قضايا وآراء

لفكرة السومرية..المقدمات التأريخية ..لبعث ابراهيم نبيا / حكمت مهدي جبار

ولأول مرة في تأريخ البشرية في منتصف الألف الرابع , أي في حوالي سنة 3500ق.م .لتكون الكتابة عين ماء تتفجر بقوة تفيض بها ارض العراق , وليأتي بعدها سيل عارم من الفنون والآداب والعلوم نقشت اثارها على قطع الطين المعجون بماء الرافدين وأهوار الجنوب الخالدة..

كان ذلك الأختراع المذهل قد ادهش الدنيا وما فيها وخطف اعجاب أهل الأرض من مشارقها حتى مغاربها لتنحني الأمم وتسجد الشعوب اجلالا لشعب وادي الرافدين ولتصبح سومر (كعبة) المعارف الأنسانية ومركز أشعاع لم ينطفيء حتى هذه اللحظة..

 

هذا الكلام لم يكن ناتجا من حماس اعمى قائم على التعنصر والأنحياز . ولا هوتجاوز لحضارات اخرى  ولا اهانة لأمم وشعوب لها من العراقة والحضارة بما يشار لها بأصبع الأشادة والمجد التأريخيين .غير أن وجود الأدلة التأريخية  لأحقية اولوية(سومر) في تأسيس نظام للحياة البشرية كفيل بأن يجعلها تمتلك ناصية الحضارة الأنسانية بلا منازع. ومن تلك الأدلة المنجزات الفنية والأدبية .(1) وأن النصوص الأدبية التي وصلت الينا من هذه الحضارة مثل ملحمة كلكامش الشهيرة وقصص الخليقة والأساطير الخاصة بأصل الوجود والأشياء وغيرها من القطع الأدبية تعد عند الباحثين منجما زاخرا يستقون منه اسس هذه الحضارة وأتجاهاتها وعقائدها الأساسية  .ومن خلال تلك النصوص عرفنا احوال تلك الحضارة العظيمة وعقائدها ونظرتها الى اصل الاشياء والآلهة ونظام الحكم كما تصور لنا احوال البيئة البشرية والطبيعة التي نمت فيها تلك الحضارة.

 

 ولاينكر ان التوجه الغالب على (الفكر السومري) هو توجه اسطوري شعري خيالي ملحمي  اكثر منه عقلي ومنطقي.الا ان ذلك التوجه لهذا النمط من التفكير الأسطوري لابد وأنه تأسس على تأمل ومراقبة لحركة الكون ومظاهر الطبيعة ووجود الأنسان.اذن هو نتاج انساني عبر فيه السومريون عن حقائق الكون بحسب معتقداتهم فضلا عن كونه نتاجا ادبيا وفنيا لايقل شأنا عما كان يشغل الفلسفة اليونانية التي جاءت متأخرة بعد وجود السومريين.فهم يفسرون الظواهر برؤية اسطورية لكنهم يصلون الى نفس النتائج التي وصل اليها اليونانيون برؤيتهم المنطقية والموضوعية حسب ادعائهم.وكان الشغل الشاغل لشعب (سومر) هو من ذا الذي يقف وراء حدوث ظاهرة معينة ؟ هل هو مخلوق مثلهم ولكنه ذو صفات خارقة؟ ام هو شيء مختفي خلف البحار والجبال والصحاري يأتي متى ما يشاء ليتصرف بهم كما يشاء؟

وهكذا استغرق السومريون في هذا الأمر ولم يبحثوا عن العلل والأسباب العلمية والموضوعية لحدوث تلك الظاهرة. ليواصلوا  حياتهم التأملية بقلق, غير انه كان قلقا ايجابيا من شأنه ان يجعل الأنسان حريصا على ضرورة معرفة وجود خالقه ووجوده في الحياة سماع العلماء( قلقا ميتافيزيقيا).الا انهم لم يتوفقوا في ذلك وبقيت مسألة اكتشاف الرب العظيم الذي يقف وراء كل تلك الأرباب المصنوعة من الطين عصية على الشعب العظيم الذي اكتشف الكتابة ذلك المنجز الكبير الذي صار فيما بعد شرطا لكل ألأنبياء والرسل السماوية.

 

بقي السومريون يعانون من الشعور بنقص روحي حقيقي وبقيت العيون المتسعة لتماثيلهم وتأملاتها في اروقة المعابد وهي تتشابك الكفوف لم تحقق شيئا للوصول الى العنوان ألالهي..ونتيجة لأخفاقهم في أحالة اسم (ألألهة) الصغيرة الى (الله) الأكبر وعدم توحيد هم لكل ما ابدعوه تحت اعترافهم بوجود الله الذي لايرى كما يرون التماثيل فغضبت عليهم السماء وأصبحوا (مشركين) أي انهم ابقوا انفسهم على مهزلة (تعدد الأرباب) رغم رسائل السماء وبعث الأنبياء في ذلك الزمان. ثم بعث الله لهم سلسلة من انبياء ورسل كانو خلاصة الهية اختارتهم السماء كحل رباني  وكان من اولئك الأنبياء ابراهيم وهو(2) (ابراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن ارعو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح) ذلك (الرجل السومري) الذي اختلفت الروايات في سنة ومكان مولده.فهناك رأي يقول انه ولد في قرية (بكوثار) احدى قرى (الكوفة ) في العراق سنة 1900ق .م ورأي يقول انه ولد في  سنة 2000ق م في (اور) عاصة الحضارة السومرية(احدى مناطق الناصرية في العراق حاليا). ومهما يكن من امر اشكالية سنة ومكان ولادته سواء ولد في الكوفة او في أور فأنه وبما لايقبل الشك انه(سومري) عراقي رافديني تشرف بتكليف الهي لتصحيح المسار البشري على الأرض.

كانت (أور) التي ولد فيها (ابراهيم) ذات شأن عظيم في التأريخ وحكمت فيها عدة سلالات سومرية دلت الآثار المكتشفة فيها على دورها الحيوي في حضارة العراق من خلال انظمتها الحكومية ومؤسساتها وطبيعة الحياة فيها الى جانب التطور الثقافي حيث وصل الفن ذروته لاسيما فن النحت والعمارة المتمثلين بتماثيل الآلهة وبناء الزقورات...قضى (ابراهيم) طفولته في (اور) وسط  عالم من (التماثيل) والمجسمات ودور العبادة والزقورات في آخر حكم السومريين السياسي . وأدرك عبادة شعب اور لآلهتم (سن) (القمر) في داخل المعابد والزقورات  وهو يعيش في وضع نفسي وتساؤلات عن ذلك الذي يفعله شعبه وهم يعيشون الجهل في عدم معرفة الحضور الحقيقي لأله أكبر من (سن) الذي يعبدونه ثم تواصل في عمر الصبا متزامنا مع قدوم البابليين للحكم .

لم يكن الفارق كبيرا في تلكما السنتين في الخلاف في تحديد سنة ولادته .لذا فأن تلك السنين مثلت الزمن الذي تأسست فيه سلالة بابل الأولى عام 1894 ق م .أي أن عمر ابراهيم كان مابين الصبا والفتوة.

لقد اختار الله (ابراهيم )ليكون (نبيا) في زمن قلق عاشه شعبه تحت وطأة  التقلبات السياسية حيث لم يمر على سقوط  حكم السلالات السومرية سوى سنوات قليلة بسبب أرتباك الأوضاع الأقتصادية والسياسية وحدوث صراعات داخلية..حتى مجي ء الملك الاموري البابلي (سومو آبم) الذي تصدى للظروف القلقة وأطماع الأجانب في بابل فضلا عن تصديه للثورات الداخلية والأنتفاضات التي عمت البلاد..كبر (ايراهيم) وصار شابا حتى مجيء الملك البابلي المشهور (حمورابي) حوالي سنة1793 ق م  ليبقى في الحكم 42سنة .

 

لم تنقطع امتدادات تأثيرات الحضارة السومرية بفنونها وآدابها رغم اضمحلالها سياسيا .حيث بقيت ذات اثر في مفردات الحياة الأجتماعية والسياسية والثقافية وحتى الدينية في بدايات الحكم البابلي ..ولكن في حقيقة الأمر ان الثورة الثقافية الهائلة التي جاء بها حمورابي كانت عظيمة حيث (3) .. اسس عددا من المدارس وجمع التراث الفكري المدون بلغة بلاده مع ان اللغة السومرية لازالت هي السائدة .لذلك (فالتراث السومري) كان بمثابة  الأساس الذي يرسي عليه بناء امته العراقية الجديدة .فبقيت روحية (ملحمة كلكامش) سائدة في ثقافة المجتمع البابلي والدليل هو ان الأديب البابلي هو الذي كتب الملحمة بخط سومري وقرأها بلفظ بابلي وحفظت في مكتبة آشورية. ..

 

برز من الآلهة في فترة حكم حمورابي (مردوخ) ذلك الأله الذي عظمه العراقيون كثيرا في تلك الحقبة التأريخية.(4) لقد ذهبت النصوص الدينية الى مطابقة الكثير من الآلهة البابلية الهامة مع مردوخ وأعتبرتها اوجها له. فالعاصمة بابل لابد ان يكون لها رب هو الأسمى بين الآلهة يتناسب مع تعاظم الأمبراطورية التي صار مركزها (بابل) في تلك الأجواء المحتشدة بالمتغيرات والتقلبات والبدء يحياة جديدة لتطور الحضارة العراقية التي صارت مركز اشعاع ثقافي وحضاري لكل الأنسانية ظهر وكأن ارض بابل قد هيأها القدر في أن تكون مكانا لولادة دين سماوي عظيم نتيجة ملائمة ظروف معينة شكلت استعدادات كونها ارض خصبة معطاء للأنسان النموذجي والمثالي لأستقبال تلك الرسالة العظيمة رغم التحديات والمشاكل وصعوبة التعامل مع اهل بابل بولادة الدين الجديد.

 

كان ابراهيم في مقتبل العمر وكانت المرحلة الأولى في ولادة نبوءته قد تمثلت بتأملاته الفكرية عندما كان يخرج (5)(بعد غياب الشمس وظهور الظلام , وقد علم ان الناس يعبدون الأوثانوأن ازر ومن في بيته سوى والدة ابراهيم أيضا يعبدون  الاوثان ....الى اخر الرواية...ثم نظر الى نجم ظاهر في السماء وهو الزهرة فقال هذا ربي فلما غابت الزهرة قال لو كان ربي لما غاب وما زال ثم قال لاأحب الآفلين . ثم نظر الى المشرق وأذا بالقمر طالع فقال هذا ربي هذا اكبر فلما تحرك وزال قال :لئن لم يهديني لأكونن من القوم الضالين.فلما أصبح وطلعت الشمس ورأى ضوءها ونورها في أرجاء الدنيا قال هذا ربي هذا اكبر وأعظم , فلما تحركت وزالت  مسح الله تعالى على بصره وفتح له ابواب العرش حتى رآه وأراه تعالى ملكوت السماوات والارض وألهمه وهداه ونور قلبه وبصيرته وعلم ان لهذا الكون خالقا ومدبرا)  ومن هنا بدأ الصراع الفكري التأملي ...أنتصر (ابراهيم )على الشكل المعبود عندما راح يقتحم عالم التماثيل (الأصنام) متفوقا على الآخرين الذين توهموا بأن سعيهم نحو اكتشاف المطلق انما يتم بصناعة مجسم

(تمثال) ليكون كوسيط بينهم وبين ذلك المطلق الذي ارقهم لدهور طويلة.ذلك ان الرحلة التي قضاها ابراهيم وهو يتتبع حقيقة الوجود وأن وراء ذلك الكون رب عظيم بلا شكل لانراه الا في قلوبنا وتأملاتنا الروحية كانت رحلة فكرية مستوحاة من الفكر السومري الذي راح يبحث في (تجريدات الشكل)الا ان  ابراهيم اكثر تجريدا من ابناء شعبه لذلك اخترق الشكل (التمثال) الى حد التحطيم ليستخلص جوهره , وعند ذاك سوف يركع لذلك الجوهر متجاوزا اسم الأله الى أسم الله .

 

 ومع أختيار الله تعالى لأبراهيم وجعله نبيا لأبناء قومه في بلاد الرافدين فأننا نعتقد ان (ابراهيم الأنسان) كان افرازا لمعطيات واقع مشحون بفكر هائل وعظيم واقع مليء بحيوية شعب مبدع مبتكر مكتشف . ابراهيم الأنسان ثمرة جهد حضاري كبير تأسس على تأملات وتصورات وتخمينات نضجت في ذهنه وقلبه وروحه في بيئة رافدينية عراقية . تلك البيئة التي اختارها الله تعالى لتكون وعاءا لدعوة (ابراهيم النبي) القادم من أصول  سومرية والذي عاش في حياة بابلية حاملا رسالة السماء للأنسانية..

 

.......................

مصادر:-

1- مقدمة في الأدب العراقي القديم.....طه باقر.1976

 2- الانبياء ..حياتهم قصصهم..عبد الصاحب الحسني العاملي. منشورات المكتبة الحيدرية.

3- تاريخ العراق القديم ..مجموعة من الكتاب العراقيين..1990

4- نفس المصدر.

5- الانبياء..حياتهم ..قصصهم..عبد الصاحب الحسني العاملي .منشورات المكتبة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1470 الثلاثاء 27/07/2010)

 

في المثقف اليوم