قضايا وآراء

الإنعطافةُ الكبرى- في الذكرى السنويَّة لصلاة الجمعة في العراق (3)

وتبعاً لها المجتمع بطبيعة الحال، حتى أصبح المجتمع كلُّه والحوزة معه أضعفَ كيانٍ على وجه الأرض أمام كلِّ القوى الدكتاتوريَّة والطاغوتيَّة في الداخل والخارج، فلا مطالبة من أيِّ نوعٍ بالحقوق، ولا كلمة تقال بوجه أيِّ باطلٍ متمثلٍ بالحاكم أو بغيره مما هو دونه أو فوقه من الدول الإستعماريَّة التي تدعمه وتوفِّر الضمان لاستمرار حكمه، وإذ وجدت صلاة الجمعة وُجد كلُّ هذا الذي كان مفقوداً من المطالبة بالحقوق والنطق بالقرار الحوزويِّ المرجعيِّ أمام الحاكم، والإعتراض على السياسات الإستعماريَّة التي تمارسها دول الإستكبار العالميِّ وأمريكا على وجه الخصوص، بل إنَّ الشجاعة التي وُجدت لم تكن قاصرةً على القطاعات الجماهيريَّة فقط، إذ تعدَّت هذا المستوى إلى المرجع القائد نفسه، فقد اعترف السيِّد الشهيد ((قده)) أنه وجد من الشجاعة وقوَّة القلب في نفسه بسبب صلاة الجمعة ما لم يكن يحسُّ بوجوده فيها قبل ذلك، قال ((قده)): "من النتائج التي حصلت والعبر التي حصلت بصلاة الجمعة: الشجاعة التي حصلت في الحوزة الشريفة من ناحية، وفي كثيرٍ من طبقات الناس جزاهم الله خير جزاء المحسنين، بل يمكن القول إنها وُجدت (لاحظوا) حتى في خصوص سيِّد محمَّد الصدر، وقد وصلت إليهم هذه الشجاعة من حيث لا يعلمون........ ومن بوادر الشجاعة ما حصل هنا، (ومن بوادر الشجاعة ما حصل هنا) في مسجد الكوفة وغيره من الهتافات والأهازيج، وكنت أنا أعتبرها بصراحةٍ نصراً للدين، وعزَّةً للمذهب كما هي كذلك، جزى الله قائليها خيراً، إلا أننا حينما ظهر لنا أنَّ مضاعفاتها المحتملة التي قد تعود بالمفسدة على الحوزة والدين كثيرةٌ مع الأسف، وما يسمّى بالإصطياد بالماء العكر، كنا مضطرين للإعتذار عنها على أيَّة حال، وإنما الأعمال بالنيات، والله تعالى يعلم ما في قلوب المخلصين واستعدادهم للتضحية على مختلف المستويات، وهذا كافٍ جداً جزاكم الله خيراً، وإذا كانت هناك شجاعةٌ إن شاء الله تعالى فاصرفوها بشكلٍ مدروسٍ، وبالأساس مع الإستئذان من الحوزة العلميَّة الشريفة، وليس باتخاذ عملٍ أو قرارٍ بالإستقلال عنها ومن دون الإستئذان منها والعياذ بالله" .

النتيجة الخامسة:

النباهة بما هي مقوِّمٌ من مقوِّمات الوعي الإسلاميِّ الصحيح

 

إنَّ واحداً من أهمِّ عوامل النكسة في الوعي الدينيِّ هو فقدان هذه الخاصيَّة فيه، وهي خاصيَّة النباهة بالطبع، فإذ يكون المرء متديناً تفرض عليه العديد من الجهات الحوزويَّة نمطاً من التعامل مع مقتضيات الإيمان الدينيِّ يجرِّده من النباهة الفرديَّة والإجتماعيَّة اتجاه الكثير من القضايا الهامَّة التي يجد نفسه في مواجهتها، فمثلاً، لا يجد الإنسان طبقاً لهذه الرؤية المتخلِّفة مندوحةً من أن يقدِّس رجل الدين مهما كان سلوكه مخالفاً للإسلام، كما يتوجَّب عليه أن يقدِّم فروض الطاعة والولاء لمن هو متيقِّنٌ من أنَّ جُلَّ أفكاره وخططه لا تقع في طريق خدمة الأهداف الدينيَّة لا من قريبٍ ولا من بعيد.

ومع ظهور السيِّد الشهيد الصدر ((قده)) ومباشرته لصلاة الجمعة تولَّد وعيٌ دينيٌّ آخر في مقابل هذا الوعي، قوامه أن يكون المعيار الذي يقاس به رجال الدين هو الدين نفسه، وليس العكس، فلا يصحُّ تقويم الدين على أساس موافقته لأفكار وخطط رجل الدين كائناً من كان، فللدين حاكميَّته على الجميع من دون استثناءٍ كما هو واضحٌ، ولذا ذكر السيِّد الشهيد هذه الخاصيَّة في سياق الفوائد التي جادت بها صلاة الجمعة في الذكرى السنويَّة لها، إذ اعتبر أنَّ أهمَّها هو هذا"الوعيُ الدينيُّ والإجتماعيُّ الذي حصل لكافَّة الناس في داخل الحوزة الشريفة وخارجها، ولم يكن ذلك ممكناً أن يكون بدون هذا النشاط الدينيِّ الشريف، أعني صلاة الجمعة المقدَّسة، ويمكن أن نضرب له عدَّة أمثلة:

المثال الأوَّل: إنَّ الناس عرفوا بوضوحٍ أنَّ عدداً من الحوزويين والوكلاء وأضرابهم (لاحظوا) الذين كانوا يحسبونهم كجبرائيل (عليه السلام) أو (أبي ذر) عليه الرضوان في السداد والصلاح، وكانوا يحملونهم على الصحَّة في كلِّ أقوالهم وأفعالهم وينخدعون بمظاهرهم، أمّا الآن فقد أصبح بكلِّ وضوحٍ أنَّ الأسلوب القديم قائمٌ على القصور والتقصير، وعلى الإسفاف والتبذير، وعلى السكوت الشائن عن المحرَّمات مع أنه ورد: الساكتُ عن الحقِّ شيطانٌ أخرس ، وورد ما مضمونه أنه إذا كثر الفسادُ في المجتمع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله ، مع أنَّه ليس في الأسلوب القديم شيءٌ من ذلك كما قال بعضهم ـ أنا نقلته لكنه للتذكير لا بأس ـ أنَّ لدينا أموراً أربعة: الإستخارة، والدرس، وصلاة الجماعة، وقبض الحقوق، فإن كنت تسأل عن واحدٍ منها فأهلاً وسهلاً وإلا (دير ظهرك وروح). وأهمُّها بطبيعة الحال ـ في نظرهم طبعاً ـ قبض الحقوق التي تصل بإذن الله بالتوزيع في المجتمع، وقضاء حاجة المحتاجين، لكن هم لا يوزعونها في المجتمع ولا يقضون بها حاجة المحتاجين إلا بنسبةٍ ضئيلةٍ جداً، ونحو ذلك. فقد انكشف للمؤمنين الصديق من العدوّ، والناصح من الفاضح بحسن توفيق الله (سبحانه وتعالى).

المثال الثاني: إنَّ عدداً من الفروع الفقهيَّة لم يكن له وجودٌ في السنين السابقة، ولم تسجل في رسالةٍ عمليَّة ولا استفتاء، منها ـ سبحان الله ـ تعلمونها جميعاً: قبض مجهول المالك( )، وأنَّ الصلاة في مجهول المالك أو في الأموال غير المخمَّسة باطلة، وأنَّ إلقاء المال في أضرحة المعصومين (عليهم السلام) حرام ، وأنَّ تصليح الراديو والتلفزيون إعانةٌ على الإثم ، وأنَّ العمل بالمصارف ذات القطاع الخاصِّ حرام... وهكذا إلى فروعٍ كثيرةٍ خارجةٍ عن حدِّ الإحصاء، مما كان الجيل السابق ـ في الحوزة ـ كله ساكتاً عنه مع شديد الأسف.

المثال الثالث: إنَّ أكثر الناس أصبحوا يهتمون فعلاً بالمصالح الدينيَّة والإجتماعيَّة، ويفضلونها فعلاً على مصالحهم الشخصيَّة والأسريَّة، بل يتمنون الشهادة في سبيل الله تعالى( )، وهم بالمئات الآن على ما أعتقد أو أكثر والحمد لله ربِّ العالمين، (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحقِّ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) .

المثال الرابع: إنهم عرفوا أثر الإستعمار الأكيد والشديد في المجتمع المسلم منذ صدر الإسلام وإلى العصر الحاضر، حتى أنه يمكن أن يقال بوضوحٍ إنَّ الذي قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتل الزهراء (سلام الله عليها) وقتل الحسين (عليه السلام) وتسبَّب إلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هو الإستعمار بأياديه الخفيَّة المبثوثة في هذا المجتمع المسلم( )، وكذلك ما حصل بعده من الحروب الصليبيَّة، ومعاهدة الخلافة العثمانيَّة مع ألمانيا، وغزو الإنجليز للعراق، وغزو الفرنسيين لمصر، وكذلك الغزو الثلاثيِّ لمصر، وتأسيس إسرائيل عليها اللعنة والعذاب.. وغير ذلك كثير.

ومظالم الإستعمار عامَّةٌ بكلِّ مكانٍ وزمان، ومنتشرةٌ على وجه الأرض وفي كلِّ دهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ومن ذلك كمثلٍ وأنموذجٍ مقتل عددٍ من المؤمنين ورجال الدين باستمرارٍ على طول السنين وإلى العصر الحاضر، ومن أشهرهم الشهيد الأوَّل،  والشهيد الثاني، والقاضي نور الله التستري، والشيخ فضل الله النوري، وكثير غيرهم، حتى ألَّف جناب الشيخ عبد الحسين الأميني (قُدِّسَ سرُّه) كتاب شهداء الفضيلة، بمقدار ما استطاع أن يحصي منهم من الشهداء، وممن وصل إليه خبرهم وما خفي عليك أكثر .

 

صلاة الجمعة بعد السيِّد الشهيد ((قده))

لم تتخلَّ الجماهير المؤمنة عن صلاة الجمعة بعد السيِّد الشهيد((قده)) بل دأب المؤمنون على إقامتها سواءٌ في زمن الدكتاتور أو فيما بعد ذلك، إذ أصبح الإحتلال الأميركيُّ هو البديل السيِّء للدكتاتوريَّة الصداميَّة البغيضة، فكان لصلاة الجمعة التي أحياها السيِّد الشهيد الصدر هذا القدر الإلهيُّ الجميل  بأن لا تكون إلا شوكةً في عيون الظالمين كما أشار إلى ذلك السيِّد الشهيد نفسه في خطبه المعروفة، فبعد أن كانت شوكةً في عين الدكتاتور أصبحت شوكةً في عين المحتلّ، رغم أنها كانت كذلك شوكةً في عينه قبل أن يغزو بجيشه العراق، فلقد اقتحمته صلاة الجمعة بالخوف والرعب في عقر داره  قبل هذا الأوان في حياة السيِّد الشهيد نفسه، ولكنها الآن تهشِّم رأس المحتلِّ بشكلٍ مباشرٍ، وقد أوجعته جدّاً إلى درجة أنه أصبح يفكِّر جادّاً بالخروج من مأزق احتلاله للعراق.

 

صلاة الجمعة بإمامة السيِّد مقتدى الصدر

دأب السيِّد مقتدى الصدر منذ الأيام الأولى لدخول الإحتلال على إقامة صلاة الجمعة، فصلى خلفه أتباع السيِّد الشهيد بغالبيَّةٍ ساحقةٍ، ولم يكن هذا هو المهمّ، بقدر ما هو أن يحذو  سماحة السيِّد حذو والده السيِّد الشهيد في توظيف صلاة الجمعة للنطق بالحقِّ والإعتراض على الباطل، فكان صوته هادراً في الإعتراض على سياسات المحتلّ، مطالباً بخروجه الفوريِّ من العراق، وبأن يترك للعراقيين حريَّة تقرير المصير في أسرع وقتٍ ممكن.

هذا في الوقت الذي كان أغلب القادة السياسيين العراقيين لا يعترفون مجرَّد اعترافٍ لفظيٍّ بسيطٍ بأنَّ وجود القوات الأجنبيَّة في العراق بقيادة أميركا إنما هو احتلالٌ وتجاوزٌ على شرعة حقوق الإنسان، بل صار بعضهم يعتبر  أو يطالب صراحةً بأن يكون العراق  الولاية الثالثة والخمسين الأميركيَّة مع شديد الأسف، ضاربين برغبة الشعب العراقيِّ المسكين بأن يتخلَّص من الدكتاتوريَّة والإحتلال جميعاً عرض الجدار.

لقد كان تمسُّك سماحة السيِّد مقتدى الصدر بمنهج والده السيِّد الشهيد حرفياً من جهة أنه لم يوظِّف منبر الجمعة للرغبات النفسيَّة الإنتهازيَّة كما فعلت بعض الجهات، إذ جعلت من منبر الجمعة مركزاً للدعايات الإنتخابيَّة والمزايدة على الآخرين من أجل الحصول على المزيد من الأصوات وحيازة المناصب السياسيَّة لكي تقوم بأكبر عمليَّة قرصنةٍ على المال العامِّ بعد ذلك، فظلَّ منبر الجمعة برعاية السيِّد مقتدى هو منبر الجمعة في حياة السيِّد الشهيد من جهة أنه صوتٌ لا يهدأ من أجل المطالبة بالحقوق العامَّة، والإعتراض على الإنتهاكات الظالمة التي يتسبَّب بها المحتلُّ بحقِّ الشعب العراقيِّ المظلوم، ومن جهة حثِّ الشعب العراقيِّ بكافَّة طوائفه وشرائحه الإجتماعيَّة والإثنيَّة على أن يكون يداً واحدةً من أجل التصدي للمحتلّ، فلم يرتكب السيِّد مقتدى الصدر في كلِّ خطبه التي كتبها بنفسه أيَّ تجاوزٍ على هذا المنهج العراقيِّ الوحدويّ، بل إنه يعبِّر عن حبِّه ورغبته بأن يكون أخاً لجميع العراقيين من أجل الخروج من هذه المحنة التأريخيَّة التي يعيش تفاصيلها العراق الآن، وهي محنة الإحتلال الأميركيِّ طبعاً، في حين لم يخلُ منبرٌ  آخر للجمعة من بعض ما يحرض الشعب العراقيَّ على الطائفيَّة البغيضة، وعلى الفرقة وضعف الشوكة، كنتيجةٍ لا بدَّ أن تحدث لهذا المنهج المشؤوم.

تصوَّر أنَّ احتلالاً مزوَّداً بأنواعٍ من الأسلحة لا يمكن أن يتحدَّث عنها الكاتب لأنها أسلحةٌ متطوِّرةٌ جداً بحيث لا يعرف تفاصيلها إلا المتخصِّصون البارعون، وهي قادرةٌ على أن تخوض حرباً في الفضاء كما يقولون، لا يتصدّى لها إلا منبرٌ مركزيٌّ في مسجد الكوفة، ومنابرُ أخرى فرعيَّةٌ تابعةٌ له في أنحاء العراق، ومع ذلك تستطيع هذه الأعواد التي يستطيع أن يكسرها أيُّ طفلٍ لو أراد بأقلِّ مجهودٍ أن تهزم هذه الأسلحة والأعتدة  الفتاكة إلى حدِّ الجنون، فهل عرف القوم صدق سيِّدنا الشهيد إذ قال:"ولو حضروا (يقصد إلى صلاة الجمعة)  لكان الإنتصار أكثر، واتحاد الحوزة والمذهب أكثر، حتى انني قلت: إنه بغضِّ النظر عن السلاح، فإننا نستطيع عندئذٍ من الناحية المعنويَّة أن نواجه إسرائيل نفسها.

ونقول لها كلا ثمَّ كلا، ارجعي من حيث أتيت"

وبإمكاننا أن نلخِّص السمات العامَّة لصلاة الجمعة التي أمَّها السيد مقتدى الصدر بما يأتي:

السمة الأولى:

الدعوة إلى إنهاء الإحتلال

فمنذ الأيام الأولى للإحتلال دعا السيد مقتدى الصدر العراقيين والعرب والمسلمين في العالم، كما دعا الشعب الأميركيَّ إلى التظاهر ضدَّ الغزو الأميركيِّ للعراق، كما إنه لم يعتبر قرار الأمم المتحدة المساند لقوات الإحتلال مبرراً كافياً لإضفاء الشرعيَّة عليه، إذ يبقى الإحتلال احتلالاً حتى لو صدرت مئات القرارات من مختلف المنظَّمات الدوليَّة لإضفاء الشرعيَّة عليه، وعلى هذا الأساس يبقى فاقداً للشرعيَّة الحقيقيَّة ويكون من حقِّ الشعب الذي تعرَّض لاحتلاله أن يقاومه حتى النهاية بمختلف الأساليب:

قال السيِّد مقتدى أعزَّه الله: " لقد سمعنا في الآونة الأخيرة وكان الخبر لا بُدَّ أنْ يكون صحيحاً حيث هو المُتصوَّر سابقاً ومَفاد الخبر ولو لم يكن بالنصّ، هو أنَّ أمريكا أعلنتْ احتلالها للعراق والعياذ بالله بقرارٍ مِن الاُمم المُتحدة وهذا من الناحية السياسية والدولية يعني بقاء الجيش الأمريكي في العراق وكذلك إمكان أنْ تكون الحكومة أمريكيةً أو مِمَّا يُعيِّنه الجيش الأمريكي ولكنْ لا بدَّ لنا من مناقشة هذا الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة وبعِدَّة نقاط :

أولاً: اُوجِّه كلامي وسلامي إلى كلِّ مَن اتبع الهُدى من الشعب الأمريكي وإلى كلِّ مَنْ هو مُحبٌّ للإنسانية والسّلام مِنهم وأقول لهم أنْ لا يكونوا مِمَّن يقبل بهذا القرار الظالم وأنْ يقوموا بما يَردَعُهم عن هذا القرار ولو بالمظاهرات السلمية فقط فإنَّ الشعب العراقي ليس عَدواً لكم بل مَنْ كان عدواً لكم قد زال بعونه تعالى وفضله كما هو واضحٌ، فما ذنبنا نحن !! .

 ثانياً: إنَّ القرار وإنْ كان من الأمم المتحدَة كما يُعبِّرون إلاّ أنَّ هذا لا يُعطي الصلاحية للإحتلال هذا أولاً، أمّا ثانياً فإنَّ أمريكا تقبل بالقرار الذي يَنفعها ولا تَقبل بالقرار الذي لا يَنفعها مِثل عَدَم الموافقة على الحرب سابقاً والمظنون إنَّ عَدَم الموافقة على الحرب كان صُوريّاً فقط.

ثالثاً: إنّ اتخاذ مثل هذا القرار وإنْ كانت فيه بعض المزايا الدولية عليهم مثل الإختصاص بالإعمار إلاّ أنَّ هذا لا يُعطيهم الحقَّ باحتلال دولة المسلمين والعراقيين عموماً فإنَّ أموال الشعب زادتْ أم قلتْ فهي للشعب ولا يحقُّ لأحدٍ أن يستوليَ عليها بطبيعة الحال وعموماً فأين الحرية المُدّعاة مِمّا ستقومون به من سَلب أموال الشعب .

رابعاً: يُمكن إقامة بعض المظاهرات السّلمية ضدَّ هذا القرار وبعض الإعتصامات السلمية أيضاً بطبيعة الحال، فلعلَّ هذا يكون باباً لإلغاء هذا القرار، وإنْ كان المظنون أنّها لا تَكتَرثُ بمثل هذه المظاهرات والإعتصامات كما فعلتْ في بعض الجامعات والكليات والمدارس من سحب المعتصمين فيها بكلِّ وقاحةٍ وشِدّةٍ وصلافةٍ وعَدم رحمةٍ وعدم اكتراثٍ بالرأي العامّ، فهل نحن ضدَّ الحرية أم مَنْ يفعل بالمتظاهرين والمعتصمين من طلاب المدارس بأبشع الأمور وهو إخراجهم مِن جامعاتهم وعدم تمكينهم مِنْ مُداولة دراستهم وأعمالهم هذا كله لأنّهم لم يَرضوا بالمنشورات المُحرمة واللاأخلاقية لأنّ دينهم وإيمانهم ووَرَعهم لا يقبل ذلك .

خامساً: إنَّ بعض قادتهم قد نُقِلَ عنه القول بما معناه أنَّ الشعب العراقي سيكون من مُحبّي أمريكا بعد التحرير على حدِّ تعبيره تقريباً، فهل هذا العمل وهو الإحتلال موافقٌ لهذا الإدّعاء أم سيكون الشعب العراقي ضِدَّهم بطبيعة الحال، وخصوصاً بعد النظر بأنَّ ذنب الإحتلال أكبر مِن حسنة التحرير لو كان تحريراً إنْ لم نَقُلْ بأنّ التحرير المُدّعى كان مُقدمةً للإحتلال والعياذ بالله .

 إنَّ أمريكا تَرضى بأنْ تكون هي المُحتلة أي الفاعلة للإحتلال فهل تقبل أنْ يقع عليها الإحتلال أو قُلْ منها الإحتلال فهي لنْ تقبل باليسير مِن البلاء فكيف تَقبل بالإحتلال وما لا ترتضيه لنفسها المفروض أنْ لا ترتضيه لغيرها مِمَّنْ تدَّعي مساعدته ونُصرَته وهذا واضحٌ عقلاً وشرعاً وقانوناً ولا شكَّ فيه أصلاً .

وعموماً، فإنَّ الدُّولَ الإسلامية ليس مِمَّن تقبل بالإحتلال وليس لأحدٍ الحقُّ بالإحتلال لأيِّ دولةٍ كانت، مُسلمة أم غيرها، وما وقع على العرب والمسلمين مِن ِاضطهادٍ واحتلالٍ مِن إسرائيل وغيرها من الدُّول يَستدعي التعاون مع المسلمين لإخراج المُحتلين لا التعاون مع المحتلين بطبيعة الحال، ومِمَّا وقع من ظلمٍ واضطهادٍ وحُرُوبٍ ودَمَارٍ في أوربا أو حتى في أمريكا نفسها لم يَكن للعرب ولا المسلمين اليد فيه إطلاقاً ولم يتعاونوا مع الفاعلين لا مِن قريبٍ ولا من بعيدٍ، فالتفتوا إلى ذلك رجاءاً " .

السمة الثانية

العمل من أجل تعزيز مبدأ الوحدة الوطنيَّة

 

لم يكن السيد مقتدى الصدر في كلِّ خطواته النظريَّة والعمليَّة يفرِّق بين أبناء الشعب العراقيّ، خاصةً بين أبناء الطائفتين المتآخيتين، الشيعة والسنة، بل كان دائماً يدعو إلى الوحدة بينهما وإلى العمل على أساس المشترك الدينيِّ والوطنيّ، ولم ينفكَّ يذكِّر أبناء الطائفتين بالمشتركات التي لا تحصى بينهما، وكان يدعو بشكلٍ دائمٍ إلى الصلوات المشتركة بين الشيعة والسنة، وهو مستمرٌّ على هذه الدعوات إلى الآن، وحتى في الوقت الذي اندلعت فيه الفتنة بفعل المحتلِّ لم ينجرَّ سماحته إلى تفكير بعض البسطاء من الناس، بل بقي مصراً على تعزيز خطابه الوطنيِّ والإسلاميِّ الوحدويّ، وبقي مستمراً على الدعوة إلى الصلوات المشتركة، وأن لا يقع الناس من أبناء الطائفتين ضحيَّة خطط المحتلِّ وضيق أفق التكفيريين الذين أتوا إلى العراق بنمطٍ من الفكر لا يحضُّ إلا على الفرقة والقتل والدمار، حتى تمكَّن الشعب العراقيُّ أخيراً من أن يتجه صوب التفكير الإسلاميِّ والوطنيِّ الصحيح، بأن عرفوا وتبصَّروا جميعاً بنوايا الإحتلال والتكفيريين جميعاً، وصار الشعب من الشيعة والسنة منهم على حذر، ولو عدنا إلى خطب سماحة السيد مقتدى الصدر لوجدناها طافحةً بكلمات الحبِّ والودِّ والإحترام لإخوانه من أهل السنة، كمثل هذا النصِّ الذي نقتبسه من خطبه المبكرة:"وأمدُّ يدي لإخواننا أهل السنة لنقيم الصلاة معاً لا متفرقين فلو أنّنا توحَّدنا لوجَدنا عَدوَّنا ضعيفاً ونحن الأقوياء ولا نحتاج لسفك الدماء الطاهرات وسيكون سلاحنا التوحُّد والسَّلام والإسلام ولا تجعلوا من اختلاف الرّأي تفرقةً بين المسلمين، فأهلاً بكم في صلواتنا تؤازروننا ونؤازركم وتعينوننا ونعينكم وبعد ذلك لا تسمعون لهم ركزاً ولا هَضماً بل سيُولون الأدبار ثمَّ لا يُنصرون فهم للهزيمة جاهزون وللفشل معتادون، فأعلِن من هنا أني مُستعدٌّ للتعاون مع أيِّ مرجعيَّةٍ تريد مصلحة الشعب والبلاد وكلِّ مرجعيَّةٍ تريد الإعمار والبناء وكلِّ مرجعيَّةٍ لاتضع يدها بيد الظالم و الظالمين بل تضعها بيد الشعب والمحبين لتنتشلهم من الضياع إلى الهداية ومن الظلمات إلى النور فهذا هو واجبهم بطبيعة الحال، وكلما كان أسرع كان أولى للشعب ولنا عموماً، ولا أقصد بالمرجعيَّة بالمعنى الأخصِّ بل كلّ مَنْ يُرجَع إليه في الاُمور الشرعيَّة والسياسيَّة وليعلموا أنَّ المُتضرر الوحيد من التفرقة هو الشعب المظلوم الذي آن الأوان لانتشاله من الضياع الذي لا يجد بُدّاً من الإنتظار، انتظار الأوامر من مرجعياته بحبِّه لها وإخلاصه وإيمانه ومع التوحُّد ستجدون الشعب لكم مطيعاً وعدوكم ذليلاً"

 

 

السمةُ الثالثة

المطالبة بالخدمات العامَّة  ومحاربة الفساد الإداريِّ والماليّ.

قال سماحة السيِّد مقتدى الصدر: مشكلة انقطاع التيار الكهربائيِّ في عموم العراق وليس على صعيد المحافظة فقط، وتلك المشكلة لطالما عانى منها الشعب العراقيُّ في زمن الطاغية هدام ومازال يعاني منها، فقد كان يستعملها ورقة ضغطٍ على الشعب العراقيِّ ليأخذ منه ما يريد والعياذ بالله ويلهيه عن أمورٍ عديدةٍ ويبقي المجتمع منتظراً لرجوع الكهرباء دون غيره من القضاية السياسيَّة والإجتماعيَّة والدينيَّة وإصلاح المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ينطبق في زماننا هذا أيضاً وهو لأحد سببين،  إما أنَّ جميع الطغاة فكرهم متشابهٌ أو ما قلناه من أنَّ الإحتلال بدأ بإرجاع البعثيين الكفرة الطغاة إلى الوظائف أو الإستعانة بهم أو الإستعانة بأفكارهم الخبيثة وليس لأنَّ البعث أخبث من الإحتلال بل لأنهُ صاحب تجربةٍ مع الشعب العراقيِّ المظلوم"

وقال سماحته أيضاً: "قد دعوتكم في الجمعة السابقة إلى القيام بإضرابٍ شاملٍ ، فأطيعوا الله وأطيعوا الرسول يغفر لكم من ذنوبكم ، هذا وإني أضيف إلى الأهداف الماديَّة للإضراب أهدافاً أخرى نطالب بها .

1-إعادة الإستقرار الأمنيِّ إلى العراق بواسطة إزالة الفوضى الموجودة في البلد من نقص الماء والكهرباء والوقود وباقي الأمور الخدميَّة .

2-محاكمة قوات الإحتلال في حالة اعتدائها على الشعب العراقيِّ البريء بمحاكمةٍ مشتركةٍ بين الشرع والقانون ، فهذا هو العدل الدوليُّ لو صح َّالتعبير، وبإشراف أيٍّ من المنظَّمات الدوليَّة والإنسانيَّة إن كان ولا بدَّ.

 3- إعطاء الحقوق للأقليات من الأحزاب والتيارات والحركات الشريفة للمشاركة في بناء العراق سياسياً واقتصادياً وباقي الأمور عموماً ، فهذا هو العدل بعينه"  .

 

  إنَّ منبر الجمعة بعد الإحتلال كان دائم المطالبة بالخدمات العامَّة بعد أن أهملها الإحتلال وسعى إلى خرابها، خاصَّةً مع اعتماده على جماعةٍ من السياسيين لا يبالون إلا بأن تكون لهم الأرصدة الضخمة في البنوك الأوربيَّة والأمريكيَّة  وفي الخليج، بالإضافة إلى ما تعتبر شخصياتهم مبتلاةً به من الجهل الفاضح والسطحيَّة في التفكير، مع ما يحملونه في رؤوسهم من الأوهام الليبراليَّة التي تجعلهم يتصوَّرون أنَّ خير العراق متمثِّلٌ في متابعة أميركا والإنسلاخ من هويَّته الحضاريَّة وشخصيَّته السياسيَّة المستقلَّة، هذا كلُّه مع نظرهم إلى جوع الشعب العراقيِّ وظمئه وعذابه من نقص الخدمات خاصَّةً في قطاع الكهرباء  وسخريتهم من كلِّ ذلك، بل إنهم يخرجون على شاشات التلفاز علانيةً ويصرِّحون أنَّ مستويات المعيشة ارتفعت جداً ووصلت إلى معدَّلاتها في اليابان أو في أمريكا أو في الإمارات، وهم صادقون طبعاً إن كانوا يقصدون مستوياتهم المعيشيَّة هم، وإلا فإنَّ ثلث الشعب العراقيِّ يعيش في بيوت الصفيح وفي بيوتٍ هي من التجاوز على الأراضي العامَّة، ناهيك عن الثلث الباقي الذي يعتبر فاقداً في مستوى معيشته لحدِّ الكفاف، أما الثلث الباقي فقل عنه إنه مكوَّنٌ من قليلٍ جداً ممن يكسب عيشه بشرفٍ، والأغلبيَّة الساحقة من هذه النسبة الأخيرة مكوَّنةٌ منهم ومن حماياتهم ومن متملِّقيهم ومتزلِّفيهم وسماسرتهم وما إلى ذلك، لكنَّ ثروة العراق في حقيقة الأمر مقسَّمةٌ إلى قسمين في نهاية المطاف، قسمٍ يذهب إلى رواتب الرئاسات الثلاث، و قسم يذهب إلى رواتب الوزراء والبرلمانيين  ذوي الضمائر الميِّتة، والحمد لله الذي جعل فضيحتهم على شاشات التلفاز وفي جميع مواقع الإنترنت مؤخَّراً، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ حقيرٍ سينقلبون.

والحمدُ لله ربِّ العالمين أوَّلاً وآخراً

 

المصادر

1- جان جاك شفالييه، المؤلفات السياسيَّة الكبرى من ماكيافيلي إلى أيامنا، ترجمة إلياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 1980، 217.

2- أضواء على منبر الصدر، شرح وتعليق الشيخ عبد الرزاق النداوي. فنشير إلى أنَّ بعض الهوامش على كلمات السيد الصدر عائدةٌ له. طبعة مركز الدراسات التخصصيَّة في فكر السيد الشهيد محمد الصدر ((قده)).

3- السيد محمد الصدر. فقه الأخلاق. جزءان في مجلدٍ واحد. الناشر: أنوار الهدى. ط1. 1380 هـ ش.

4- السيد محمد الصدر. منهج الصدر. تقرير إسماعيل الوائليّ.

 5- حج الفقراء. مجموعة خطب الجمعة لسماحة السيد مقتدى الصدر. نسخةٌ الكترونيَّة.

 

باسم الماضي الحسناوي

[email protected]

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1086  الاثنين 22/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم