قضايا وآراء

رائد (اللاَّمعقول) الإيماني الحديث (2-2) غالب حسن الشابندر

... يلتحق ... يتعلق ... يذوب في هذا اللامتناهي، المطلق، الكلي، ولكن ليس بقرار عقلي، ولا بطريقة عقلية، بعيدا عن لغة ا لعلة والمعلول، الاثر والمؤثر، الدليل والمدلول !

ان فيلسوفنا ينطلق من سوداوية الوجود، من قلق الحياة، من الآلام، وليس من نظام العلّة والمعلول، بل يدّعي أن مثل هذه الانظمة الاستدالية لا تبرهن على الايمان، بل تسيء الى الايمان، إن الإيمان قضية روحية وجدانية، والعقل محكوم بمقتربات الزمان والمكان والمقولات المنطقية الجافة الجامدة، فأنَّى له أن يكتشف الإيمان الطري، الإيمان الشفاف، الإيمان الروحي، العقل ينشد اليقين، والإيمان إذا وقع في قبضة اليقين يجف ويذبل، إذ ما ذا بعد اليقين بالشيء سوى هجره، وتناقص قيمته، هذا فيما إذا صح يمكن أن يخضع الإيمان إلى دائرة العقل .

ويتصعَّد الفيلسوف أكثر، فيرى أن الإيمان ليس قضية موضوعية، أي لا تخضع لبرهان من خلال نظام وجودي خارجي، بل البحث عن الإيمان ينبغي أن يكون داخل الذات، في صميم النفس، من خلال تناقضاتها، من خلال مآسيها، شقائها، عذابها، الأمر الذي يبعد الايمان عن محاكمات وقياسات العقل، لم يرتضِ الفيلسوف أن يبحث عن الله من خلال المشتركات، بل من خلال التفرّد، تفرّد كل ذات بذاتها، إن البحث من خلال المشتركات يقر الموضوعية، ويقر بدور العقل هنا، فـ (الله لا يكون بأن يبحث الإنسان عما هو مشترك في نفسه مع الاخرين، ولكن على العكس من ذاك، يتعمّق ما هو فردي متميز خاص في نفسه، وفي هذا التعمُّق ينكشف الله الفرد، فمن التناقض أن يبحث الانسان عن الوجود خارج نفسه، لان كل ما هو خارج نفسه ظاهر بالنسبة إليها، وإنَّما يجب ان أبحث عن الوجود في أعماق نفسي، لأن هذه النفس تشارك في الوجود) 189 / نفسه ص 51/

يترتب على ذلك استحالة الجمع بين الديانة المسيحية والفلسفة، هما متنافران، الفلسفة لا تستطيع أو من المستحيل (أن تفهم وتكتشف حقيقة الوجود ا لمسيحي، لأنها قائمة على مقولات غير عقلية، ويعجز العقل مهما اُولِي من قوة أن يستنتجها) 190 / نفسه ص 53/

والمقولات هي هنا القلق، الانفعال، المفارقة، المخاطرة، الياس، منها أتصعَّد إلى الايمان، وليس من نظام الكون وجماله ومعجزاته وعطاءه !

الإيمان شذرات وجدانية من حب ومخاطرة ومعاناة وشقاء ويأس، منها نتشوف الايمان، نعرفه، نتذوقه، والفلسفة نظام صارم، تستعين بمقولات تنتظم تحت بعضها في هيكل متناسق محكم، وفارق بين الميدانين، ذلك إن (الاتجاه النسقي يعد بكل شيء ولا يفي بشيء) 191 / الاسس اللاعقلانية في الفكر الفلسفي المعاصر نقلا عن بعض كتب الفيلسوف ص 247 /

الإيمان مفارقة، انفصال، وا لمفارقة تنحو بصاحبها بعيدا عن الواقع، بعيدا عن الزمن، المحسوس، نظام الكون، ويمحِّض علاقة كاملة بالمخلِّص، فأنى للعقل أن يقتحم المفارقة بهذه الهوية !

إن التوق الى اللامتناهي يتم عبرالألم، العاطفة، والقلق، وليس عبر أنتظام استدلالي عقلي عقيم .

ولكن هنا ينبغي ان نسجل الملاحظات التالية: ــ

الملاحظة الاولى: إنَّ هذا لا يعني بأي حال من الاحوال أن كريكجارد ضد العقل بشكل مطلق، ويتضاد مع العقلانية صرفا، لا يمكن ذلك، والمقصود هنا، انه يتضاد مع النزعة العقلية للإيمان، هو من دعاة الاستسلام في قضية الايمان، الدخول الى الايمان عبر آليات غير آلية التعقل، الألم، العذاب، قمع المتعة الجسدية، التطلّع الى المخلص، هذه هي الاليات !

إن الايمان بوحي الكتاب المقدس يجب أن يكون قبْليا، ولا يحتاج إلى قراءة نقدية لمدى صحة الوثيقة من عدم صحتها، فمثل هذه الخطوة تزعزع الايمان بذات الوحي !

الإيمان قضية ذا تية تنبع من الداخل وليست قضية موضوعية تحتاج إلى تشريح الوجود من أجل الا نطلاق منه لاثبا ت الوحي أو الله .

الملاحظة الثانية: إنّ هذا العرض لا يعني أيضا أن الفيلسوف لا يؤمن بالفلسفة، بل هو يؤمن بها قطّأعا معرفيا، ولكن يصر على أ ن هناك خطوطا فاصلة بين الايمان والفلسفة، على الفلسفة أن لا تتدخل في شؤون الايمان، فإن (كيركجارد يريد من الفلسفة أن تعترف بأنها غير قادرة على الدخول في دائرة الإيمان أو الدين لكي تحوّله إلى أمور عقلية منطقية قابلة للفهم ...على الفلسفة أن تعترف بحدودها ...) 192 / فلسفة الدين عند كيركجارد ص52 /

الملاحظة الثالثة: الفيلسوف وهو يرفض الموضوعية في تناول الايمان لا يعني أنه يرفضها في مجالات أخرى، تماما كما هي الملاحظة السابقة، فمن الطبيعي أن يكون تناول الطبيعة ـ مثلا ـ موضوعيا وليس ذاتيا، إن الجهد الكبير الذي بذله الفيلسوف ينصّب على الإيمان، فهو فيلسوف إيمان، وإيمان على طريقته الخاصة، ولذلك يشن حربا شعوى على هيجل والهيجلية بسبب اخضاع الإيمان لنسق منطقي استدلالي، إنه يرفض الطريقة الاستقرائية والاستنباطية هنا، ولا حتى الاعتماد على مبدأ (التصميم الماثل في الطبيعة) 193 / ا لله في الفلسفة الحديثة ص 497 /، ويصر على التجربة الشخصية، الخبرة الذاتية، ومن هنا كان إيمانه (متشخْصِنْ)، ولا يمكن نقل تجربته لغيره، إنّه يشترك في هذه النقطة مع (باسكال) الذي عاش في آواخر القرن السابع عشر، فكلاهما (رجل أخلاق ومدافع عن الدين المسيحي في المقام الاول، وهما يستخدمان ملكاتهما النقدية، ومواهبهما الأدبية لحث الناس على التفكير بصورة جديّة في المسيحية، وعلى تمييز الإيمان المسيحي عن أنواع الإيمان الطبيعية المتعددة، وعن المذاهب الفلسفية) /194 الله في الفلسف الحديثة ص 477 /

الملاحظة الرابعة: قد يتوهم بعضهم أن الفيلسوف يدعو إلى نوع من أنواع الحلول أو الاتحاد، كما ألفنا في الفلسفات الصوفية الشرقية، كذلك لدى بعض مدارس التصوف الإسلامي، مما انتج ما يسمى بـ (وحدة الوجود)، والفيلسوف على العكس تماما، إنه يصر على المفارقة، ومن أبعاد وخصائص المفارقة هي أن الله مفارِق، وأن العلا قة بين العبد والله، موضوع الإيمان علاقة انفصال، أي هنك مسافة بين المؤمن وموضوع إيمانه، رغم أ ن مبعث الإيمان هو الداخل، من داخل الذات، بل معركة الإيمان في داخل الذات، من هناك المنطلق والنتيجة، والإتصال باللامتناهي لا يلغي هذه المسافة بين الذات والموضوع، أي بين المؤمن وموضوع إيمانه .

لقد اعترض الفيلسوف بقوة شرسة على المدرسة الرومانسية التي بثت طبيعة إحيائيه في الطبيعة، لأن أرباب هذه المدرسة (جعلوا من الطبيعة حية بمبدأ إلهي وكاشفة عنه، قدّموا تفسيرا باطنيا لعلاقة الله بالإنسان، وهي علاقة نظر إليها كيركجورد على أنها هدّامة لطبيعة كل منهما، فهنا ينخدع الانسان، فيظن أن علاقته بالله يمكن أن تتحقق بسهولة على أساس التوحيد النهائي بين المتناهي وا لكائن الابدي) 195 / ص 481 /

كيف يرقى المحدود ليتحد أو يحل في الكائن الابدي، إنها عملية خداع فكري، بل أخلاقي، خيانة لكلا المحدود واللامحدود .

 

 6

كان (الإيمان) هي قضية كيركجارد الاولى، وقد جعل من ابراهيم عليه السلام فارس استشهاداته وإحالاته ومرجعيته، كان مغرما بهذ النبي أيّما غرام، وكتابه الشهير (خوف ورعدة) تحليل متسلسل لهذا النبي المضحِّي، النبي المستسلم، كأنه يعبر عن استسلام الفيلسوف، وكأنه يلبي نداءه النهائي القاضي بأن يكون الايمان هو الملجأ والمأوى والإحالة !

يرى الفيلسوف في كتابه هذا، أن الزمن لن يطوي (أبدا من كان عظيما في هذا العالم) ولكن ينحى بنا الى تفسيرات متعددة للعظمة، لينتهي بنا في التحليل الاخير الى العظمة الجامعة المانعة، إنّه العظيم الذي يتوّقع المستحيل، ويبقى يناضل من أجل هذا المستحيل، وهذا ينطبق على ابراهيم 196 / خوف ورعدة ص 32 /

يقول: (... إبراهيم كان أعظم الجميع، عظيما بالقوّة التي تستمد سلطانها من العجز، عظيما بحكمته ا لتي سرُّها في الحماقة، عظيما بالامل الذي يتخذ شكل الجنون، عظيما بالحب الذي هو بغض الإنسان نفسه) 197 / نفسه ص 33 ,.

لقد استمد ابراهيم قوته وعظمته وقدرته وأمله من شيخوخته وعقمه الجنسي واستجابته لنداء الله بذبح ابنه (حماقة وجنون ولا معقول) !

يقول فيما يخص جدل العمر والايمان والامتحان بالنسبة لابراهيم وسارة: (المعنى الاعمق ... إن معجزة الايمان تكمن في أن ابراهيم وسارة كانا من الشباب، بحيث يرغبان وإن الإيمان احتفظ لهما برغبتهما، وأحتفظ معهما بشبابهما، وقد تقبّل ابراهيم وفاء الوعد، تقبَّله بالإيمان، وسارت الامور حسب الوعد، ووفق إ يمانه، أما موسى فقد ضرب بعصاه الحجر، ولكنَّه لم يكن مؤمنا حينذاك) 198 / نفسه ص 35 /

يقول: (وفي التسليم اللامتناهي يكون السلام والراحة، وكل من يعزم عليه، وكل من لم يحط من شأن نفسه باحتقارها ــ وهو أمر أفضع من أن يكون متكبرا ـ يمكن أن يدرِّب نفسه على اتخاذ هذه الحركة بما تنطوي عليه من الم تصالح الانسان مع الوجود ...) 199 / نفسه ص 61 /

يقول: (وتجافي الفلسفة الأمانة عندما تعطي شيئا بدلا منه ــ الإيمان ــ وعندما تستخف بالإيمان ولكن ينبغي عليها أن تفهم نفسها، وأن تعرف ما يجب أن تعطيه، وألا تستبعد شيئا، وألاّ تخدع الناس في قيمة شيء ما بحسبانه لا شيء) 200 / نفسه ص 48 /

ينبغي أن لا نتصور أنّ الفيلسوف بهذه النصوص وغيرها يلغي العقل، أو لا يعترف بالعقل، إنما يعمل على تحرير الايمان من العقل، وتخليص العقل من مسؤولية الإيمان، ففي ذلك صون للإيمان والعقل معا .

(اللامعقول) هو الهاجس المهم عند الفيلسوف، طريق الايمان، وطريق الحفاظ على الايمان وتعميقه وتجذيره في الذات البشرية، فإبراهيم (كان يؤمن بفضل اللامعقول، لان الأمر لا يمكن أن يكون نتيجة لحساب إنساني، وكان اللاّمعقول حقا أن الله الذي طلب منه التضحية منه التضحية يرجع عنها في اللحظة التالية) .

التسليم للكائن الأبدي نمط رائع من الشجاعة، بل هو الشجاعة بعينها، و(أنا لا أتردد من ناحيتي في أن أصف بالجبن كل من يريد أن يُقنع نفسه بأنه لا يستطيع القيام بها) 201/ نفسه ص 68 /

إن الله اصطفى مريم بنت عمران على كل نساء العالمين، وفيما يُثَار سؤال من كل فتاة (لماذا لم أكن أنا أيضا مفضلة عند الله)، فإن الجواب على لسان الفيلسوف: (إن كل انسان مرشَّح لذلك، إذا نظرنا إلى المسألة نظرة مجرَّدة، أما الشيء الذي يغيب عنهم، فهو الحزن والقلق والمفارقة) 202 / نفسه ص 83 /

إن المعلْم الاول والعميق في حياة الانبياء هو (الحزن)، ولكنّه ليس ككل حزن، إنه حزن دائم عميق، يحفر جذوره باستمرار في ضمير النبي، كذلك كل من يمت بصلة معنوية للنبي، فهذه مريم، وهي تفوز بكرامة المعجزة، ولكن رغم ذلك (كان حملها قلقا وحزنا ومفارقة) 203 / نفسه ص 83 /

 

 7

التجسيد اعظم لحظة شهدها التاريخ الانساني، لحظة مفارقة عظمى، مفارقة غيّرت وجه الزمن، هكذا يرى سيرن كيركرد، ولكن لهذا الفيلسوف رؤية خاصّة به عن التجسُّد، فهي اللحظة التي افترق واقترن فيها الزمان والأزل، التاريخ والأبد، ففي التجسُّد أختفى الجانب الانساني من السيد المسيح وظهر الجانب الالهي، وفي ذات الوقت اختفى الجانب الإلهي من الرب وظهر الجانب الانساني !

الخطيئة الكبرى للكنيسة في تصور فيلسوفنا هي تحويلها التجسيد على قضية تاريخية، الأمر الذي قاد على اختفاء المسيحية جوهرا، فالتجسيد عبارة عن لحظة من لحظات التاريخ وكفى، فيما هي لحظة مستمرة، تستمد جذوتها من ذاتها كحدث مثير، خارج نطاق الزمن رغم أنها لحظة زمنية، أي تاريخية، ومن هنا يشخص التناقض في تخطيط كيركجارد، فكيف للحظة تاريخية تسلخ هويتها وكنهها وحقيقتها من الزمن؟ يبدو لي أن الفيلسوف وهو بصدد أن يؤسس لرؤوية خاصة به، يريد تجاوز المأزق العقدي لذات التجسد، لان التجسد بطبيعته يلغي الازل، ومن العسير أن يتخطى لحظته التي أنبثق من خلالها، إنه يريد أن يحرر المفارقة من التا ريخ، ومن هنا يتساءل عن معن التاريخ المسيحي، حيث يعرّفه بأنه الزمن الذي احتكر لحظة التجسّد، فيما ينبغي أن تتحرر هذه اللحظة من هذا الاحتكار !

إن تضاعيف عملية التجسُّد عبر وحداته الزمنية لا يقدم للمسيحي فائدة، أنها أحداث مضت وتصرَّمت، لكن الجوهر هو عملية (التفارق) إذا صح التعبير، فإن هذا (التفارق) هو الذي يجب أن يتقمصه الإنسان المسيحي، نقطة اللقاء المذهلة بين الإله والإنسان في السيد المسيح عليه السلام، إن عبارة أو معادلة (الدين المسيحي) تنرفز هذا الفيلسوف، ويتخطى قواعد اللعبة التاريخية ليدخل في قوانين الدين من حيث هو جوهر، وهو ما يمكن بل هو الجدير بتسمية ثابتة قارّة مستقرة مطمئنة (دين السيد المسيح) !

المفارقة إذن مستمرة، دائمة، لا تنفصل باي حال من الاحوال عن مسيرة الوجود، هي ليست ذاكرة، ولكن هل هذا هو معنى الازل؟ مفارقة كبيرة هي الاخرى، حيث يقع الرجل في تنا قض عجيب، لأن للازل معنى آخر كما نفهم، على أن كيركجارد يتغلب أو يحاول أن يتغلَّب على هذه المفارقة، وذلك باعلانه الصريح أن التنا قض هنا هو المقصود، وهو الذي يجسد الايمان حق تجسيد ! فهو يقودنا من تناقض إلى تناقض، في سياق يستعصي على الفهم، وذلك جزء من اللامعقول الذي كان يلح عليه، ويرسخّه في الذهن المسيحي !

لقد غرس (هيجل) المسيحية في أصلب عقلانية، أو هكذا خُيِّل له، فيما غرس (كيركجار) المسيحية في أصلب لا معقول !

إن الابدي في هذه الفلسفة يكشف عن نفسه في الزمني، والزمني يكشف عن نفسه في الأبدي، تناقض فاضح، ولكنَّه هو الحقيقة، وبدون هذا الايمان تضمحل المسيحية، ويستولي التاريخ على الأبدي، فلندع (عقلنة) المسيحية كي لا تتحول إلى أقنوم فارغ، كي لا نخسر الرعشة الدائمة، كي نعمِّق القلق، لا نمحيه، ومحوه وهم كبير، فنخدع أنفسنا بذلك !

 

 8

عُرِف الفيلسوف إبداعا بفكرة أو مشروع (المدارج الثلاثة) وأحيانا بـ (المراحل الثلاثة)، وفيما يصفها بعضهم بانها مراتب أ ومدارج، بأنها على طريق السلوك باتجاه المخلِّص، يصفها آخر بأ نها مراحل وجود فلسفية، والآن ما هي عنواين هذه المدارج؟

1: المدرج الحسي (الجمالي) .

2: المدرج الأخلاقي .

3: المدرج اللاهوتي (الديني) .

يقول الفيلسوف إن المدرج الاول ينتهب الذات، أو بالاحرى أنها مرحلة إنتهاب الذات، افتراسها، الذات في هذه المرحلة شبح، هلامية، هناك حركة، وهناك حس، وهناك نشاط، وهناك معالم واضحة، ولكنها الحركة المتجهة نحو نفسها، أسيرة دائرتها المغلقة، كل لحظة في هذه الفترة (لها أصدقاؤها)، و(لكل فعل ملابساته ومرجحاته، وشعاره) 204 / الأسس اللاعقلية في الفكر الفلسفي المعاصر ص 263 /

ومعنى إنتهاب الذات هنا، كونها غير متميِّزة، هلامية، خاصة وإن رجل هذه المرحلة، أو الذات تصرعه كل لحظة بموجب متطلباتها الذاتية، جانب المتناهي، فليس هناك استمرارية، بل تقطّع، تشظي بشكل عام .

يشكل (دون جوان) النموذج الصارخ لرجل هذه المرحلة، لان (الرغبة أساس الحياة الجمالية) 205 / كيركيغارد، بيار مسنار ص 70 /، فإن هذا الرجل (لا ينجح إلاّ بسبب عبقريته الشهوية التي كأنها تتجسَّد فيه، التفكير التأملي ليس من نصيه، وإن حياته زبد كزبد الشمبانيا التي تعيد إليه قوّته) 206 / نفسه ص 72 نقلا عن الفيلسوف /

الرغبة في هذه المرحلة مشوشة، غير واضحة المعالم، مرتبكة، تتعثر على غير هدى، هي رغبة اللحظة المفروضة، ولكنّها رغبة حالمة، (فهي تحلم بأن تحقق وتشعر بالسعادة، بدلا من الشقاء، أيضا تتسم تلك المرحلة باحتوائها على التناقض، فالرغبة مالكة لموضوعها، ولكنّها في نفس الوقت ليست متميّزة عنها) 207 / فلسفة ا لدين عند كيركجارد، حسن يوسف ص 115 .

يبدو لي أن جوهر هذا المدرج هو التقلب العشوائي في حضن متعة مغرورة، متعة مستعرة، هي حياة التسافل في نظر الفيلسوف، ضياع، إغواء ومخادعة كما هي حياة دون جوان، فهذا الاخير بمثابة وجود (غير كاف للتملّك) 208 / نفسه ص 118 /

هنا يطلق الفيلسوف صرخته المدوية (عليك أن تختار بحرية أن تعيش في الوجود الحسي، تلك المرحلة الدنيا من الحياة البشرية، أو أن ترتفع إلى مرحلة أعلى، وهي المرحلة الاخلاقية ا لتي ترفض الاقتصار على المتع الحسيّة الزائلة والعابرة، وأن تضع فيها وجودها، وتسعى جاهدة إلى الاتفاع إلى مرحلة أخلاقية يلتزم فيها صاحبها بالقانون الأخلاقي ا لذي هو عام بين البشر جميعا) 209 /دراسات في الفلسفة الوجودية، عبد الرحمن بدوي ص 40 .

 

فما هي المرحلة الأخلاقية يا ترى؟

مرحلة أرقى، بلا شك، وأكثر ما يميز هذه المرحلة هو القدرة على (الاختيار)، وليس من شك أن الاختيار يستوجب أو بعبارة أكثر دقة يقتضي (الحرية)، وهي مرحلة تأتي بعد تجاوز مرحلة الحس الشبق، الحس المملوء بذاته، بمغامراته، بلذائذه المحمومة، بعد صراع وجودي داخلي، فهي قفزة، أو وثبة خلا ّقة، مبعثها الداخل، الامر الذي يذكّرنا بالقاعدة المالوفة، من أن أي وعي حقيقي ينبثق من الداخل، وهي مرحلة تشّع بالجاذبية والحرارة الوجدانية بلا شك، في المرحلة السابقة هناك إنغماس بالخطأ، هوس باللذة، هنا، اي في المرحلة الجديدة توجد قدرة على التمييز بين الأسود والابيض، بين الخطا والصواب، بين الحسي والمعنوي، ثم هناك القدرة على الاختيار، يغيب هنا (الدون جوان)، ويشخص لنا ديستوفسكي في الجريمة والعقاب، ولكن الذات التي تشب بحرارة المعنى، يمكن أن تتجاوز حتى المرحلة الاخلاقية، وهو ما يسميه الفيلسوف بالمدرج الديني، فالمرحلة الاخلاقية تودع متن السلوك، وميادين العمل، فيما تبدأ المرحلة الدينية، لانها تطابق، تماهي، توافق وانسجام مع اللامتناهي، تبدا الماساوية الذاتية للمستوى الديني، يتم تجاوز النزوة الجمالية، ثم تخطي النزعة الاخلاقية، وهي المعادل المساوي للموضوعية الهيجلية، لندخل في قلق الوجود الحقيقي، المأساة، العذاب، الحزن، فإن تجاوز الموضوعية يكرِّس الذاتية، أي يتكرِّس التمحيض الديني !

هذه المراحل ليست حتمية، بل قد يتفاوت فيها السير بين شروع وعودة، وبين شروع وسير مستمر .

 

 9

وبعد !

هذه هي الخطوط العريضة لفلسفة اللامعقول الديني لدى كيركجار، فهل من نقاط نقدية يمكن تسليطها على هذه الفلسفة؟

1: يرى كثيرون أن فلسفة الرجل تعبير دقيق عن بؤسه وشقاءه الجسدي والاسري، نابعة من داخله، وهو الامر الذي كثيرا ما كان يصرح به ويفتخر به، وهناك دراسات تثبت أن الرجل كان يعاني من شعور بالسوداوية، فالكون كان يشكل لديه رؤية مرعبة، وإن نوبات صرع كانت تنتابه بين فترة وأخرى، وكان قد سيطر عليه الخوف تجاه الكثير من الاشياء والظواهر، فهو كان يخاف فتح النوا فذ، بل كان يخاف ضوء الشمس ! وكثيرا ما كان يتوقع موته، بل كان دائم الاعتقاد بانه لم يعش طويلا، فضلا كان يتعامل بهاجس الخوف أوّلا من الناس، وهذه السوداوية ذات نكهة (ميتفايزية)، وقد تركت ظلالها بكثافة على تعامله مع الوجود والقيم والكنيسة والحب !

2: يعترف الفيلسوف بـ (سودايته) علنا، بل يدافع عنها دفاعا مستميتا، والغريب أن يستمد لهذه السوداوية برهانا من الحياة، من داخله، وهو وإنْ لم يرغب بفرضها على الآخر، ولكن يرسم خطوطا باتجاهها للآخر، فهو يانس بها، ويعمِّقها ميتافيزيا، حتى قال مرّة: (إن سوداويتي يجب ان تُوضَع دائما مع الله جنبا إلى جنب) 210 / فلسفة الدين عند كيركجارد ص 17، وبالتالي، كيف يمكن الاطمئنان إلى مدرسة ميتفايزية مصدرها أو أحد مصادرها السوداوية؟

يرى الفيلسوف إن الظفر باللامتناهي ليس عزاء، بل يفترض الحزن، الحزن إذن نتيجة هذا التعلق بالمطلق، نتيجة هذا الفوز باللامحدود، تُرى ألا يمكن أن نعكس المعادلة؟ فنقول أن مثل هذا الظفر ينبغي أن يكون مبعث السعادة والحبور والفرح مهما كان نصيب الانسان من عذاب جسدي ومادي في هذه الحياة؟

هنا ... يمكن أن نتلمس بوضوح تأثير السوداوية الذاتية عند الفيلسوف في تفسير هذا الظفر أ وهذا الفوز !

3: يقول: (حياتي هي دائرة المفارقات، فالموجب يعرَف عن طريق ا لسلب ــ حياتي عذاب وتمزُّق، الله يعذِّبني حب، وبسبب الحب، ومع ذلك فهذا الجانب السلبي علامة على ا لجانب الايجالي) 211 / نقلا عن هيجل، إمام عبد الفتاح إمام ص 427 /

فإذن فلسفته جاءت لتفسر وضعه، تفسير لشخصيته، تحليلا لما يعاني ويشاقي من آلام جسدية مبرحة، ومما عانه من اضطراب ومصائب اسرية، عجزه الجنسي إن صحّ ذلك عنه .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1480 السبت 07/08/2010)

 

في المثقف اليوم