قضايا وآراء

يحي السماوي ... شاعر الأوجاع / غالب حسن الشابندر

 

الحياة تستحق أن تُعاش حزنا لا فرحا، تستحق أن تُعاش ياسا لا أملا، تستحق أن تُعاش كمدا وتمردا لا أنسا ولا شدوا، جئنا الى هذه الحياة مرغمين، وسوف نرحل مرغمين، والمسافة بين الشروع والرحيل تمارس حريتها على أجسادنا كما ترغب وكما تريد، لا كما نرغب وكما نريد ...

هكذا أشعر وأنا أقرا، بل أتلو شعر هذا الانسان المعذب، الانسان الذي صهر كل وجوده في عالم الاوجاع، عالم الاوجاع حصرا !

يذكرني ذلك بـ (غرامشي)، الياس مع الارادة، ياس العقل وإرادة العضلة، وما علينا سوى أن نجتاز القدر  كما تتاتى لنا الظروف، وفيما أقرا يحي السماوي، اجدني منساقا مع حقيقة واحدة، واحدة فقط، هي الوجع، الوجع دون غيره ... ولكن بلذة طافحة، لذة مجنونة، ترى هل هي لذة تحمُّل هذا الوجع، لذة الاخلاص له، لذة الكفاح  ضده، لذة الاعتراف به، لذة التعايش معه، لذة السخرية منه؟

لست أدري !

الذي ادري هو إني توجّعت كثيرا، عميقا، وأنا أتلو آيات يحي السماوي، ايات الوجع الغائر في   قلبه، ضميره، صميمه، آماله، شعره، ولم يكن شعره سوى الوجع ذاته، فلا أستطيع أن أفكك بين الوجع وشعره ...

ألم أقل أن الشعر يستحق يحي السماوي؟

أي وجع هو يا ترى؟

وجع الانسان بالدرجة الاولى، ثم وجع الطبيعة، وجع الزمن، وجع الحياة ذاتها، وجع الكلمات التي يؤسس بها آياته العظيمة، ينحت بها صوره، مفاهيمه، شعوره، فهو شاعر الوجع الكامل، الوجع الكلي ..

هل أجد على وجهه بعض ملامح هذه الحقيقة؟

أنا أشعر بذلك، ولست مسؤولا عن شعور غيري !

 

2 :

وجع يقود الى وجع، اويضفي الى وجع ...

جريمة ذلك الدم الذي ما زال رطبا يلامس ضمير الحياة، يرتل لنا أغنيات الاطفال والنخيل والماء والتراب، كي لا يموت العراق ...

[  ما مات (كامل)

 (كامل) انتدبته  دجلة الخلود

ممثِّلا نخل العراق

وناطقا باسم الطفولة

باسم حلم الكادحين  ...  ]

إلى اوجاع العمر وهي تمر عبر سنواته العجاف ...

                          ( ستون .. مرّت من غير مُمطرة ِ

                            مرّ الطيوف بجفن مكتحل

                          ستون .. لا أهلا  بقافلة

                         تُدني ذِئاب الحتف من حملي)

 

إلى وجع الارض اليباب ...

(ولكنّه القحط ُ :

لا الخبز في الصحن ..

ولا التمر في العِذق

والماء في النهر لمَّا يعد

يملأ الكأس ريَّا)

 

إلى وجع أوهام المنفى ...

(توهمّت أن الطريق إلى الاقحوان

المنافي ..

فنفضت طين الفراتينِ

من راحتيَّا !).

 

إلى وجع الانفصام بين الذات وأناها !

(أعاتبني :

لماذا خنتُ نفسي؟

كنتُ أدري أنّ كوثر عشقها

لهب ..) .

 

إلى وجع المكان ...

(نهاوند انتهت في سِفرِ  أخبار الهوى

خبرا !!

نهاوند ابتدأت فردوس حلم ٍ

وانتهت سَقرا) .

 

إلى وجع الجوع والجوع كفرا ..

(تصرخ المسْغبة الآن

بنا : هزُل الخبزُ

وجوي سَمُنا) .

 

إلى وجع العاطفة الممزّقة التي لم تعد تؤدي دورها ...

(أنا راحل ..

راحل ..

فاستعدِّي

لتشيع جثمان شوقي

ووجدي !) .

 

إلى وجع الزمن حيث يمر بلا معنى وبلا هدف، هباء وجودي مدمر ...

(العمرُ مرَّ

حبيس  قضبان الخريف

ولا ربيع ..

جفَّ الضياء على نوافذنا

وما جفَّ النجيع ...) .

 

السفر الشعري هذا إذن هو سفر الاوجاع، وجع الوجود بكل تجلياته، وهو وجع لا يشعر به  مسؤولية وقلقا إلا الذين تمكّن منهم وعي الذات، وعي الحياة، وعي الحقيقة، والوجع هنا، في الديوان، فكرةً ومشروعاً وصورةً ولغةً وتوكيدا والحاحا وطرحا، فالشاعر كان يعمل على مشروع كلي لشعره، ذلك هو الوجع ... الوجع بكل صوره وألوانه واشكاله وإشكالياته، مما يعني أن الشاعر يعي ما يكتب، ويعي ما يطرح، ويعي ما يخاطب  به الأخر، أنه نص مسؤول، نص يستعر بالوعي .

 

3 :

من أهم وأبدع آليات الشاعر يحي السماوي هو (الانزياح)، وقد كان دقيقا وماهرا في استثمار هذه الآلية الحيوية في تشييد معماره الشعري، فهو لم يسف ولم يجدب، بل كان ميزانه الواقع والقا ريء واللغة والعقل، وبذلك يكون قد أعطى للشعر حقه من الشعرية، فلم يورط شعره بانزياح صوفي، يعتمد على مديات خيالية بين اللفظ والمعنى، حيث تورط كثير من الشعر اء بمثل هذا المنحى الخيالي، وإذا بهم يكتبون نثرا صوفيا وليس شعرا بالحقيقة.

 

يقول الشاعر في قصيدته (نهاوند) : ـ

(الماءُ أودعها سريرتَهُ

وأودعت الطفولةُ جيدها

عِقد البراءة ...

والأمومةُ؟

أودعتها رِقَّةُ القلب الجليل

والروض أودع ثغرها

وهج القرنفل

في الاصيل  ) .

هذا اللون من الانزياح ينقذ الشعر من الهوس، ويعطي له عمقا في مشاعرنا وأحاسيسنا وتصوراتنا وخيالنا، والشاعر (السماوي) لا يستخدم الانزياح بشكل ساذج، آلي، ميكانيكي، بل هو  يتفنن في تركيب الانزياح، تكثيفه، ثم يتفنن في تحريكه  عبر النص، يزيحه أيضا !

ليس للماء (سريرة )، لكن فن الازاحة يهب الماء (سريرة )، على أن هذه (السريرة) لم تعد ملك الماء، بل تتحرك لتهب طاقتها الحيوية، الروحية، لـ  (نهاوند)،  وهكذا نلتقي بالسريرة مادة متحركة، فعالة، نشطة، عنيدة، لا تقف، ولا تفتر .

 

4 :

وكان (التناقض) من أبدع آلياته الشعرية، ولم يخرج عن مملكة الأستخدام الطبيعي والمعقول لهذه الآلية، اختيارا، وموضعا، وعلاقة، فهو الشاعر الحساس بمسؤوليته الشعرية، والمتمرس في فهم الصورة الشعرية، بل ويدل كل ذلك على ثقافة ثرة ليس باللغة وحسب، بل بالموضوع الذي يطرقه شعرا ..

نقرا له في قصيدته (أين شطانك مني) :ــ

(نحن في عصرٍ

به العهرُ حلال

والمروءات حرام)

 

وفي قصيدته (هوامش من كتاب الحزن العراقي): ـ

(تصرخ المسغبةُ الآن

بنا

هزل الخبزُ

وجوعي سمُنا ...)

 

تناقض مستل ليس من الطبيعة، بل تناقض مستل من الثقافة، فهو لم يتحدث عن شتاء وصيف، ولا عن أسود وأبيض، ولا عن بعيد وقريب، ولا عن غني وفقير، بل عمل على خلق التناقض وليس على استعارته، وخلق التناقض اعمق من ا كتشافه واستعارته، وإلا هل يكون العهر حلالا  في لغة الواقع ولغة المنطق والدين والشرائع والاخلاق؟

لا بطبيعة الحال، ولكن الشاعر هنا استل المعادلة المقلوبة من السلوك، من الممارسة، من الثقافة، من الحضارة، كان شاعر حضارة أكثر من كونه شاعر طبيعة في هذه التجربة الشعرية .

الجوع ضعف ...

هزال ...

هوان ..

مذلة ...

فكيف  إذن (وجوعي سمُنا)؟

 

أنها لعبة المتناقضات الذكية، ليست مقابلة آلية، بل حركة باطنية، داخل الفكرة، داخل النص، داخل الصورة، وبهذا خلصنا من التناقض المدرسي، التناقض التقليدي، أن لعبة اسود وأبيض تحولت الى آلية فجة، ولكن لعبة السمن داخل الجوع، و الجوع داخل السمن  هي اللعبة الذكية اليوم في النص الشعري، هي اللعبة التي  تجعل الشعر حقا كائنا جميلا، او تمهد الطريق لتعريف الشعر  بأ نه  (كائن جميل)، إن لعبة التناقض المستلة من الطبيعة اضحت عقيمة، اللهم إلاّ إذا تفنن الشاعر في تحويلها من تناقضات متقابلة بشكل آلي إلى تناقضات يغور بعضها في بعض، مما يولد حركة شعرية فاعلة .

 

5 :

التجربة الذاتية تهيمن على شطر كبير من النص، وهذا ما يعطي للنص نكهة المعايشة الساخنة، تجربته الذاتية، وكان قد أختار مقطعا ساخنا، مؤلما، موجعا من  تجربته الذاتية، فهو لم يتكلم عن صراع جانبي، ولا عن شك بحقيقة خارجية، بل سلّط الضوء بجدارة على هذا التمزّق الذاتي الذي يعاني منه، أي الغربة، الا ستلاب ...

يقول : ـ

(أعاتبني :

لماذا خنتُ نفسي؟

كنتُ أدري أن كوثر عشقها

لهب

وأن سفينتي

خشب

كذبتُ عليّ

تطعنني ولا سبب)

يقول : ـ

(أنا لا اعرفني

أين اقيم الأن؟

لا عنوان لي

كيف اهتديت؟)

الشاعر هنا يخرج من ذاته ليصف ذاته، وهذه العملية  بحد ذاتها  عبارة عن  صرا ع، صرا ع يصف صراعا، ومرة أخرى تتداخل الصور بهذه الطريقة الجميلة في شعر السماوي .

التجربة الشعرية للسماوي تنبع من الذات قبل أن تنبع من اي شيء آخر، وهو يقدم لنا تجربته كما هي، صادقة، صافية، خالية من كل زخرفة ...

ينتزع نفسه من قاع نفسه، ليصف لنا ما في داخل نفسه ...

إنها جدلية الذات الساخنة ...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1473 الجمعة 30/07/2010)

 

في المثقف اليوم