قضايا وآراء

أصيلة.... / ذياب شاهين

فرعاء

كأحلام ليل بعيد

تتلوى تحت قبلاتي

كسفينة يشدها

الموج للقرار

وإذ ترتعش القدود

قرينها يمسح

عن قرطها الغبار

فتستطيل على محاجر

عيونها الرموش

فتقفز كعروسة البحر

من بين المروج

يسحرني نصفها الأعلى

أركع تحت نهدها

كملك متوج

بلا عروش

وإذ يلوح خط العمر

في كفها

ألمح اسمي متأرجحا

على صدرها

فأهتف: أميرتي

أنا الأمير

لقد صدقت الرؤيا

وكان الوصول إليك

صدى

تردده باصطخابها

سفينة العروج

عندما هاتفني الصديق الشاعر محمد عيد ابراهيم، ليخبرني بأن الوزارة طلبت منه رقم تلفوني،  وعندما استفسرت منه عن السبب ضحك، بمحبة أخوية غامرة، كن في الواقع يزف لي بشرى اختياري ضمن وفد الوزارة إلى أصيلة، ظننت أنها دعابة من دعاباتنا التي نتبادلها معا، ولم أكن مصدقا لما يقول حتى أنني كنت أظن أن أصيلة في عُمان حيث اختلط اسمها علي مع صلالة  العمانية، وعندما قلت له وهل سنذهب بالسيارات، فقال لي عن أية سيارات تتكلم..  أصيلة في المغرب. ماذا؟ هل سأذهب إلى المغرب، وأنا الذي لم أر في حياتي سوى الأردن والامارات وهذا حدث لأنهما كانتا  في طريق رحلتي الحياتية، أما على مستوى مدن العالم فلم أر في حياتي سوى أسطنبول. إذن سأذهب هذه المرة إلى أفريقيا حيث المغرب الذي طالما سمعت عنه وحلمت بزيارته، ولكنني كسول وليس من الذين يسعون لتحقيق أحلامهم ورؤية الأماكن التي يودون رؤيتها، لأنني ببساطة شديدة لا أحب مفارقة الأمكنة التي أعيش فيها إلا مجبرا. أما سفرة أصيلة فكانت خبرا سعيدا ومفاجأة رائعة كسرت رتابة حياتي ولو لبضعة أيام.

عندما جلستْ قربي هالتني غمازتا خديها، كانت عيناها سوداوين، شطباء سمراء بضحكة فاتنة، قالت لي بصوت رقيق كأمواج الأطلسي :-

بيتي عند قمة أفريقيا، لا بل أنا رأس أفريقيا أودع الشمس في الغروب كل يوم، سرة الكون أنا، تتصافح عندي قارات العالم، يلتقي عندي الماءان أبيضه وأطلسه أتكلم العربية بلهجة أندلسية وارفة، قلت في نفسي آه لو أقبل هاتين الشفتين البلوريتين اللتين ينبجس من بينهما الشهد، سَمِعتْ ما قلتُ، انحنت على شفتيّ ـ لم أذق مثل قبلتها من قبل أبداـ ثم أكملت قائلة:-

إبنة طنجة أنا، ألا ترى أني أشبهها، طبعا قلت، أخواتي سبتة ومليلة، تذكّـرْ ذلك ولا تنساه، ومن ينسى ذلك فاتنتي، ثم أردفت وهي تسرّح النظر إلى البعيد، رأيت أنوار الأطلسي منبعثة من عينيها الساحرتين وهي تقول:-

( قديما كنت أدعى زيلس، فتن بي القصاصون والمؤرخون عاصرت قرطاجنة، كنت أسك النقود ومن يحكمني ينتخبه أبنائي، وكنت أتمتع بالكثير من الحريات والحقوق، أما اسمي الحالي فقد حصلت عليه عندما توضأت بنور الاسلام في منتصف القرن الهجري الأول، وظهرت إلى الوجود مجددا في العام 833م، وقد بنى حولي سورا يحيط بقصره القاسم بن ادريس.)

كانت سنوات التاريخ تمتعض من تلخيصها، وكنت أرى كيف تتقزم السنوات والشخوص في أسطر عديدة، ولكنها أخبرتني  أن ما قالته كان موجزا أما التفاصيل فهي محفوظة في الكتب لمن يقصدها، يا لكلامها العبق فقد أحيت بسطورها جثة التأريخ وكشفت لي عن نهد متوهج يحاول أن ينقض على رجولتي.

بعد عدة أيام من تبليغي بالسفر إلى المغرب من قبل أحد موظفي الوزارة، كانت مفاجأة سارة ورائعة عندما هاتفني السيد وكيل وزارة الثقافة الأستاذ بلال البدور شخصيا، ليؤكد لي بأن الوزارة قد اختارتني لأكون ضيف شرف ضمن وفدها المغادر إلى أصيلة ولأن دولة الامارات العربية ستكون ضيف شرف هذه الدورة كما أن الدعوة سترسل إلي لاحقا، إذن  فسأصاحب زملائي وأصدقائي من أدباء الامارات وآخرين لا أعرفهم، وكانت سعادتي لا توصف بهذا التشريف الكبير والكريم من الوزارة الاماراتية، كما أن اختياري من ضمن عشرات الكتاب والنقاد الذين يعيشون معي على أرض الامارات الحبيبة وضع في رقبتي مسؤولية مضاعفة يجب أن أكون بحجم هذه المسؤولية، لم يكن شكري للسيد الوكيل بلال البدور إلا عرفانا مني بجميل الوزارة الذي لن انساه مطلقا، وذلك لأنني لم أكن أتوقع أن تدعوني جهة ثقافية أو إدارة مهرجان في يوم من الأيام للحضور، لذلك فأنا أعترف وهذا ليس عيبا بانني لم أسافر ولم أدعى إلى أي مهرجان بالرغم من كثرة المهرجانات شرقا وغربا طيلة حياتي الأدبية، والأدباء من أمثالي يعرفون السبب فليس بالضرورة أن تكون مبدعا حتى تتم استضافتك بل لا بد من علاقات كبيرة وحسابات معقدة واتصالات، وأنا شخصيا لا أتقن هذه العلاقات ولا أسعى إليها كما أنني أشعر بالخجل الشديد من أن أطلب أو أتوسط كي تتم استضافتي، ومع ذلك يجب الاقرار بأنني قد دعيت مرة واحدة للمربد في آخر دورة له في عهد النظام السابق وكنت في حينه في الامارات العربية، لكني لم أقم بتلبية الدعوة في حينه، أما في عهد النظام الحالي الذي كنا نأمل منه خيرا فلم توجه لنا دعوة أبدا، وحتى عندما أقيم الأسبوع الثقافي العراقي في الامارات وكان ضمن برنامجه وجود أمسية شعرية للشعر العراقي، لم يدعونني بل لم يدعوا أي شاعر عراقي من المقيمين في الامارات للقراءة مع الشاعرين اللذين جاءا مع الوفد،  ذلك لأن الوزارة لا تعترف بوجودنا بل أنها لا تعرف أصلا بوجود أدباء عراقيين في الامارات، وقد يكون رأيها كرأي بعض زملائنا  الأدباء في العراق فهم أيضا لا يعترفون بعراقيتنا نحن المغتربون في الخارج و هم يسموننا أدباء الخارج الله يسامحهم، أما الأمسية فكانت بائسة جعلت أحد الأخوة الشعراء العرب يلتفت إلي قائلا هل هذا هو الشعر العراقي. فقلت له هذا لا يمثل إلا نزرا ضئيلا منه والكثير لا يزال مركونا هناك في العراق وسيظهر في يوم ما إنشاء الله. وبالطبع فأنا قد اكتويت أكثر منه ولكن ماذا كان لدي لأقوله بدلا مما قلت، لا شيء ببساطة شديدة.

عندما كانت فتاة الأطلسي تستمع لما اكتب أحزنتها آهاتي فربتت على رأسي بكل رقة وحنان  كان طعم أصابعها كطعم مقاطع من منثورات النفري الباهرة، ولكني توسلتها أن تستفيض وتحكي لي شيئا آخر وجديدا من  الحكاية أي حكايتها هي، فقالت بصوت كانت موجاته تميت الصفير وتحيي الموتى:-

نعم ..كنت مرفأ صغيرا وقد تصارع عليّ المروانيون والعبيديون ومرّ عليّ الأدارسة، وقد احتلني الغرباء البرتغاليون واستمات أبنائي في الدفاع عني وقد استشهد الكثير منهم وعند سقوطي بأيديهم استولوا على بيت المال وحولوا مسجدي الكبير إلى كنيسة، لقد حولني البرتغاليون إلى قلعة حصينة لهم تعلو أبراجي المدافع ونقاط الحراسة، وخلال قرنين انفتحت شواطئي لاستقبال السفن من انحاء أوروبا كافة لتنقل ما تجود به وديان المغرب وجبالها من فواكه وغلال ولتستقبل ما كانت تصنعه مصانع أوروبا من بضائع . وأخيرا تم تحريري من قبل الجيش المغربي الذي سحق الجيش البرتغالي وحلفائه الاسبان وغيرهم وتم تسليمي في العام 1589م  إلى الساطان أحمد المنصور السعدي، حيث انتقل إلي أناسٌ آخرون وسكنني سكان جدد جاءوا من الريف، ثم حصل توسع عمراني أشتمل على بناء مسجدين ومدرسة وحمام وأحياء سكنية، أما الأعداء فلم ينفكوا عن مهاجمتي والاعتداء عليّ  حيث هاجمني الأسطول النمساوي في العام 1829 وكذلك الأسطول الأسباني خلال حرب تطوان في العام 1860م، إلا أن ألله نجاني من شرورهما.)

وحين أنهت كلماتها رأيت بريقا أخاذا وقدرة خلابة على البقاء مشحونة بعذوبة لا يجود بهما سوى البحر والصخور في أمسيات وليالي طنجة التي لا تنام  في تموزالساحر، ولكني لم استغرب ذلك لأنها ابنة البحر والجبل اللذين يحنيان عليها، كانت رائحتها تهب عليّ وأنفاسها مسكرة كعاشقة بارك الله لها في عشقها ووجدها.

في الثالثة والنصف صباحا جاءتني سيارة من وزارة الثقافة  كي تأخذني للمطار، وكنت قد وظبت ملابسي وحقائبي قبل أن أنام، في الواقع لم أنم، لئلا يأخذني النوم ويفوتني موعد الطائرة، انطلق السائق بي من أبو ظبي إلى مطار دبي، وكان اسمه (زبير) وكنت أظنه سودانيا،لكنه أخبرني أنه هندي من كيرلا(خير الله) وهو أصل الكلمة بحسب السائق، وهو ما كنت أعرفه أنا عندما ألتقينا بالأدباء الهنود في أبو ظبي قبل عامين، كان السائق يتكلم العربية بصورة ليست رديئة ولكنها مفهومة فهو مقيم  في الامارات منذ زمن ليس بالقليل، الطريق بين أبو ظبي ودبي يستغرق ساعتين أو أقل قليلا، وأخذ السائق يتكلم وأنا استمع إليه، في الطريق توقفنا عند إحدى الاستراحات وشربنا شايا وأكلنا بعض السندويجات ثم انطلقنا إلى دبي، أخبرني السائق أن اسم دبي أطلقه الهنود عليها وهي تتكون من مقطعين هما (دو) ويعني اثنين و(بيْ) ويعني خليج، وأنا لست متأكدا مما يقوله السائق، فالمقطع الأول قد يكون هنديا ولكن المقطع الثاني انكليزيا إذا كان الاسم يتكون من مقطعين فعلا، على أية حال لم  أعبأ بما قال فأنا أريد أن أصل المطار ولكنه فجأة سألني هل تعرف معنى (أبو ظبي)، فأجبته وهل أنت تعرفه قال نعم.. وما هو؟،  كان جوابه شيئا مضحكا فهو ينطق أبو ظبي (أبو دَبي)، ولذلك فأنه يعتقد بل يجزم أن أبو ظبي تعني والد دبي، أو أن دبي هي أبن أبو ظبي، لقد أضحكني السائق فعلا، وبقيت الطريق كله ابتسم وهو لا يعرف لماذا أبتسم، على أية حال، وصلت المطار أنزلت الحقائب والكاميرا وذهبت إلى مقصورة الدرجة الأولى، هناك التقيت الصديق الناقد د.صالح هويدي، ولم يكن غيرنا أو هذا ما تبادر لنا فنحن لم نعرف من سيأتي معنا، صعدنا الطائرة ثم انطلقت بنا نحو الدار البيضاء في السابعة والنصف صباحا.

يبدو أنها كانت تبتسم لابتسامتي كان رأسها متكئا على شواطئ الأطلسي، فهي ترى السفن والبحارة وقد رحلوا إلى البعيد، وكانت تتطاحن دونهم الكلمات والحروف في الوثائق العتيقة، كنت أرى في كل بقعة على جسدها الأسطوري أثرا لأقوام مرت واندثرت عجبا لهذا الجسد البض الذي يحفظ التاريخ وينقشه جدرانا وقلاعا وأسوارا ومدارس وذاكرة ترى أين ذهب كل ذاك وكيف مر الجميع من هنا، كانت تتنصت لقلمي فزجرتني بدلال العاشقة وكأنها تريد أن تكمل حكايتها الباذخة، أجبتها معتذرا أكملي يا شعلة الأطلسي المتأججة ودعيني استمع إلى نبض فؤادك الكبير فقالت:-

سأدخلك إلى دهاليزالمكان، وأريك مرايا الديجور الأبيض والشرفات الزرقاء والخضراء،  ستدخل من خلال احدى بواباتي الثلاث، ثم بادرتني بالسؤال : أتعرفها ؟ وعندما حرت جوابا... قالت لا بأس عليك أيها الفراتي الذي لا يعرف عني شيئا، ثم استطردت قائلة:- أبوابي هي باب القصبة، وباب البحر وباب الحومر، وتوجد بداخلها قيسارية لمنتجات الصناعة التقليدية، وساحة " القمرة " التي تقام بها سهرات الهواء الطلق خلال الموسم الثقافي، وساحة أخرى تشرف على البحر يسميها أبنائي ساحة " الطيقان " تؤدي إلى بُريْج " القريقية " الشهير الذي يطل على المحيط، ولكني تذكرت فجأة قصر الثقافة وقبل أن أسألها عنه فاجأتني قائلة:-  أتذكر قصر الثقافة،  وحين ظهر التعجب على وجهي ضحكت وكأنها عرفت سبب العجب فقالت: إنه قصر الريسوني القديم وهو من أهم معالمي، وقد تم ترميمه في منتصف التسعينيات ليصبح فضاء يحتضن بعضاً من أنشطة موسم أصيلة الثقافي، إذ تُقام به ورشات فنون الرسم والنحت والحفر وبعض السهرات الفنية. وعلى بعد أمتار قليلة من باب القصبة، يوجد مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية الذي كان في الأصل مخزنا للحبوب، قبل أن يُعاد بناؤه وفق هندسة جميلة، ويتحول إلى مقر رسمي لمؤسسة منتدى أصيلة وفضاء لاحتضان المفكرين والأدباء والمثقفين والمبدعين من مختلف مناطق العالم خلال أشغال جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في إطار فعاليات الموسم الثقافي. فجأة تناهى إلى آذاننا صوت الآذان سكتت عن الكلام المباح، ثم صلينا الفجر، ونمنا على عسل الكلام.

حطت الطائرة في مطار كازابلانكا (الدار البيضاء) في الساعة الواحدة ظهرا أو أكثر بقليل، وعند فحص الجوازات التقينا القاص أبراهيم مبارك والروائية سارة الجروان، ولأول مرة أتعرف عليهما، ثم عند باب المطار استقبلنا موظفو السفارة وأخرجونا مع حقائبنا ثم وجدنا الباص الكبير بانتظارنا، صعدنا فيه حيث انضم إلينا الشاعر علي الشعالي والشاعرة خلود المعلا، وهي المرة الأولى التي ألتقي بهما أيضا، لم أكن أعرف أن الرحلة طويلة وستستغرق ستة ساعات في الباص من الدار البيضاء إلى طنجة، فضلا عن الثمان ساعات التي قضيناها في الطائرة، الرحلة شاقة كانت ولكني كنت أريد أن أرى المغرب بجمالها الخلاب وجوها الرائق وكأننا في ربيع العراق أو في شتاء الامارات فالجو معتدل وجميل، على أية حال فالسفر يضيف نكهة ويزيد من فرص التعارف وقد تكسرت رويدا رويدا الجدران بيننا، إذ لم تمر سوى ساعة حتى صرنا نتعامل بالفطرة وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنين عدة، أخيرا وصلنا إلى فندق رامادا مقابل شاطئ طنجة وكورنيشها الساحرين، كنت تعبا فنمت، لم تمر أكثر من ساعة، رن التلفون وكان الصديق صالح هويدي يدعوني للنزول وتناول العشاء، لا أدري لماذا لم استسغ طعام الفندق، وقد كان رأي الجميع بطعام الفندق مثل رأيي، بعد الطعام تسرب الجميع فوجدت نفسي اتجه للمصعد ثم للغرفة، كانت الساعة العاشرة ليلا وضعت رأسي فنمت حتى الصباح، استيقظت في التاسعة صباحا، ثم نزلت للمطعم لتناول الفطور، بعد ذلك جلسنا في الصالة أخبرني الدكتور صالح هويدي أننا سنذهب إلى أصيلة في الرابعة عصرا، صعدت مرة أخرى للغرفة لاعادة قراءة ما كنت قد كتبته في أبو ظبي بالرغم من أن موعد أمسية الشعرسيكون في اليوم التالي. جلست في الشرفة وكان الهواء يأتي متدفقا فيملأ رئتيّ بدواماته النازلة من الجبل فتشرب ماء البحر لتخترق الشرفات سكرى بطعم لم أذق مثله من قبل، وأين أذوقه وأنا أنهيت حياتي في العراق حيث كانوا يضحكون علينا  ويقولون لنا رائحة البارود كرائحة الهيل. لقد أسكرني الهواء فنمت مرة أخرى، لم أستيقظ إلا في الثالثة والنصف، يبدو أن ساعات السفر قد أنهكتني حقا، نزلت للصالة فأخبروني بأننا سنذهب إلى أصيلة في الخامسة، قلت لأتناول الغداء ثم أصعد لتبديل ملابسي، في المطعم أخبروني أنهم سيأتوني بالطعام للغرفة، تأخر الطعام كثيرا تناولت الطعام بسرعة ثم نزلت فلم ألحق الباص حيث غادرالأدباء قبلي، ولكني حين استفسرت من مسؤول الخدمات أخبرني هنالك سيارة أخرى ستذهب فلا تقلق أجلس في الصالة ونخبرك حين وصولها، وفعلا خلال خمس دقائق وصلت السيارة وكانت مخصصة لصحفي ومصور من وكالة الأنباء اإماراتية (وام) فركبت معهم، كانت المسافة قصيرة ولكنها استغرقت ما يقارب النصف ساعة  بسبب الازدحام، وصلت أخيرا إلى أصيلة، مباشرة ذهبنا إلى قصر الثقافة حيث ابتدت أمسية اليوم الأول وهي خاصة بالرواية الاماراتية، حيث تم  قراءة  أواراق عدة ابتدأها الروائي العراقي الكبير الأستاذ جمعة اللامي وشهادة للروائية سارة الجروان، وقرأ نقاد من المغرب أوراقهم ومنهم الدكتور عبد اللطيف محفوظ وسعيد علوش، ثم افتتح الحوار والأسئلة وشارك بعض النقاد والجمهور وكنت أنا من ضمن الذين تداخلوا مع المحاضرين. بعد نهاية الأمسية التي ترأستها الشاعرة الاماراتية نجوم الغانم، كنا خارج القاعة عندما إقترب من الطاولة التي كنا نجلس عليها أنا والناقد صالح هويدي الوزير محمد بن عيسى وصافحنا بوجهه المشرق وهي المرة الأولى التي أتعرف بها عليه وألتقيه، كان وجهه مبتسما وتدخل إليه بدون بروتوكولات ولا أذونات، تحبه مباشرة ولا تدري لماذا؟ لقد أيقنت أنني أمام شخصية ثقافية من طراز رفيع، وكذلك قابلت الأستاذ بلال البدور وسلمت عليه ولأول مرة أراه وأتكلم معه منذ المخابرة التي حصلت بيننا في أبو ظبي، لقد رشحني للندوة بالرغم من أنني لم ألتق به شخصيا من قبل  وتعرفت عليه في المغرب وهذا شيء نادر الحدوث وقد يبدو غريبا ومفاجئا، ولكن هذا هو الذي حصل، كان يكشف من خلال مداخلاته في الندوات عن مثقف عارف ومطلع على خفايا المشهد الاماراتي بكل تقلباته وتوجهاته الصاخبة، حقيقة كنت جد سعيد لأني تعرفت اليوم بشخصيتين ثقافيتين عربيتين لا يمكن أن   تنساهما الذاكرة أبدا.

شهرزاد المغربية كانت مشدودة لما أكتب حتى أني رأيت في عينيها زهوا وفخرا غير عادييين، وكأنها تقل لي إن ما رأيته جد قليل عن إبني محمد بن عيسى، فهو الذي وضعني على خارطة الثقافة العالمية وهو الذي أخرجني من سباتي وجعل من أسمي ومواسمي متلألئة بين المدن الثقافىة في العالم، كنت أغبطها بحق فهي معذورة بعشقها لهذا الابن البار الذي يحبه المثقفون كافة ويحتفل به أبناء المغرب وأصيلة قبل أن يحتفل هو بهم وبمحبتهم، لكني أردت أن أخرجها من وجدها وعشقها هذا كي تكمل لي حكايتها، فقلت لها:- يا شهرزاد الأطلسي ألا تكملي لنا الحكاية فهزت رأسها المغربي الجميل وكأنها تقول لي سمعا وطاعة يا ضيفنا العراقي الذي يزورنا لأول مرة فبادرتني متساءلة: أين وصلنا بالأمس؟ قلت لها:- عند باب البحر.. فقالت بصوت مغربي ساحر :- حقا ... قلت : -والله .. فأكملت وهي نشوانة:-

وبجوار باب البحر، ستجدغير بعيد عن مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، برج " القمرة " التاريخي الذي قضى به دون سيباستيان ملك البرتغال ليلته الأخيرة قبل قيادة جيوشه إلى معركة وادي المخازن، وقد أعيد ترميمه في بداية التسعينيات بمشاركة وزارة الثقافة المغربية ودولة البرتغال بمبادرة من جمعية المحيط بعدما كان آيلا إلى الزوال، وهوالآن يحتضن معارض خاصة بالفنون التشكيلية والصور الفوتوغرافية. وفي مدخل المدينة العتيقة من جهة باب القصبة، توجد حديقة " تشيكايا أوتامسي " التي شُيّدت تكريما لهذا الشاعر الكونغولي الراحل الذي كان أحد أصدقاء مدينة أصيلة الأوفياء. أما خارج أسوار المدينة العتيقة، فتوجد معلمة مهمة في الطريق الرئيسي الرابط بين أصيلة والعرائش تسمى " كدية السلطان "، هي عبارة عن فضاء على شكل مسرح دائري صغير في الهواء الطلق، يعلوه نصب إسمنتي على شكل موجة من تصميم الفنان التشكيلي محمد المليحي، شُيّد فوق ربوة كان قد توقف بها المغفور له محمد الخامس أثناء مروره من مدينة أصيلة متوجها إلى مدينة طنجة لإلقاء خطاب 9 أبريل سنة 1947.

بعد أمسية الرواية ذهبنا للعشاء، وقد نقلتنا سيارات صغيرة، وكنت جالسا بقرب الصديق الروائي جمعة اللامي، كانت السيارات مكشوفة الجوانب فلا زجاج ولا شبابيك ولا جدران بين الضيوف وأهل المدينة، وحين اخترقت السيارة بنا أزقة أصيلة وحاراتها، كان الناس في عيد والطرق الضيقة تعج بالشباب والشابات من أبناء أصيلة وكذلك النساء والأطفال والشيوخ، كان الشارع يحاذي الأسوار المطلة على البحر، شواطئ البحر التي كانت تجلب البضائع والمغامرين والمحتلين والأساطيل لم تتعب فبقت حانية على أصيلة وكنت أرى الناس تسبح على رمال الشاطئ من أعلى الأسوار، كان العشاء شهيا جدا حيث مسح الصورة السيئة التي تركها طعام الفندق في ذاكرتي، وكان الغداء في اليوم التالي وفي القصر ذاته أكثر من رائع فقد تناولنا ما نعرفه وما لا نعرفه من المائدة المغربية اللذيذة، وقد أختتم المحور الأدبي في أمسيتين  الأولى صباحية قدمتها الروائية المغربية زهور كرّام  وكانت عن القصة القصيرة وشارك فيها نقاد وكتاب من المغرب وتونس والعراق والامارت حيث ألقى الدكتور صالح هويدي  ورقة فيها وكذلك ريم العيساوي ونقاد من المغرب منهم الدكتور نجيب العوفي وألقى القاص إبراهيم مبارك شهادة عن تجربته القصصية وكذلك فقد قدم القاص والروائي ناصر الظاهري ورقة عن تجربته الكتابية،عند المساء اختتمت الندوة بمحور الشعر، بدأها الشاعر عادل خزام بمحاضرة استخدم فيها جهاز عرض الصور حيث عرض صورا للشعراءالاماراتيين الرواد، وقدم النقاد المغاربة بحوثا عن الشعر الاماراتي ومنهم حكيم عنكر ويوسف ناوري.

أما أنا فقد تكلمت في الندوة عن علاقتي بالشعر الإماراتي وقدمت ملخصا سريعا عن كتابي المعنون(الشعرالاماراتي المعاصر/قراءة سيميائية ظاهراتية تأويلية) ثم لخصت ورقتي التي كانت عن بدايات الشعر الاماراتي الحديث، وكذلك فقد قـُدمتْ شهادتان شعريتان لكل من خلود المعلا ونجوم الغانم،وكانت الندوة برئاسة القاص الاماراتي ناصر الظاهري، وكذلك استمع الحضور إلى قراءات شعرية لعادل خزام ونجوم الغانم وعلي الشعالي وخلود المعلة، وقد علمنا أنها المرة الأولى التي يقدم الشعر في مهرجان أصيلة.

في الظهيرة ما بين الندوتين القصصية والشعرية اقتنصت مع الصديق صالح هويدي ساعة أو أكثر بعد الغداء فدلفنا لأسوق أصيلة، اشترينا بعض الهدايا  من أساور وقلائد وأحذية جلدية، كانت للباعة في سوق أصيلة ومحلاتها  وجوه ضاحكة ومتسامحة، تشاكل وجه مدينتهم الأبيض  وكانوا يسألوننا عن بلداننا وحين يعرفون بأننا من العراق تنزل الأسعار بدرجة غير عادية وتصل إلى النصف أحيانا، كان ختام أيام أصيلة رائعا، ولأول مرة  أرى أناسا  عاديين يكرمون، فقد كرم المهرجان الصياد والاسكافي والممرض والأم المثالية والمرأة التي تجمل واجهة بيتها والأدباء الصغار والطلبة المتفوقين، لقد كُرّم هذا الكم النوعي من الناس وجعلنا نصفق لهم بحرارة ولم نستطع أن نمنع أحاسيسنا من التأثرونحن نعيش لحظات هذا المشهد الانساني المؤثر، وبرقت عيوننا لهذه المحبة التي يغدقها الوزير المثقف محمد بن عيسى على أبناء مدينته وهم يكادون أن يسقطوا خجلا من هدير جمهورالحاضرين وتصفيقه لهم أمام  أضواء الكاميرات التي تخطف الأبصار،......

فجأة انتهى الحلم وانتهت المغامرة بلمح البصر، ها نحن راجعون للامارات الحبيبة، إنها عدة أيام ولكنها ستبقى حاضرة في الوجدان للأبد،عندما كانت تطير الطائرة باتجاه دبي نظرت إلى أسفل إلى حيث ينقلني البصر، رأيت ذات الغمازتين تلوح لي من بعيد... لوحت لها بيدي ولكن هل يمكن أن تراني، لا أدري...نمت وفي الحلم أكملت قصيدتي:-

أصيلة

لما التقت راحتينا

هوتْ كأوراق توت

حروف الوداع

لتنأى بعيدا

خيول السنين

 

أصيلة

ضعي كفك

على خافقي

وعند السحر

قبـّلي شفتي

فلك في مدائن روحي

مدن ومرافئ وقلاع

غدا نلتقي ..ربما

ولكن لا تيأسي

فما بين الظنون

إلا الظنون

فقد قامتْ على رأسك

ريشة من صبوتي

فكل الرياح

التي

استودعتها يداك

نثارا لدى مسمعي

ستبقى هديلا

يريق الشجون

على مهجتي

فهاتي اقطفي

بسبابتيك

زهرة من جواي

وارشفي

رشفة من كروم

الحنين

 

أبو ظبي

‏الإثنين‏، 02‏ آب‏، 2010

e-mall:- [email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1480 السبت 07/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم