وهو بمعنى ماكينة في اللغة الانكليزية والذي يستلم الأوامر والايعازات من قبل (العقل الأكبر) الذي يعرفه الكا تب بأنه ( جهاز الكتروني ضخم يعرف كل صغيرة وكبيرة ويعد المستشار الأول والأخير للمجلس الأعلى) (2) .

فيظهر مجردا من كل العواطف والأحاسيس الإنسانية ليكون منسجما مع عصره بالضد من (د.عاطف) الذي يحرم من رئاسة هذا المجلس:-الذي هو عبارة عن نخبة من العلماء المختارين لإدارة شؤون الكوكب بأمر من العقل الأكبر- لأنه من (أبناء الأرحام) .

ولكننا لا نرى في حقيقة الأمر أية دلالة واضحة لأسماء الممرضات (سلوى فتاح) من القرن العشرين واسم (زينب) من (عصر الحضارة والازدهار) لا بل يفترض إن يكون العكس ليكون اسم (زينب) وهو اسم مشبع برمز العاطفة والمشاعر النبيلة والسمو والقدرات الروحية لحل محلها اسم (سلوى) لرأب بعضا من الخلل أو ردم الثغرة في سياق رموز النص وطبيعة ثقافته فالعصر الذي يسمي مشين لا يمكن إن تصوره يسمي زينب!!!

ولكن ما تجدر الإشارة إليه الدور الكبير وربما المكافئ لدور الرجل أو يتفوق عليه هو ما حرص الكاتب في اغلب رواياته إن يعطيه للمرأة ففي روايته هذه كانت (سلوى) متفردة في امتلاكها لقوى التخاطر الخارقة.

وكان من الأفضل أن يختار الكاتب اسماءا للإناث تتماشى مع روح ومضمون النص ومع ما فعله في مطابقة ومضمون الأسماء الذكورية مع عصرها،فبالنسبة لزينب كان يمكن أن يكون اسمها (تولTool ) أو ما شابه ليكون منسجما مع اختياره لاسم (مشينmachine) كعباد للآلة في (عصر الحضارة والازدهار) .

و يرد اسم الدكتور (سالم) الذي تتحدث عنه الممرضة سلوى دون أية مقدمات أو سابق معرفة ونرى أن الممرضة يفترض إن تتحدث عن عبقرية الدكتور (أنيس) ومكانته العلمية وليس عن الدكتور (سالم) كما هو مفهوم من سياق النص.حيث يقول جودة الساير عن حبيبته سلوى ( وضعت كوب الشاي وجلست بجانبي بدأت تتحدث عن عبقرية الدكتور"سالم" ومكانته العلمية) (3) .

فقد يكون هذا بسبب خطأ مطبعي ولكن ليس هناك أية إشارة لذلك!

وفي هذا الصدد أي مسالة الذكور والإناث ووظائف كل منها في العصرين المختلفين ،نرى إن الكاتب لم يوفق في معالجة هذه النقطة بالذات حيث يمكن إثارة الأسئلة التالية في هذا الخصوص:-

•إذا كانت الولادات تتم في المكائن ومعامل (التفقيس) وحسب طلب (العقل الأكبر) الذي يعرف في الرواية:- كالتالي (منذ مائة عام-أيها السادة- دخلت تكنولوجيا الحديثة إلى الإنجاب..فلم تعد البشرية بحاجة لان تتزوج المرأة وتحبل تسعة أشهر ثم تضع وليدها.. هناك في مركز الولادات توجد ملايين الملايين من البويضات البشرية المخصبة.. وبناء على تقرير يرد من العقل الأكبر يحدد حاجة الكوكب الأرضي إلى العدد المطلوب من المواليد الجدد لذلك العام... تحتضن الآلات وبعد تسعة أشهر يخرجون إلى الدنيا أطفالا أصحاء بعيدين عن الضعف والمرض...) (4) .

•وهنا يثار السؤال التالي:- ما هو الداعي لإنجاب الذكور والإناث في عصر (الحضارة واالصناعية.؟؟

•أفلا يمكن تخليق إنسان يحمل الصفتين معا ليكون مولدا للحيامن والبيوض المخصبة ذاتيا لتوضع في (المفاقس) ؟؟.

•ما هو مصدر هذه البيوض والحيامن المودعة في المفاقس هل هي من بقايا منتجات (التخلفين) المحفوظة في المختبرات أم مستخلصة من (الذكر والأنثى) في عصر الحضارة والازدهار الذي لا يعرف الزواج ولا الإنجاب وهو بالتأكيد في هذه الحالة لا يحمل أعضاءهما التناسلية.

• لماذ ا لا يتوصل (العقل الأكبر) إلى اختزال فترة الحمل إلى اقل من تسعة أشهر؟؟

طبعا حينما نضع مثل هذه الأسئلة أمام الكاتب فهي من اجل أن تكون بنية الرواية الفكرية ومنالصناعية.ي أكثر انسجاما من حيث قوة ورصانة المضمون الذي هو محل اهتمامنا وقد لا يكون كذلك بالنسبة للكاتب.

•كيف يتحدث (جودة الساير) بلغة العارف بسيكولوجية إنسان (الحضارة والازدهار) حينما يتحدث عن الممرضة (زينب) :- (لم تكن غاضبة ولم تكن راضية..كانت تمط شفتيها استخفافا من هذا البدوي القادم من فيافي القرن العشرين إلى عالم الحضارة والازدهار) (5) .

 في الوقت الذي يفترض انه لم يكتشف هذه التبدلات في المشاعر والسلوكيات ل (زينب) إلا لاحقا كيف يمكن إن يتم الحكم على من لا تعرف معنى القبلة حيث تسأله عن معنى القبلة عندما تسأله عما يفعل حينما قبلها (...ماهي القبلة) ص20

 

التطور العلمي ومستقبل الإنسان

 (من الحمام الزاجل إلى التلفون ومن التلفون إلى الانترنيت الى ...)

استغرق تطور الإنسان من مالصناعية.ع إلى مجتمع المشاعيه البدائية ومن ثم إلى العبودية فالإقطاع مئات القرون لينتقل من حياة لقط الإثمار ثم الصيد إلى تدجين الحيوان ومن ثم الزراعة،وكما يقول سمير أمين:-

 (عمر الرأسمالية التي لم ترتد شكلها المكتمل إلا مع الثورة الصناعية لا يتجاوز قرنين من الزمن، وصلت خلاله إلى مرحلة الاهتراء التي تفرض تجاوزها بالضرورة،علما إن الانتقال من الإقطاع الأوربي الغربي إلى الرأسمالية قد استغرق ثلاثة قرون هي عصر المركنتيلية من سنة 1500 إلى 1800 تقريبا، إن الانتقال يظل حائرا ولا نعرف وجهته إلا لاحقا ) (6) .

بدا التطور السريع والمذهل للإنسان مع بداية انهيار الإقطاع وصعود البرجوازية إذ بان الثورة الصناعية .

وعندها بدأت الآلة تدخل في الصناعة والزراعة عبر المانيفكتورة فالمكننة حتى بلغت مرحلة الأتمتة الكاملة في عصرنا الراهن.

الثورة الصناعية قلبت كيان الإنسان في مختلف بقاع العالم وقد تباينت مصالح البشر من هذه التحولات الدراماتيكية بين مساند مؤيد ومتبرم مقاوم.

إن الكاتب يضع الإنسان وسط هذا البحر الواسع من المتغيرات البيئية والحياتية الذي وجد نفسه محمولا على أمواجها شاء أم أبى، فقد برع في توظيف بعض المنجزات والاختراعات والاكتشافات العلمية المعروفة في عصرنا لتعطي نوعا من المقبولية لتصوراته المستقبلية بعد مرور (400عام) على تجميد حياة بطله (جودة الساير) الفنان والمطرب المشهور في زمنه (5شباط 1985-5شباط 2385) ،وفي التفاتة موفقة يحصل على وصف عالم (الحضارة والازدهار) عالم المستقبل المتخيل وعالم (التخلفين) عالم الماضي المندرس، كونه صحفي يحضر مراسم تشييع التخاطرية المشهورة (سلوى فتاح) التي امتلكت سر كشف عالم الغيب الماضي والمستقبل لمئات السنين فيحصل على دفتر مذكراتها التي تصف فيه مستقبل حياة الناس بعد (400) سنه في ظل ( الحضارة والازدهار) وما يعانيه حبيبها المفترض الفنان (جودة الساير) الذي تعاد إليه الحياة بعد أربعة قرون من تجميده .

ومن نماذج هذا ا لتقدم نذكر:-

 (السفر إلى أية نقطة على الأرض لا يزيد ولا يقل عن أربعة دقائق ونصف) (7) .

السفر (بالكبسولة) (8) .

 (كانت العمارات رصاصية اللون متشابهة الريازة والمعمار ،تتخلل كل بناية عدد من الفوهات تدخل ونتخرج منها مركبات المغزلية) (9) .

الطعام:-

 (المطعم أيها السادة-قاعة كبيرة-،الكراسي،والطاولات،والصحن، وأواني الطبخ ورائحة الشواء والتوابل وكل اثر للطعام لا وجود له،كل ما في هذا المطعم لوحات معدنية مربعة،ملصقة على الجدران،على كل لوحة عدد من الأزرار البارزة الشبيهة بأزرار الآلة الكاتبة وقد نقش على كل زر رقم وأحرف أو إشارة،ويقف أمام كل لوحة نفر من الناس،بانتظار طعامهم) (10) .

 (..كلما سمعت صوت الصفارة تهرع إلى اقرب مطعم فتحصل على طعامك) (11) .

الملابس:-

 (كانوا جميعا بزي موحد: بنطلون قصير يغطي نصف الفخذ،وقبعة،وقميص دون أكمام بلون ازرق باهت، وحذاء رقيق له سوار من القديفة الزرقاء هذا كل ما يلبسون) (12) .

 (في عصرنا لا يوجد حر ولا برد ولا مطر ولا عواصف) (13) .

النظرة للإنسان:-

 (كم كانت خيبتنا مريرة، ونحن نكتشف من خلال الدكتور (مشين) المبرر الأساسي لبعثنا للحياة- لقد عرفنا إننا لا نزيد في نظرهم عن فئران تجارب) (14) .

 إن ألعديد من تصورات الكاتب إنما تنبع من الخيال العلمي ولكن الطريف إن العديد من هذه التخيلات وربما النبوءات العلمية قد تحققت خلال فترة وجيزة لا تتجاوز ألثمان سنوات منذ صدور الطبعة الأولى في 2001 وعام 2009 تاريخ صدور الطبعة الثانية من ألرواية التي بين أيدينا.

إذا استطاع الإنسان في عصرنا الحاضر إن يحل لغز انتقال المادة من مكان إلى آخر بسرعة الضوء دون إن تتحلل حيث يمكن إن يحضر إمامك وأنت على القطب الشمالي إنسان من القطب الجنوبي فتناظره، وتسامره، تراه وتسمعه، وترى كل انفعالاته، وسكناته ،وحركاته هكذا فعل الانترنيت في عصرنا الراهن!!

إن الكاتب لا يخفي إعجابه بهذا التطور العلمي الباهر ولكنه نطور وحيد الجانب يختزل الإنسان إلى مجرد آلة صماء بكماء مجردة من المشاعر والعواطف والأحاسيس يسيرها عقل كوني جبار هو (العقل الأكبر) .

 فيبدو هذا الإنسان وكأنه نسخة متطرفة جدا من إنسان هربرت ماركوزه ذو البعد الواحد ( إن اعتمادكم على العقل الأكبر في تفكيركم قد بلدت أذهانكم وصيركم أدوات منفذة فقط، عاجزين عن الابتكار والاكتشاف) (15) .

من خلال تتبع مجريات حياة (جودة الساير) بطل الرواية يمكننا إن نخلص إلى إن الكاتب ينحاز إلى القوى المناهضة لتحويل الإنسان إلى آلة تابعة يسير كما يسير الريبوت من قبل عقل شامل مهيمن على كل مجريات كوكب الأرض:-

 (ما احمقكم أيها الأحفاد!! آلة صنعتموها بأيديكم، وجعلتموها تتحكم بمصائركم!!!) (16) .

 (إن الموسيقى والشعر والرقص ،وكافة الأمور التي كنتم تسمونها الفنون، ماهي إلا تبديد مجاني للطاقة الإنسانية،لقد وجد الإنسان لينتج لا ليبدد وقته هباء) (17) .

 

الفن هو المتجاوز دائما... الفن هو غنى الروح:-

إن الكاتب يبين من خلال الحوار الذي يجري ين (أبناء القرن العشرين وأبناء عصر الحضارة والازدهار) إن التطور العلمي وحيد ألجانب وتسليع الإنسان وجعله آلة منتجة فقط كما يريد العقل الأكبر الذي يتمثل في واقع الأمر في عقل (العولمة الرأسمالية) الذي نعيش بعض أطواره وتنفذ العديد من توجيهاته في عصرنا الراهن إنما يؤدي إلى تضع الإنسان في رتابة قاتلة حيث يقول واصفا زياراته وتجواله بين مختلف المدن والقارات (زرنا مدنا عديدة في قارات مختلفة بعضها يقع في مشارف القطب والبعض الآخر على مشارف خط الاستواء، وكانت متشابه في طقسها وريازتها ومعمارها وشوارعها ،القليلة المارة، الخالية من السيارات والمحلات التجارية وصخب المدن،ورغم ولعي الشديد بالسفر وزيرة الأماكن المجهولة خلال حياتي الماضية، صارت هذه الرحلات عبئا كبيرا حين أصبح كل شيء مألوفا لا يثير الدهشة) (18) .

حيث يريد إن يقول الكاتب برأينا، إن عالما بدون فنون الشعر والقصة والموسيقى والرقص، عالم بدون كتاب عالم متشابه في المأكل والملبس والسكن عالم رتيب غير متنوع...إنما هو عالم بلا روح.

لذلك نراه اختار (جودة الساير) الفنان المشهور المعافى المرفه السعيد والمتمتع بحياته إلى ابعد الحدود ليكون على رأس قائمة من لبى نداء العلم سعيا لعالم أفضل أجمل لعالم مليء بالحب والمتعة والفن والجمال والتنوع فبدون الفن تبقى الحياة فجة راكدة لا تركب المركب الساعي لمزيد من الكمال والجمال والمحبة والتنوع،فلابد للتطور العلمي والمعرفي أن يصب في نبع الإنسان ليغتني بالمزيد من الوقت الحر ووسائل الراحة والغنى الروحي لا إن يسلب الإنسان روحه وسلبه حتى خاصية التفكير والتدبير الميزة التي يتميز بها عن الآلة ليحل العقل الالكتروني (الريبوت) محل عقل الإنسان في كل شيء.

من هنا كان الكاتب رائعا وموفقا جدا في خياره للفنان،كاشفا عن روح أديب وشاعر ومتمثلا ومنقادا لمخزون لاوعيه باعتباره ابن بيئة الاهوار موطن أجداده من السومريين الأوائل فيلتقط بعفوية تامة كأي سومري أصيل عود القصب ليصنع منه كما فعل أجداده (شبابه) ، هذه القصبة التي انطقها ابن سومر أشجى وأعذب الألحان هذه القصبة التي بكى ورقص عليها أجداده منذ آلاف السنين (وصلنا النهر وحطت أنظاري على القصب النابت على حافته... اختطفت قصبة على الفور.. يداي منهمكتان في حفر القصبة وتثقيبها؟، وشفتاي تتمتمان بكلمات والحان.. قربتها إلى فمي ونفخت فيها من أحزاني فانساب صوتها دافئا رخيما) (19) .

وكأني به يصيح وهو يعمل الفكر لإيجاد حل لمعضلة الإنسان واغترابه واستلابه في عصر العلم فيصرخ لقد وجدتها كأنه صدى العالم الكبير باسكال،لا يمكن إعادة التوازن والغنى للإنسان إلا من خلال الفن ، لا يمكن أن يضيع الإنسان وهو يسمع الموسيقى والغناء والشعر ويتمتع بجمال وسحر الطبيعة، اخذ (المجيد الساير) وليس (المستكين الحائر) يتلاعب بمشاعر من افترش الحديقة أمامه من أبناء (الحضارة والازدهار) ،يحزنون مع نغماته الحزينة ويرقصون على نغمات (شبابته) الراقصة ( تدفق الناس إلى الحديقة وما هي إلا دقائق حتى كان الناس يجلسون أمامي على العشب صفوفا) (20).

انه ابن سومر يعيد للإنسان (الآلة) الروح والعاطفة والحياة،اخذ الناس يتهافتون عليه ليستمر في العزف وليدربهم ويعلمهم ويصنع لهم (شباباتهم) الخاصة آلة بعث الروح، فصدحت الألحان قي كل مكان في المدينة مما اضطر سلطات (العقل الجبار) إن تشن حملة واسعة ضد الناس وتصادر شباباتهم ونحاول إدخال جودة الساير السجن.

وهنا يبدو إن جودة الساير قد أنهى سبات جينات المشاعر والعواطف التي هي من جوهر الإنسان وسجيته وطبيعته في حب الفن والموسيقى والجمال هذه الغريزة المختزنة في جينيات الإنسان عبر الآلاف السنين والتي لم يتمكن (العقل الأكبر) إن يستأصلها من كيان الإنسان على الرغم من كونه أصبح يولد الإنسان في (المفاقس) الاصطناعية لتكون ليس أكثر من آلات للإنتاج. حيث يقول الساير:-

 (لأول مرة ألاحظ كلمات الاحتجاج تصدر عن أفواه هؤلاء الناس واصفين هذه الإجراءات بالظلم والتعسف،لقد بدأت علامات التحدي نظهر عليهم،إنها الشرارة الأولى) (21) .

وهنا يبدو العجز الواضح والتناقض الصارخ بين حالة الوفرة والتخمة في الإنتاج للحاجات المادية (السلع) وبين الشحة والجوع والخواء المخيف للروح ،حيث إن غناء الروح والجسد لا يمكن إن يجتمعا في النظام الرأسمالي اللاهث وراء الربح والمزيد من الربح مهما كان الثمن.

ورغم خصب خيال الكاتب في سبغ سيكولوجيا الإنسان ولكن اللوحة التي رسمها تحمل العديد من التناقضات والمفارقات،ففي الوقت الذي يستطيع (بشبابته) أن يبعث الروح والعاطفة وتذوق الفن والمتعة لإنسان (الحضارة والازدهار) بالجملة لم يستطع أن يبعث الحياة في عواطف (زينب) حينما حاول مغازلتها فلم يخبرنا الكاتب هل كانت زينب ضمن من هرع لسماع شبابته أم لا؟؟؟

مما يثر علامات الشك حول قدرة (شبابته) على بعث المشاعر وعواطف الحب في عقول الناس كما يقول:-

 (.... خلال أيام قلائل صارت الشبابة موضة شائعة بين الناس ؟،ليس في العاصمة وحدها بل امتدت إلى كل مدن الأرض، فكنا نرى الناس أينما ذهبنا ،ينفخون شباباتهم محاولين نعلم العزف...) (22) .

ولكن هنا يثار سؤال بوجه الكاتب إلا يفترطريق دفع أحداث الرواية وهذه الاستجابة الكبيرة من قبل ناس (الحضارة والازدهار) للموسيقى إن يكون هناك صحوة أو انبعاث لبقية العواطف والغرائز والمشاعر الإنسانية الأخرى مثل مشاعر الحب والعشق والغرام،وغريزة الأمومة لدى المرأة وغريزة الجنس عن طريق فعل (لزينب) يشير إلى عودتها إلى طبيعتها كأنثى؟؟؟؟

فبدت زينب و(مشين) نسخة متطرفة جدا للإنسان في المجتمع الرأسمالي الذي يكرس لدى الإنسان معاني ومضامين المجتمع الغير منتجة والعقيمة كردة فعل لعقم هذا النظام ووصوله إلى الطريق المسدود عبر ظاهرة (مثلي الجنس) الآخذة في الانتشار في عالم الرأسمال المتوحش اليوم والمعبر عن مدى الانحطاط الروحي للإنسان في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية فكل شيء يدخل في قائمة الربح والخسارة حتى الزواج وإنجاب الأطفال كما يذكر الكاتب صائب خليل:- (في أحد فصوله الشيقة، يثير الكتاب الرأسمالي القيم "مستقبل الرأسمالية" مشكلة الأطفال في الرأسمالية، فيناقش الطفل كمشروع اقتصادي فاشل وكثير الكلفة، ويأتي بأمثلة وأرقام عن نسب عزوف المجتمعات الرأسمالية عن إنجاب الأطفال كرد فعل رأسمالي طبيعي (وإن كان إشكالياً بالنسبة للمستقبل). فالطفل بحاجة إلى طعام وملابس والعاب ومدرسة وجامعة...الخ، وبدون أي مردود على الوالدين بشكل عام. وحتى إن قيل أن الأبناء والبنات يسندون والديهم مادياً في كبر سنهم، فمن السهل حساب أن الوالدين سيكونان أغنى بكثير لو أنهما وفرا ليوم شيخوختهما ما صرفاه على أطفالهما، وسيكونان أكثر اطمئنانا إلى أن تلك الأموال ستكون لهما فعلاً. منطقي؟ بلا شك، لكن....أنا لدي نظرية أخرى.) (23) .

*كذلك فان الكاتب لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى المقابل الذي يترتب على (إنسان الحضارة والازدهار) مقابل ما يحصل عليه من خدمات السكن والصحة والتعليم والنقل والغذاء...الخ؟؟

وهل هناك فوارق في مستوى العيش بين فئة وأخرى...الخ؟؟ هل انتفت الحاجة للمال؟؟ هل هناك سلع تباع وتشترى وهل يتم هذا عن طريق دفع المال النقد أم عن طريق المقايضة؟؟؟

فقد يبدو وصف الكاتب ينطبق على شكلصعبة تواجه (الشيوعية) في مراحلها العليا ولكنها شيوعية بلا روح نسخة متطرفة من أل (ستالينية) أو (الماوية) فاقدة لجوهرها باعتبارها الفضاء الأمثل لغنى روح الإنسان وتخلصه من ضياعه!!!

أم إن (الحضارة والازدهار) مرحلة النضج التام للبنية التحتية للاشتراكية والشيوعية التي تمكن الانسان إن يعيش مرفها في حال تخلصه من هيمنة رأس المال وخلاصه من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج؟؟؟ كما أشار المفكر وعالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي:-

 (إن النظام الذي تطمح إليه البشرية هو ذلك النظام الذي يجمع في نفسه محاسن الرأسمالية والشيوعية معا أي غزارة الإنتاج وعدالة التوزيع فهل في مقدور البشرية أن تتوصل إلى مثل هذا النظام المثالي؟؟) (24) .

إن هناك معضلة فكرية كبيرة أو أسئلة صعبة تواجه الكاتب ربما استعصى عليه الإجابة عليها مما اخل في صحة وصف روايته (بالخيال العلمي) لتقترب من وصف (الخرافة) وخلخل بناءها الفكري.

أم إن الإنسان أصبح متماهيا مع الآلة وكأنه جزءا منها فالكل يعمل والكل يستهلك ولا ندري هل أن هذا الإنسان يستهلك يموت أم لا؟؟

أسئلة بحاجة لامعان الفكر فيها، أو أسئلة سابقة لأوانها لان تفاصيلها لم تزل في رحم الخيال.

 تابع القسم الثاني من الدراسة

 

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1085  الاحد 21/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم