قضايا وآراء

رائد (اللاَّمعقول) الإيماني الحديث (1-2) / غالب حسن الشابندر

بلغة جارفة خارقة، كان على موعد مع هذا المصير الفلسفي، لقد استقى فكره ولغته وسلوكه من تاريخ حياته المضطرب، المنشد إلى الذات بشكل فاعل فعّال .

لم يكن هذا الفيلسوف أوّل من تمرد على فلسفة الوجود وقرر أعلان فلسفة الموجود الفردي، الفيلسوف الشخص، فيلسوف الخبرة، لا بمعنى كونها مصدر للمعرفة، بل بمعنى كونها ينبوع إرتسام طريق وجودي في الحياة، لا ينصح به الآخرين، وإنما هي فلسفته له، لنفسه، لجسده، لروحه، لعلاقاته بالناس، فلسفة جديدة في الحب والخطيئة والدين واليأس والإرادة والغاية، والمرأة، واللذة، والموت والكنيسة، والفداء، والضحية، والتوبة، ومراحل التدرج أو مدارج السير الانساني فيما إذا اراد الانسان أن يعيش حقا، يعيش الحياة الجديرة به، أو بالاحرى الجديرة بالحياة ذاتها .

 

سوف اعتمد في كتابتي عن هذا الفيلسوف على المصادر التالية: ـ

1: كريكجور، تأليف بيار مسنار، ترجمة الدكتور عادل عوا، سلسة: زدني علما، منشورات عويدات، بيروت سنة 1983 .

2: الاسس اللاّعقلانية في الفكر الفلسفي المعاصر، دعاء محمّد عبد النظير حمّاد، منشورات كلمة، الاسكندرية، سنة 2010 .

3: خوف ورعدة، سرن كيركجور، ترجمة فؤاد كامل، 1984، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة .

4: هيجل، الجزء الثالث، إمام عبد الفتاح امام، مكتبة مدبولي، القاهرة سنة 1977 .

5: دراسات في الفلسفة الوجودية، عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة، طبعة ثانية، القا هرة سنة 1966 .

6: فلسفة الدين عند كيركجارد، دكتور حسن يوسف، طبع دار الكلمة، القاهرة، طبعة أولى، 2001 .

7: الله في الفلسفة الحديثة، جيمس كولينز، ترجمة فؤاد كامل، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ا لقاهرة، طبعة ثانية 1988 /

ومصادر أخرى أعرّج على ذكرها في الاثناء بأعرّج على ذكرها في الاثناء بإذن الله تبارك وتعالى .

إذا قام قاريء أو باحث بجولة عامة في رحاب افكار وخبرات وتصورات وتأملا ت هذا الفيلسوف الشاب سيخرج بجملة خطوط عريضة، ربما تشكل لحمة فلسفته وفكره بشكل عام ...

1: من النسق الى الشذرات أو المتفرِّقات .

2: من الوجود بما هو وجود إلى الموجود، الشخص !

3: ميتافيزيا ضد الميتافيزيا .

4: الفداء هو طريق الخلاص .

5: مسيحية ضد الكنيسة .

6: كل شيء جدلي .

7: ملخص الحياة هو معادلة: (إمّا ..... أو) .

8: من التجريد إلى التجسيد .

9: من الحسيَّة (الجمالية) إلى (الاخلاقية) إلى (الدينية) .

10: من العقلانية إلى اللاّعقلانية .

11: المحبة أصل الايمان، والمحبة مستقرها وآداتها القلب وليس العقل، وذاك ينعكس على الايمان في الوقت نفسه .

هذه بعض الخطوط العريضة لفلسفة هذا الفيلسوف الاخلاقي الشاب، وقد أدرجتها لا على التسلسل الزمني أو المنطقي، وسوف نتعرف على المزيد أثناء البحث .

 

 2

كان يقول أنّ مؤلفاته ليست سوى انعكاسا امينا لذاته، فهو كان يكتب ذاته، ولذلك ينبغي أن نفتش في ذا ته وليس عن ذاته، او نحفر في عمق هذه الذات، خباياها، اسرا رها، وذات صاحبنا كانت عبارة عن مرجل من الصراع الذي لا يهدأ، ولا يترا جع، بل يزدا د ضراوة وشراسة كلما مرّ بتجربة جديدة، سواء كانت التجربة روحية أو جسمية، ويلخصها كثير من الباحثين، بأنها جدل بين الروح والجسد، بين الإمكان والضرورة، بين المتناهي واللامتناهي، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن ذهننا، بأن هذه المفردات أو المعادلات ليست على مستوى واحد من العطاء، ولا على مستوى واحد من المعنى، فليس من السهل المماهاة بينها، اللهم إلاّ إذا كانت كل معادلة قائمة بنفسها .

كانت فلسفته تجربة حياتية محضة، تنطلق من المعاناة، معاناة الجسد بالدرجة الاولى، من الجسد الكسيح، الظهر المقوقس، عدم تناظر الساقين، الوجه البشع، الهزال العضلي، الشفة المرتبكة ...ثم تلك الشظية النابتة في اللحم المقدد !

هذه هي البداية ... ولكنها ليست البداية المطلقة، النهائية، التي لا يوجد ما يوازيها من بدايات أخرى .

نقطة الانطلاق الثانية هي عقدته المركبة تجاه ابيه، الأب الذ ي يوصف بالغنى والاضطراب في آن واحد، كان لعنة ورحمة، وقد كانت مسيرته تجاه ابيه ممرا بين اللعنة والرحمة، ونقطة الانطلاق الثالثة هي فشل زوا جه من تلك الشابة الجميلة الرائعة (ريجينا)، وقد تحدث عن ذلك مركزا ومكثفا في كتابه (خوف ورعدة) كما سنأتي عليه .

إنَّ كل ما كتبه الرجل مسيرة متواصلة بين تلك المعاناة وبين الهدف الاقصى، او بعبارة أدق، الغاية القصوى ...

إنّها الخلاص !

والخلاص وحده ...

الخلاص من هذا الصراع الدامي المحتدم في داخله، لم يلتفت إلى الخارج، لم يهمه فقير وغني، ملحد ومؤمن، كنيسة وبار، سيدِّ ومسود، بل ذاته، هناك، القوى التي تتجاذبه بين سلب وإيجاب تجاه كل شيء .

لم يفسر الوجود، وإذا اما أردنا أن ننطلق من فلسفته في تفسير الوجود، فسنلتقي بمفاهيم لا تمت بصلة الى الوجود في سياق المدرسة الفلسفية الكلا سكية، سنلتقي بـ (اليأ س، القلق، الايمان والمفارقة)، وهي محاولة قد لاحظنا مثيلا لها، أي تفسير الوجود بمقولات نفسية، وليس بمقولات الفلسفة الكلاسكية .

يحكي الفيلسوف عن نفسه: (كنتُ رقيقا، نحيفا، ضعيفا، محروما ـ تقريبا من كل الشروط المطلوبة لكي أمارس حياتي العادية مع الاطفال الآخرين، أو حتى لكي أنشأ كرجل مكتمل إذا ما قورن بغيره من الناس، سوداوي المزاج، بائسا بأعمق معنى للكلمة، لكن هناك شيئا واحدا كنتُ أملكه، ذهن حاضر، لمّاح، مُنِح لي مقدما حتى لا أكون عاجزا عن الدفاع عن نفسي، وحتى في طفولتي كنت أعي قدرتي على حضور الذهن، وأعرف أنها ملجأي وملاذي في صراعي مع ا لآخرين الذين يفوقوني قوة) 180 / هيجل إمام عبد الفتاح امام3 ص 374 /

 

هل هو صراع بين الجسد والروح؟

أم هو هزال الجسد بحد ذاته تحوّل إلى محنة فلسفية؟

كان يريد أن يتغلب على هذا الهوان الجسدي، كان يريد أن يعوِّض عن هذا العجز الذي يحول بينه وبين الحرج الخارجي، الحرج الجسمي، العضلي، الذي يقع فيه أمام أصدقائه والناس عموما، لم يكن هناك صراع بين شهوة جسد وتسامي روح، التسامي ياتي هنا بتغليب النظر اليه من حيث طاقته الذهنية، وقدراته النفسية، أجل هناك جدل، وجدل بين روح وجسد، ولكنه ليس الجدل الذي يغني المسيرة، بل الجدل الذي يلغي أحد الطرفين لصالح الطرف الآخر، الاول هو الجسد الكسيح، والثاني هو الذهن الوقّاد، وقد نجح في ذلك أيَّما نجاح، أي صراع بين جسد وروح في مثل هذا الكائن المغلوب على أمره جسديا الى حدِّ اللعنة؟

كانت فلسفته على شكل وثبات، قفزات، كذلك كانت فلسفته، لم يكن يقدر على السير بخط مستقيم كما خلق الله الإنسان، كان يريد أن يجلب النظر الى قفزاته الفلسفية كي يغطي على قفزاته الجسمية المهلكة .

ليس هناك علاج !

العلاج مستحيل ...

فهل يبقى بلا معنى لان جسده كُتِبت عليه اللعنة؟

يقول: (حالتي الذهنية سليمة تماما من الناحية الصحية، وهي لهذا تشتاق إلى إطراح ضعف الجسد تماما، كما يشتاق المريض إلى تمزيق الاربطة، فأنا مثل القائد المنتصر الذي قُتِل جواده في الحرب، ويريد حصانا جديدا، أواه ! هذه الصحّة ا لظافرة لذهني كم تشتهي حصانا جديدا، أعني جسدا آخر) 181 / نفسه ص 276 /

هذه ليست لغة جدل في الدرجة الاولى، وإنما هي لغة تغليب، لغة توكيد ونفي، لغة إمضاء وإلغاء، والجدل العميق ليس بهذا المعنى، بل هو صراع بين طرفين، اضداد، تناقضات، وهناك ما لايحصى من الميادين، فكرية، اقتصادية، سياسية، فنية، عسكرية، اخلاقية .... صراع مستمر ... والثراء ينبعث من هذا الصراع !

إنه الجدل المنتج حقا ..

كان الفيسلوف يبغي إلى التعمية على جسده، ولكن لابد من غطاء، كان الغطاء هو ذهنه الوقاد، الوقاد بشكل مثير .

ولكن ما هي قصّة الاب؟

ولد الفيلسوف في ا لخامس من آيار سنة 1813 في العاصمة الدنماركية كوبنهاكن وكان آخر أبناء لوالدين تقادمت بهما السنون، وقد عُرِف الاب (ميخائيل كيركجور) حياة مرتبكة متناقضة، تدعو الى التأمل، تبدا من عصيان شرس على الله، وتنتهي باستسلام سلس هاديء !

لقد جدف الله في صغره لِما كان يعانيه من شظف العيش وصعوبة الحياة، وفيما كان يعيش سخونة ذلك التمرّد حيث كان راعيا، يقرر الرحيل الى العاصمة بحثا عن رزق أوفر، فكان الحظ إلى جانبه، مما وفَّر له فرصة طلب الثقافة العامة، مستثمرا اعتزاله العمل، مكتفيا بما حضي به من ثروة، ويبدو أن ضميره مازال يحتفظ بتلك التجديفة المخيفة، من هنا، كان صراعه مع نفسه، فالرجل مسيحي كاثولكي في عمقه الروحي والمعنوي، والأمر الأخر الذي صعّد من وجْد الصراع زواجُه من خادمته بعد وفاة زوجته الاولى، رغم أن زواجه الثاني هو الذي كوّن له أسرته بكاملها، ويقال أنه كان على علاقة غير شرعية بها أثناء زواجه الاول !

هل حقا أن ثمن التجديف تلك الثروة التي كسبها بعرق جبينه؟

كيف يكون ذلك؟

كان لابد أن يكون الموقف غير هذا، كان لابد أن يكون غضب الاله ليس هذه الثروة، كان لابد أن يكون تعذيبا وليس هذه الثروة !

الأب الحائر قلبَ المعادلة رأسا على عقب، هذه الثروة بمثابة عقاب على تجديفه، وليس نعمة كما يبدو من التصور الاول، مستلا التفسير من بعض قصص الكتاب القديم، وعليه لابد من علاج، لابد من تكفير..

وكان الحل !

أنْ يهب ابنه الصغير (سورن) للكنيسة، للمخلِّص، للدين، للسيد، فشرع يحثه على حضور الكنسية، وسماع المواعظ، والمشاركة بالقداس، والعشاء الاخير!

الموت راح يحصد كل أخوانه، واحدا تلو الآخر، حتى استنفد كل اخوته تقريبا، فهل هذا هو العقاب الذي كان يفكر به أبوه يوم كان يقارن بين مستحقات تجديفه من جهة، ومستحقات الثروة التي هبطت عليه بعد فقر مدقع من جهة أخرى؟

كان الفيلسوف يشعر بشكل فطري، وبعفوية جارفة، إنه العقاب، والسبب هي خطيئة أبيه، تلك التجديفة الشرسة، فلابد من الفداء، فداء ابيه، فداء الخطيئة، لقد ضحى الاب بالابن ثمنا لخطيئته، فلماذا إذن لا يفكر الابن مرّة ثانية بالتضحية؟ شيء غريب، فلم يعد هناك موضوع لهذه التضحية، لقد كان (سيرن) هو ذاته ضحية تلك التجديفة، وتلك الخيانة الاخلاقية، لقد وهبه الاب للسيد المسيح، فما الداعي أن يفكر الابن بذات المنحى وبذات المشروع؟

هذه المفارقات حوّلت حياة الفيلسوف إلى مرجل من المشاعر الحادة، وكان القلق في مقدمتها، تتجمع بشكل مركز حول فكرة مكثفة، حادة، ساخنة، تلك هي فكرة الخلاص، وفيما كان منهمكا في هذا المرجل، يقرأه ويحلِّله، كانت هناك النزعة الهيجلية تعلن عن انتصارها الساحق في شمال أوربا، حيث الأولوية للعقل، وآليات التفكير الذهني المنطقي، ممَّا ولّد في داخله رغبة خوض معركة شرسة ضد هذا الاتجاه .

أن خطيئة الوالد ولدت في داخله شعورا طاغيا بالحزن، ونحَتْ به بعيدا عن التفكير الجاد بأي ثمن لهذه الحياة غير الكفاح المرير ضد هذا الحزن، وكان من آلية فلسفته، أو فلسفته فعلا في مواجهة هذا الحزن هو المخاطرة، المخاطرة بتحمل الحزن ذاته، تحمل كل تبعاته، ولكن عن وعي وجدارة، عن إيمان بأن هذا الحزن هو اشبه بالتكليف الالهي، وإن لم يكن تكليفا فهو حكم الله .

حقا كان يفكر للانتقام لنفسه ..

 ولكن كيف؟

يجيب: ــ

 (كل إنسان ينتقم لنفسه من العالم، وقد كان انتقامي يكمن في محافظتي على آلامي وهمومي عميقة متطورة، وأن أسلِّي الاخرين جميعا بضحكي) 182 / هيجل، إمام ابراهيم إمام ص 381 /

الحزن ... القلق ... العزلة ... هي المضمون والوسيلة ... القدر وآلية القدر ... الامتحان والمواجهة !

يدخل الفيلسوف مرحلة جديدة سمّاها بـ (الزلزال الاعظم) كان ذلك في سنة 1837، فقد رحل ابوه الى عالمه الآخر بعد ما تصالح مع الله، وفي الوقت ذاته يلتقي وهو طالب جامعي بفتاة رائعة الجمال، هي (ريجين أولسن) فتملك عليه قلبه، ومشاعره، وأحاسيه الجياشة، وتتم خطوبتهما في 10 أيلول سنة 1840، حيث (وجد في موت أبيه أولا، وفي خطبته السعيدة، الحافز اللازم لانتظامه كيما يُنجز دراسته التي كان أقرب إلى إهمالها) 183 / كيركيغارد، بيار مسنار ص 11 /

ليس هنا محل مراجعة تطوره الدراسي، ولكن يضطر الدارس هنا أن يتطرق وبشكل مركز ومقصود إلى نتيجة هذه الخطبة، فقد لعبت دورها البارز في طبع فلسفته، وفي تصميم معماره الفلسفي، بل وفي هذا الكم الغزير من الانتاج، المكثف الافكار، الحاد الاتجاهات.

كيف؟

لا يمكن أن يستمر الحب، حب (ريجينا أولسن)، قرار لا رجعةَ عنه، ليس لنقص في جمالها، فهي بارعة الجمال، وقد لهبها حبُه، إن حبَّه السرِّي العميق لابيه سوف يعاقبه أيضا، إنّه يحب أباه، يعشقه، فهل هو على استعداد للكذب على المحبوب الجديد؟

الصراع هنا يشتدد بين قطبين، قطب الغريزة وقطب المعنى، قطب الذات وقطب نكران الذات .

الفيلسوف يريد أن ينأى بحبه عن الكذب، الخداع، فحبُّ الاب كان متجذرا في عمقه، في وجدانه، وهو لابد أن يفتديه، كما هي قصة ابراهيمُ مع ابنه في القصة الدينية الشهيرة، إذن ليفتدي أباه بإعلان الثورة على هذا الحب، وهي مناسبة رائعة لتوكيد هذا الحب، وتخليص الاب من شر تلك التجديفة اللعينة!

ترى هل هي عقدة الشعور بداء العظمة؟

يتكلم الفيلسوف نفسه عن سبب هذا الفسخ بقوله: (لو كنتُ قد فسَّرتُ لها نفسي، إذن لاشركتها في أمور مرعبة: علاقتي بأبي، مزاجه السوداوي، والليل الابدي الذي يعوي داخل نفسي، وضلالي، وانحرافي، وشهواتي، وافراطي، وربما لم تكن الاخيرة على هذه الدرجة من الرعب في عين الله، لكن القلق هو الذي قادني إلى الإفراط) 184 / كريكجور، امام عبد الفتاح امام 1 ص 137 /

ليس سهلا اكتشاف سبب هذا الفسخ، فهناك نثريات متعددة عن هذا السبب، ومن الصعب حصرها بمعادلة واضحة وبسيطة، ولكن فكرة التضحية بالحبيب من أجل الله، تجعلني أشك بها، إذ ما هو ذنب الحبيب هذا؟ ما الذي اعطى مشروعية للفيلسوف الشاب أن يفلسف فسخه للخطوبة على هذا الاساس، وتفسير ذلك بالاستناد إلى مبدا أو فكرة (اللامعقول) لم تقنع الحصيف، إن عمل إبراهيم وهو يقبل التضحية بابنه أمر غير معقول، ولكنْ كان أمرا قد نزل عليه من السماء، ومشروع الاضحية كان بغية الامتحان، فهل تنطبق هذه المواصفات على موقف الفيلسوف وهو يضحي بخطبته، وهو يضحي بـ (ريجين أولسون)؟

القضية شائكة، وتحمل الكثير من المفارقات والتناقضات، وليس من السهل تجميع كل هذه المفارقات والتناقضات، هنا يشخصُ تفسير خفي، فهناك من يرى أن السبب الحقيقي، هو أن الفيلسوف كان يعاني من عجز جنسي، وهو ما كان يشير إليه بـ (الشوكة في اللحم)، وقصة الشوكة في اللحم معروفة في أدب وخطاب فيلسوف كوبنهكن (... وهذه هي الشظية في اللحم، الشهيرة التي لا يصعب التنبؤ بطبيعتها، ما دامت قد حالت دون زواج كيركغارد، مثلما كانت عائقا دون موهبته الكنسية) 185 / كيركيغارد، بيار منسار ص11 /

فهل هي (العنّة) حقيقة وحقا، ولكنَّ الفيلسوف اراد تغليفها بغلاف مسيحي كنسي يتصل بقكرة التضحية اللامعقولة، كما هو ابر اهيم مع ابنه؟! فكما أن ابراهيم يفتدي كذلك الفيلسوف، فذاك ما يجعله خليفة ابراهيم في مجمتمع منافق، يكترث للمظاهر اكثر مما يكترث للجوهر، مجمتع خال من الروح، مشبع بالمادة، مأسور القلب، مخدّر الارا دة !

يصعب على الكاتب أو المتابع ضبط مسيرة الفيلسوف في ضوء هذه المفارقات بدقة وموضوعية ومنطقية ومنهجية، لان الذات التي يبحث فيها وعنها عبارة عن مرجل من المواقف المتداخلة بعنف، ومن هنا يعسر على من كتب عن هذا الفيلسوف أن يربط بين مقدمة ونتيجة بشكل فني متسلسل معقول !!

 

 3

العذاب هو الطريق إلى الله، إنه طريق مليء بالاشواك والدموع والآلام، وكلما طال مقدار تحمّل معانات هذه المسيرة كلما ترسخّت علاقتك بهذا الطريق إلى الله، ولكن، وهذه هي النقطة المهمة، أن العذاب هذا، وفي هذا لسياق، وفي ضمن هذه المطيات هو سعادة، سعادة قصوى، تماما كما قال جان فال، إن اللذة (تولد من أعماق الالم).

 الفيلسوف كان فريسة علاقة جدلية محتدمة بينه وبين أبيه، بينه وبين المجتمع، بينه وبين جسده، بينه وبين الكنيسة، علاقة متوترة، هذا التوتر اسبابه الجسم الهزيل، تجديف الاب، الشظية في اللحم، العنّة، كانت تتجمع، فتفجرت فلسفة تتوسل باللامعقول على طريق واضح لا لبس فيه، ذلك هو تحمل المعاناة برحابة صدر ولذة شهوية روحية طاغية، وا لهدف أو الغاية هي الله، الخلاص ...

 

 4

والسؤال المطروح هو أين (اللاعقلية، اللامعقول) في تضاعيف وسطور هذه الفلسفة العاطفية الوجدانية الملتهبة؟

إن قوام فلسفته هو الإيمان، والحب هو أصل الايمان كما قلنا، وبالتالي، نحن أمام مفارقة عقلية واضحة، لان الحب عاطفة وليس عقلا، الحب وجدان وثورة روحية وليس مقولات منطقية وقياسات منطقية، الحب ليس هو الايمان وحسب، بل هو طريق الايمان، ودليل الايمان، ومن ثم يقع إيمان (هيجل) في قضبة العدالة، لانه إيمان مقولات جافة، مقولات عقلية، مهما بدا مثاليا في التحليل الاخير .

ان أي مفردة عاطفية تحمل نقيضها، العاطفة تحمل في أحشائها بذرة القسوة، أليس كذلك وهل هناك (لامعقولية) كما نحن بين يدي هذه المفارقة الغريبة؟ المقولة العقلية لا تحمل نقيضها بذاتها، مقولات المنطق الارسطي أو الكانطي مقولات صلدة، صلبة، لا يمكن اختراقها، ولكن الياس والقلق والحزن والالم كلها مقولات نفسية يتجذر في داخلها نفيها، بشكل من الاشكال، وعندما نقول أن اللذة إنما تنبع من أعماق الالم نكون قد سطرنا مسيرة لامعقولة، إذ كيف يكون هناك اجتماع بين لذة وألم في نفس الوقت؟

الخطيئة تمثل نموذجا حيا لهذا اللامعقول، هي تبعدنا عن الله، ولكنّها ذاتها نتوسل بها لنقترب من الله !

ابراهيم عندما يقدم على التضحية بابنه إنّما يقدم على عمل لاعقلاني، ولكن الله يرتضيه، يمنيه بهذا الاقدام للحصول على مرضاته وحبه وعطفه وحنانه!

يقول ما نصّه في خوف ورعدة: (... كان ابراهيم يثير اعجابي، فهو يدفعني في الوقت نفسه الى الاستنكار، لان ذلك الذي ينكر نفسه، ويضحي بنفسه على مذبح الواجب، يتخلى عن التناهي ليظفر باللامتناهي، وهذا الرجل آمن إيمانا كافيا) 186 ص 78 /

الإيمان هو كنز السعادة الابدية، ولكن ليس الا يمان الذي ننحته منطقيا، عقليا، بل الإيمان الذي ينحته العجز، الضعف، وهو في الوقت ذاته ايمان قوي، يهزّ الجبال، فإبراهيم كان إيمانه نابعا من التسليم، التسليم المطلق، كان فارس التسليم بامتياز، لا شك أن هناك جهادا في العالم (الإنسان ضد الإنسان، واحد ضد ألف، إمّا ذلك الذي سعى إلى الله فهو أعظمهم جميعا ... أجل ثمة كفاح على الأرض، وكان هناك من قهر الجميع بقوَّته، وكان هناك من كسب الله بعجزه، وكان هناك نم أعتمد على نفسه فربحا لجميع، وكان هناك من هو آمن في قوّته وضحّى بكل شيء، أما ذلك الذي آمن بالله فهو أعظم الجميع) 187 خوف ورعدة ص32 /

هي جدلية رائعة من حيث التركيب، الايمان عن ضعف يقهر الضعف، ويتجاوز الضعف، يقاوم الهوان، هوان الحياة، وذل السلطان، وعبودية الشهوات، فهل الايمان عن عقل وفكر واستنتاج واستقراء يبقى أسير نفسه، ولا يتجاوز الضعف، ضعف النفس، وقهر الشهوات؟

الإيمان معجزة، ويتابع فيلسوفنا سيرة (ابراهيم) خطوة خطوة وفي كل خطوة يجلِّي دور إيمان ابراهيم في صنعها، والتمهيد لما بعدها، وايمان ابراهيم هو ايمان التسليم المطلق، دونما محاكمة أو محاججة، ولهذا كان قويا، كاسحا، لم يتفر ولم يذبل !

ابراهيم، وبالايمان خرج الى جبل (مريا)، وبالايمان تل جبين اسحق، وبالايمان صرخ بوجه اسحق معلنا له أنه ليس مؤمنا، وإنّما هو وثني، كي لا يحمل اسحق حقدا على الرب، وبالايمان تلقى (ابراهيم العهد بأن ذريته من الأجناس جميعا ستنالها البركة) 188 / ص 33 /

الايمان هو تاريخ ابراهيم عليه السلام، والفيلسوف إنّما يهتم هذ الاهتمام البالغ بايمان ابراهيم لان ا يمان ابراهيم قلبيا، ليس عقليا، وإلا لو كان الايمان هذا نتيجة دليل فلسفي منمَّط لما كان له كل هذا الوقع في الحياة، ولما صنع هذه المعجزات الرائعة !

 

تُرى ماذا كان موقف (كريكجور) لو استطاع أن يتجاوز محنة جسده بشكل طبيعي، لو كان يملك عافيته كاملة، أو كان على قدر كاف من العافية؟ فهو يروي لنا: (... إنّه لم يشعر أبدا بما شعر به الشبان من أن أمامهم حياة طويلة يحيونها، فكان أن يشعر دائما بأن أمامه حياة لن تتعدى الستة أشهر، وهيهات ...هيهات) 188 / فلسفة الدين عند كيركجارد ص 16 .

هل كانت موضوعة الايمان اللاعقلي هي المتسيِّدة على فكره، ونبضات قلبله، وشاعرية اسلوبه، وهتافات روحه العذبة الصلبة في آن واحد؟

تُرى ماذا كانت نتيجة الخطوبة من (ريجينا أوسلن) فيما لو كان جسده بريئا من (الشظية في اللحم)؟

هل سوف تتأسس في ضميره قصة التضحية، التضحية بفتاة مصيره، من أجل أن يكفِّر عن خطايا أبيه، بل وربما خطاياه هو بالذات في السر؟

قد لا نخطا القول فيما تصورنا أن ثورة الفيلسوف هذه سببها آثامه السرِّية، وليس تجديف الاب الذي مات وانتهى كل شيء، وقد لا نخطا القول أيضا إذا قلنا أن الفيلسوف لو كان صحيح البدن، لما طرح الإيمان عن عجز، بل لطرح الايمان عن عقل وتدبر وخبرة وفكر، ربما ذلك صحيح، أليس كذلك؟

إن حياة ابراهيم كا نت ضد العقل، أو بتعبير أدق كانت تخلو من العقل، فهو بفضل اللامعقول اجتاز هذه الرحلة الطويلة المضنية، الهجرة، والتضحية، وغيرها من مفردات الحياة الابراهيمية كا نت بمثابة انتحار عقلي، مسيرة مشوبة بالحذر العقلي، ولكنها كانت مملوءة بالحماس من جهة أخرى، لا نها منطلقة من الإيمان القائم على التسليم .

 

............................

ملاحظة: هذه الدراسة فصل من كتاب عن العقل في ثلاث اجزاء يصدر مستقبلا بإذن الله

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1478 الخميس 05/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم