قضايا وآراء

ألأنسان والتجربة الجمالية / حكمت مهدي جبار

عرف الأثر الذي تتتركه الأداة على السطح كوسيلة تخلق له معا دل نفسي يشعره بالأمن من غضبة الوحوش وشراسة الحيوانات.فضلا عن اعتقاده بأن تلك الآثار التي تخلقها الأداة  (غصن شجرة) (قطعة من عظم) أي شيء يترك له اثرا (رسما) انما هو تعويذة سحرية تخلق له الطمأنينة وتجلب له الفأل الحسن .وهكذ انحدر الينا رصيد ضخم من الرسوم على مختلف انواعها وأشكالها وجدت مرسومة على جدران الكهوف (بيت الأنسان الأول) منذ عشرات الآلاف من السنين.وبالرغم من الأختلاف بين الآراء التي تفسر الدوافع التي  تقف وراء تلك الرسومات فأن الشواهد الكثيرة تدلل على مدى حاجة البشر الى نقل تجاربهم وتحويلها الى رموز صورية .

وعلى مدى الأزمان قامت أبنية وأنصاب تداعى القسم الأعظم منها بعد لأي وبقي بعضها شاهدا على نزعة الانسان الأبدية الى حماية نفسه وتمجيد ابطاله ومجتمعاته وآلهته. أذن كانت التجربة الأولى في حياة الأنسان هي (تجربة جمالية ) من حيث لايدري، عندما راح يتمثل الأشياء  مندهشا منها كما يندهش الطفل عندما يرى شيئا لأول مرة، فيستغرق بأسئلته لايكل ولا يمل حتى ترويه الأجوبة وهي لم تكتمل لحد هذه اللحظة فولدت الفلسفة.

فكانت الوسيلة التي استخدمها ازاء ذلك الأندهاش المحير(حيث ولادة الفلسفة) هي صناعة الصورة . فكانت كل منجزاته بمثابة (ابداع فني بريء)  حتى تلك التي لم يكن يعيها (فنا) أي انه وبمعنى آخر لم يكن يعلم ان ما يعمله من ادوات ووسائل معيشية هو (فن) .ولم يكن يدري ان تلك (الأبداعات النفعية الفنية) كالفخار والأواني والصحون والفؤوس والمجارف وأسلحة الحرب ستكون من بعده بمثابة ذخيرة قيمة تضيء للأجيال التي تليه ما كان يصنعه،وتكشف عن غوامضه وأسراره وهو يبحث عن سر وجوده وعن ذلك الذي يقف وراء خلقه؟!.

الا انه وبعد  تطور وعيه ونضوج عقله أكتشف انه انما يقدم (منجزات فنية جمالية) وهي بمثابة حقائق فنية تمده  بالمتعة الى جانب امدادها له بالمنفعة في تلك الأزمان السحيقة في القدم..فأخذ الانسان ينظر الى تلك المنجزات الى جانب كونها وسائل تخدمه معيشيا على أنها ابداعا فنيا ووسائل للأرتواء الجمالي والذوقي الممتع في الحياة .حتى ولدت (الفنون الجميلة)  ومن هنا اثبت الأنسان ومنذ الوهلة الأولى ان معنى الفن لا ينحصر في كونه يؤدي وظيفته كمرآة تعكس حياة الأمم والشعوب فحسب بل هو للبعض وسيلة للتذوق وأحد روافد التجربة الجمالية  .

فالكثير من منجزات الفن الرافديني الى جانب وظيفتها النفعية للأنسان كالأواني والصحون والفؤوس كوسائل معيشية فهي لدى متذوقي الفن والجمال ذروة التمتع بالحياة والترف الفكري. لذلك فأن الحديث عن الجمال وثيق الصلة بالفنون بمختلف انواعها وأشكالها وصورها وأنماطها..

ان المنجز الأبداعي في نظر الفنان عموما انما   (يخدم غرضه بعد ان يكتمل،اما سماته الأخرى فتأتي لاحقا حين يلقى العمل تجاوبا من الحضور لكن تجاوب الجمهور لايمكن ابدا التنبؤ به، اللهم الا في حالات نادرة وقبوله انما يحقق اكتفاء ثانويا للفنان .أما بالنسبة الى المتلقي مستهلك (الفن)اللوحة الفنية، او القطعة النحتية، او الخزفية، او السيراميك، فأن المعنى يبدأ بالعمل نفسه، فالمشاهد يبدأ من حيث ينتهي الفنان. وكل ذلك يتوقف على حالة المشاهد، مزاجيته، خلفيته الثقافية، وعيه، بيئته، مجتمعه، وكذلك على مقدرته في النفاذ ببصيرته في العمل الذي امامه، كيف يفسره؟ وكيف يحلله؟ وكيف يتذوقه؟ .   

ما معنى التجربة الجمالية في حياة الأنسان؟

يقول الناقد (نوثان نوبلر) nothan nublur . في كتابه القيم (حوار الرؤية) :-(بأستطاعتنا تحديد معنى التجربة الجمالية في حياة الأنسان بعبارة (المتعة بالتأمل) او بديهية الأستمتاع . فعندما اتمتع بمشهد الغروب فأنا احس بالرضا بالتأمل فيه، ان فضولي العقلاني،حينئذ يكون في غيبوبة . فأنا لا أعبأ آنئذ فيه، بالمسببات الطبيعية من ضوء وغيوم انما بذلك الجمال الخلاب الساحر)  .

والحقيقة ان الأنسان مهما تبدلت الأحوال يبقى ذلك المخلوق المدهش الذي يتعجب هو نفسه  بنفسه! فهو لم تتوقف رغباته عند حد معين وهو لاينفك يسعى الى ان يتسامى الى الأفضل و قنع بأدراك الأشياء ومعرفة الموجودات والأحداث المحيطة به بل يستشعر في الأدراك ذاته لذة الأحسن . فهو لا يتذوق المعرفة خالصة عن كل ما يتعلق بها من اهداف عملية. والأنسان لا يكتفي بتذوق احساساته وأنطباعاته عن الأشياء بل يضفي عليها من خياله ما يكسبها كمالا وجمالا تستجيب له نفسه بالرضا والسرور. وعندما تمتليء نفسه بشعور البهجة يصف كل ما يرضي احساسه وخياله بالجمال.

وأول ما يتصف بالجمال عنده هو  سر السمع والبصر والخيال، ذلك  ان تلك الحواس هي أكثر الحواس قدرة على تجريد موضوعاتها وتكوين التمثلات العقلية والصور الفنية . فضلا عن ذلك فهي تكشف للأنسان عن العالم الخارجي أكثر مما تكشف عن حالاته العضوية وأستجاباته الفزيولوجية للمؤثرات الخارجية كما هو عند عمل الحواس الدنيا التي تؤدي وظيفتها عن طريق الأتصا المباشر بالعالم الخارجي،مثل الذوق والشم واللمس .

وعلى الرغم من ان هذه الأحساسات العضوية قد تساهم في بعث البطانة الممتعة في الأحساس الجمالي أو عند تذوق الأثر الفني الا أنها غير كافية وحدها لخلق الأعمال الفنية التي تكون موضوعا للخبرة الجمالية عند الأنسان والتي يبهر لها كما هو الحال عندما يطرب للحن الشجي او يستمتع بالصورة الجميلة أو يطوف في عالم الخيال المبدع.

ان الفن ليس هو فقط تعبير عن مسائل وجدانية . فقد يكون أيضا تعبيرا عن افكار الأنسان وتصوراته ولكن العاطفة وما يصاحبها من مشاعر وأنفعالات تعد في المقام الأول أن قيست بالأفكار بل تكاد الأفكار العقلية والتصورات تتلاشى أن قيست بالأنفعالات في فن مثل فن الموسيقى. والفكرة العقلية لا تتحقق في الفن الا بواسطة الخيال لذلك تدخل الصور الخيالية واسطة لا غنى عنها لتحقيق الأفكار والتصورات العقلية.. فالأنسان لديه افكار وتصورات عقلية يحققها بالخيال وينفذها عمليا بالفن ضمن معنى يخفيه بقلبه .     

ان التجربة الجمالية هي نتاج التواصل بين العمل الفني والمشاهد وهذا التواصل لايأتي الا اذا تهيأت الظروف لحدوثه  . وهذه الظروف هي استعداد المشاهد وقابليته على تحسس وأدراك معالم ذلك الشيء او التجربة التي تساعد على خلق حالة من المتعة الجمالية وموقف التلقي من جانب المشاهد .

 كيف نعيش التجربة الجمالية ؟ وكيف نتذوق الجمال؟ قد يحدث للبعض وهو ينظر الى العمل الفني، لوحة، أوقطعة نحتية، أو قطعة موسيقية بدون التركيز، أي بدون التأمل فيه، فترى بعض الناس الذين يعيشون في غرف  تزينها الرسوم لايتوقفون لتأملها فينظرون اليها نظرة عابرة.وآخرون نراهم يستمعون الى الموسيقى وهم منهمكون بأعمالهم  . وذلك لا يمثل اتصالا مباشرا بالعمل الفني ولا يعزز من التجربة الجمالية . وبهذا نجد الكثير يتحدث بالتذوق والجمال والفن ولكنه هو في الحقيقة بعيدا تلك العلاقة. وهناك ايضا من يذهب لزيارة معارض الفنون اتشكيلية لمجرد الزيارة وقضاء الوقت، فالتجوال العابر في اروقة المتاحف والمعارض دون التوقف والتأمل لتلقي مضامين ومعاني الجمال لم يؤدي الى خلق شعور بالتجربة الجمالية .

 

ان شعور الفرد بتجربته الجمالية لا يتوقف عما اذا كان ذلك الفرد(فنانا أو غير فنانا)وأن الشعور بالجمال ليس حكرا على الشاعر او الموسيقي او النحات أو الرسام،فالمشاعر والأحاسيس ملك أصحابها وكل فرد يشعر وبدرجات معينة بدوافع جمالية تدفعه لرؤية الشيء والتمتع به فضلا عن تحليله وفحصه. وهناك من يرى في القبح جمالا وهناك من يرى في الجمال قبحا.(فأنت قد تعشق لونا معينا تراه جميلا بينما يراه الآخر قبيحا، وذلك بالتأكيد يتوقف على طبيعة تجربتك الجمالية الشخصية)

لقد وضع الناقد الأنكليزي الكبير uothan nubler . تعريفين للجمال وفق مفهومين احدهما:- ان الجمال يكمن في الأستجابة االذاتية للشخص بفعل اثارته بحافز خارجي . أي أن الأحساس بالجمال هو مسألة داخلية، وشيء ما خارج انفسنا يجعلنا نشعر بهذا الأحساس من الجمال، لكن الشعور ليس جزءا من الشيء الذي يثير فينا الأستجابة بل هو في الناظر نفسه.

والمفهوم الثاني:- ان الجمال سمة كامنة في الشيء نفسه او التجربة نفسها . والعلاقة بين الأجزاء المنفردة عند الجمع بينهما (أي بين الشيء والتجربة) هي التي تثير الحس بالجمال في نفوسنا . 

فالأول يؤكد على أن موضوعة الجما ل هي مسألة شخصية تثار عندما يتعرض ذلك الشخص الى مشهد مثير او يعجبه شيء معين او يدهشه وهوما يسمى (بالجمال الكامن) أما المفهوم الثاني، فهو كمون الجمال في الشيء المرئي ومعرفة ذلك الجمال تتوقف على العلاقة بين الشيء والمشاهد. 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1484 الاربعاء 11/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم