قضايا وآراء

الإنعطافةُ الكبرى- في الذكرى السنويَّة لصلاة الجمعة في العراق (2)

بمعنى أنَّ السيِّد الشهيد الأوَّل كان يفضِّل الإصلاح الصامت للحوزة إن صحَّت العبارة، ولا يميل إلى إعلان الموقف النظريِّ المعلن ضدَّ تلك النزعات والتصرُّفات التي تعتبر  هي العامل الأبرز في تخلُّف الدور المرجعيِّ وتراجع الحالة الدينيَّة في المجتمعات الإسلاميَّة المختلفة، خاصَّةً داخل العراق، فكان يأمل أن يضرب المثل الصالح من نفسه للحوزة كي تغيِّر من منهجها وسلوكها وتعي ما يلقيه عليها الله والتأريخ من المسؤوليَّة الدينيَّة والأخلاقيَّة في إصلاح المجتمع وقيادته قيادةً إسلاميَّةً رشيدةً، ولقد وعى السيِّد الشهيد الصدر الثاني هذه الحالة، فمارس عملياً ثورته الإصلاحيَّة الكبرى على مختلف الصعد والمستويات، وأوَّلها توجيه النقد الدينيِّ الصارم للحوزة نفسها، ليس لأنه يضمر نحوها السوء طبعاً، بل لأنه يريد لها الحالة الأفضل، ولأنه يريد لها أن تأخذ دورها الدينيَّ والتأريخيَّ في قيادة المجتمع، ولم تعِ العديد من الأطراف الحوزويَّة هذه النيَّة الحسنة في مشروع السيِّد الشهيد الصدر الثاني مع الأسف، فألحقت به شتى التهم التي هو بريءٌ منها بالتأكيد، بل إنَّ نقيضها هو ما كان يختلج في صدره الشريف حتماً.

المقارنة الثالثة:  لقد أبدى السيِّد الشهيد الثاني وعياً منقطع النظير لما يتطلَّبه المشروع الإصلاحيُّ الدينيُّ من الآليات والوسائل، بمعنى أنَّ السيِّد الشهيد انطلق من القناعة التي تصمِّم على أنَّ الحوزة هي القائد الفعليُّ للمجتمع، وهي الممثل الشرعيُّ الوحيد للخطِّ الدينيِّ الرساليّ، وعلى هذا الأساس فلا بدَّ أن تكون نقطة الإنطلاق الأولى هي إصلاح الحوزة نفسها، بالشروع في استحداث وسائل غير تقليديَّةٍ في الدرس الحوزويّ، وبتحديث الكثير من المقرَّرات المنهجيَّة الحوزويَّة، في حين لم يقم السيِّد الشهيد الأوَّل بهذا الإجراء بشكلٍ معتدٍّ به على مستوى الدراسات الحوزويَّة، فكان يجدِّد في نطاق الدرس الحوزويِّ التقليديِّ نفسه، فإذا قيل إنَّ السيِّد الشهيد الأوَّل كان مؤلفاً بارعاً في حقول الفلسفة الإسلاميَّة والعلوم الإنسانيَّة الأخرى التي ساهمت مساهمةً فعليَّةً في تجديد المنهج الحوزويِّ كلِّه، قلنا: نعم، ولكنَّ الحوزة بقيت تنظر إلى ذلك التجديد على أنه اختيارٌ خاصٌّ، أو أنه من باب الفضول المعرفيِّ والثقافيِّ والفلسفيِّ الذي يمكن الإستغناء عنه، على العكس من الوضع الذي أصبح عليه في زمن السيِّد الشهيد، إذ أصبح الهمُّ الثقافيُّ العامُّ ومناقشة الفلسفات الماديَّة والإلحاديَّة بتنظيراتٍ تأصيليَّةٍ فلسفيَّةٍ جادَّةٍ هو السمة الغالبة على البحوث في داخل الحوزة، ولم يعد النظر إليها متَّجهاً صوب اعتبارها علوماً يمكن الإستغناء عنها، مضافاً إلى أنَّ السيِّد الشهيد جعل من ذلك الهمِّ المعرفيِّ والثقافيِّ حالةً عامةً شاملةً لكلِّ شرائح المجتمع الإسلاميِّ تقريباً من خلال الإحتكاك المستمرِّ بالقطاعات الإجتماعيَّة عبر صلاة الجمعة المباركة، وعبر اللقاءات العامَّة في البراني وغيره كذلك، ناهيك عما كان يقوم به طلاب السيِّد الشهيد من الترويج لهذا النهج التربويِّ والثقافيِّ الجديد في كافَّة مدن وقصبات العراق، كما إنَّ النخب المثقفة التي جذبها مشروع السيِّد الشهيد الثاني صار لها الدور الكبير في نشر الوعي الإسلاميِّ داخل قطاعات المجتمع من خلال استثمار ما لديهم من المعارف المختلفة، خاصَّةً في تلك المجالات المهمَّة في العصر الحديث، أقصد تلك الحقول الخاصَّة بالفلسفة الغربيَّة الحديثة ومقارنتها بالرؤية الفلسفيَّة العامَّة للإسلام، موضِّحين تهافت الكثير من الأطروحات والأفكار الماديَّة والإلحاديَّة في الفلسفة الغربيَّة بناءً على وعيٍ شاملٍ معمَّقٍ لمشروع السيِّد الشهيد.

لقد كان السيِّد الشهيد يسعى بكامل جهده وطاقته إلى تحقيق رؤيةٍ داخل المجتمع الإسلاميِّ لا تعتمد على بقائه واستمراره في الحياة، فمن المعتاد كما يقول هو قُدِّسَ سرُّه أنَّ المرجع المصلح حين يظهر ويمارس دوره في الإصلاح الدينيِّ والإجتماعيِّ يتفاعل معه المجتمع ما دام موجوداً على قيد الحياة، ثمَّ إذا ما مات انتهى كلُّ شيءٍ، فكأنَّ شيئاً لم يكن، وكأنَّ المجتمع لم تهبَّ عليه ريح الإصلاح في يومٍ ما: "من النقاط المؤسفة التي يصعب جدّاً تلافيها، بل الآن عملياً لا يمكن تلافيها، أنَّ المرجعيَّة تقوم بواحدٍ، إذا مات هذا الواحد اندثر هو وآراؤه، يعني هو راح، ولكنَّ أفكاره العامَّة إجمالاً ونشاطه ونفعه للناس، أي ليس له بديلٌ مماثلٌ، في حين أنا كررت أنني أريد أن أربِّي بديلاً مماثلاً لو صحَّ التعبير، ولربما أحسن مني، ولربما أحسن مني بكثيرٍ، أنا ما هي قيمتي، لكنَّ العمدة نفع التشيُّع، ونفع المجتمع، ونفع الحوزة، فالمهمُّ أنَّ جهة صلاة الجمعة لا تتوقَّف على البديل المماثل، أنتم يا أئمة الجمعة ابقوا مستمرين على إمامة الجمعة، وكذلك أنتم لا تكونوا كما سمعت من العديدين أيضاً، ولربما من المتحمِّسين لهذا الأمر، أنه إذا مات السيِّد محمَّد الصدر نترك عمائمنا ونذهب لنصبح كسبةً، لا حبيبي إذن أنتم تعطون الفرصة لمن أفسدوا أن يفسدوا في الحقيقة، لا أقول أكثر من ذلك في داخل الحوزة وفي خارج الحوزة لا، أنتم ابقوا كأناسٍ صالحين على الساحة الحوزويَّة، وعلى الساحة الإجتماعيَّة، لماذا؟ على الأقلِّ أنه تمثلون نهجي، وإن شاء الله فيه رضا الله سبحانه وتعالى، أمّا أن تفرغوا الحوزة من جديدٍ، كما كانت فارغةً قبل أربع أو خمس سنواتٍ أو أكثر أو أقلّ، إذن أين أصبحت مسؤوليتكم لا،لا، ابقوا من أجل حفظ ولاية أمير المؤمنين، أنا ليس لي أثرٌ، أنا من قبيل المثل الذي يقول (الماء يأخذ سهمه، والتراب يأخذ سهمه)( ) لكنَّ الدين لا يذهب، والله تعالى حيٌّ لا يموت، فمن هذه الناحية ينبغي حفظ هذا الطريق جهد الإمكان، إذا قهرتم من شيءٍ من سببٍ داخليٍّ أو سببٍ خارجيٍّ هذا بابٌ آخر، تكونون فارغي الذمَّة، معذورين، لكنه في حدود الإمكان أن لا تفعلوا ذلك" .

لقد تسبَّبت هذه الحالة التي أشار إليها السيِّد الشهيد الصدر الثاني قدِّسَ سرُّه في:

أوَّلاً: أن تذهب كلُّ عمليات الإصلاح الدينيِّ سدىً بعد وفاة المصلح، وأن يعود المجتمع إلى حالة التردي السابقة، فلا يجني المجتمع والحوزة من هذه الحركات الإصلاحيَّة التي يجهضها موت المرجع المصلح إلا التعب والعناء، وإلا فقدان المزيد من الرصيد البشريِّ للأمة، إذ يستشري الطغاة فلا يتردَّدون في إعدام كلِّ من سوَّلت له نفسه أن ينصر المرجع في حياته، وهذا ما حصل مع الحركة الإصلاحيَّة الكبيرة التي اندلعت على يد سماحة السيِّد الشهيد الأوَّل، إذ تمَّ إعدام السيِّد الشهيد على يد الطاغية في غفلةٍ عن الأمة، ثمَّ بدأ الطاغية بملاحقة أنصاره القريبين وغير القريبين منه، حتى أصبح الإعدام على مجرَّد الشبهة والظنّ، ورجع المجتمع بعدها إلى الحالة الأولى قبل الإصلاح، وربما تمادى في الإبتعاد عن الشريعة الإسلاميَّة وتعاليمها السمحاء أكثر.

ثانياً: من المعلوم أنَّ المشاريع الإصلاحيَّة كلَّها ما لم تتأسس على قاعدة الإستفادة من كلِّ تفاصيلها وحلقاتها التي يجب أن تستمرَّ في إطار ما يعرف بعمليَّة التراكم، فإنها تتعرَّض للزوال سريعاً، وأقصى ما يمكن أن يقال عن مقدار الفائدة فيها أنها تتحوَّل إلى شيءٍ شاحبٍ في الذاكرة الإجتماعيَّة والتأريخيَّة، أي إنها تضاف إلى رصيد الأمة من المظلوميات وكفى، وهذا ما عمل السيِّد الشهيد الصدر الثاني على تجاوزه من خلال ما تحدَّث عنه في الإقتباس السابق، بحيث لا يكون استشهاده نفسه حائلاً دون تحقيق هذه الغاية، وبالفعل فإنَّ الأمة التي أشرف على تربيتها سماحة السيِّد الشهيد الصدر الثاني لا يمكن أن تزول، لأنَّ كلَّ واحدٍ من الأمة تشرَّب مبادئ الصدر وتعلَّق بها بمقدار فهمه واستيعابه، لكنَّ الحصيلة النهائيَّة لفهم الأمة قريبٌ جداً مما أراده سماحة السيِّد الشهيد، مما يشكِّل ضمانةً أكيدةً لاستمرار المشروع إلى وقت ظهور الإمام عليه السلام إن شاء الله.

ثالثاً: لقد تسبَّبت هذه الحال كذلك في أن تفقد الأمة ثقتها في التغيير، لأنَّ تجارب الإخفاق تتعدَّد طبقاً للمنهجيَّة القديمة التي ننقدها الآن مع السيِّد الشهيد قدِّسَ سرُّه، فمن الطبيعيِّ أنَّ الكثير من قطاعات الأمة لا تتفاعل بشكلٍ إيجابيٍّ مثمرٍ مع أيَّة حركةٍ تغييريَّةٍ جديدةٍ إذا سبقتها تجارب مماثلةٌ كانت نتيجتها الإخفاق، وكان على المراجع التأريخيين أن ينتبهوا إلى هذه الحالة الإجتماعيَّة النفسيَّة، وبالفعل، فإنَّ المرء لو تتبَّع الحالة النفسيَّة والإجتماعيَّة للجماهير الإسلاميَّة المؤمنة في مختلف مراحل التأريخ لوجد أنَّ جذوتها وعاطفتها القويَّة واندفاعها نحو التغيير يقلُّ شيئاً فشيئاً مع تقادم الزمان، ومع تعاقب التجارب التغييريَّة الإصلاحيَّة المخفقة، حتى أصبح المسلم ميالاً إلى العمل بالتقيَّة المكثَّفة في غير مواردها الشرعيَّة غالباً، لأنها تمنحه القدرة على التأقلم مع الأوضاع المنحرفة الشاذَّة التي يكون مجبراً على التعاطي معها لانعدام البديل الإسلاميِّ الصالح، في الوقت الذي لا يبدي فيه حماسةً قويَّةً نحو مشاريع التغيير وإن تعاطف معها قليلاً، لأنه يحدس أنَّ نتيجتها إلى زوالٍ حتماً، فليس من الصحيح إذن أن يحمِّل الكثير من المراجع المجتمع تلك اللائمة التأريخيَّة في أنه لا يصدق وعده معهم لو أنهم جنحوا نحو التغيير وإعلان الثورة، لأنهم هم أوَّل من يتحمَّل ذلك في الحقيقة، كونهم لم يلتفتوا إلى الشروط الموضوعيَّة في نجاح حركاتهم التغييريَّة التي توجد في مستوى الطموح، ولكنَّ هذا اللوم المجانيَّ للجماهير يعكس حالةً من الجهل المطبق بالكثير من الحيثيات والتفاصيل التي تتعلَّق بعلم نفس الشعوب وقواعد علم الإجتماع، إذ لا بدَّ للمرجع أن يكون في الذروة العالية من الإحاطة بها بطبيعة الحال.

  فإذاعدنا إلى الحديث عن حالة المجتمع العراقيِّ قبل صلاة الجمعة ومرجعيَّة السيِّد الشهيد، فإننا نجد أنَّ المجتمع قد مرَّ في ظرفٍ تأريخيٍّ صعب، ليست بدايته الفترة التي حكم فيها صدام حسين، بل تمتدُّ بجذورها إلى الفترات التأريخيَّة الأسبق بالتأكيد، ربما إلى تلك الأزمان السحيقة التي أعقبت عصر الغيبة الصغرى، فمع دخول المجتمع الإسلاميِّ عصر الغيبة الكبرى لم يعد فقهاء الأمة يحملون هذا الهمَّ الإجتماعيَّ التغييريَّ بالطريقة العلميَّة الصحيحة التي سلكها السيِّد الشهيد في العصر الذي عشناه، أمّا إذا شئنا أن ننظر إلى التأريخ القريب، فقل إنَّ توقيع تلك الوثيقة المشؤومة من قبل علماء النجف على أن لا يتدخلوا في العمل السياسيِّ من قريبٍ أو من بعيد، مقابل السماح لهم بالعودة إلى النجف وممارسة الحياة الطبيعيَّة في الحوزة في زمن الملك فيصل الأوَّل كانت المنعطف التأريخيَّ الخطير الذي جرَّد الحوزة والمرجعيَّة من كلِّ أسلحتها ووسائلها في أن تخوض غمار التغيير الإجتماعيِّ فيما بعد، واستمرَّ الحال على هذه الوتيرة حتى ظهور السيِّد محمَّد باقر الصدر، وأجهض مشروعه بإعدامه رضي الله عنه، ثمَّ كانت نقطة التحوُّل الكبرى على يد سماحة السيِّد الشهيد الثاني بمشروعه الإسلاميِّ التغييريِّ الكبير في  إحياء  صلاة الجمعة في عموم أنحاء العراق.

إنَّ أبرز حدثين على الإطلاق على المستوى الإسلاميِّ في القرن العشرين هما:

أوَّلاً: الثورة الإسلاميَّة في إيران.

ثانياً: استشهاد السيِّد محمَّد باقر الصدر رضي الله عنه على يد الطاغية المقبور في بداية الثمانينات.

ومن الطبيعيِّ أن يكون هذا التغيُّر في الحالة السياسيَّة على مستوى دخول الإسلام بصفته كياناً سياسياً ضخماً متمثلاً في واحدةٍ من أهمِّ دول الشرق الأوسط مرعباً للسياسة الإستكباريَّة في العالم الحديث، خاصَّةً بالنسبة إلى أمريكا والإتحاد السوفياتيِّ إبان تلك الفترة، فكان من مصلحة الجميع نشوب حربٍ بين أهمِّ دولتين يحتويان على المدِّ الدينيِّ الإسلاميّ، وهما إيران والعراق، ولا يقل أحدٌ أنَّ العراق في زمن صدام لم يكن دولةً إسلاميَّةً بالمعنى السياسيِّ المفهوم من هذا الإصطلاح، فلا تكون الحرب بين دولتين إسلاميتين بهذا المعنى، فإننا نجيب بأنَّ العراق وإن كان محكوماً من قبل حكومةٍ علمانيَّةٍ لا تعترف بالنظام السياسيِّ الإسلاميّ، لكنه يحتوي على رصيدٍ معنويٍّ ودينيٍّ ضخمٍ يمكن أن يهدِّد المصالح الإستكباريَّة فيما لو بقي الحال على ما هو عليه ولم تتدخَّل تلك السياسات الإستكباريَّة لوضع حدٍّ لهذا المدِّ الإسلاميِّ في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا، فإنَّ الحرب بين العراق وإيران كانت نتائجها تصبُّ في آخرة الأمر طبقاً لكلِّ النهايات المحتملة في مصلحة تلك الغاية، وهي إنهاك الوجود الإسلاميِّ في المنطقة، بحيث يبدو هذا التغيُّر الناجم عن دخول الإسلام إلى المعترك السياسيِّ العالميِّ وبالاً على الناس في كلا الدولتين اللتين تحتويان على هذا الرصيد الدينيِّ الكبير.

لهذا عملت الدول الإستكباريَّة العظمى وفي مقدَّمتها أميركا طبعاً على إشعال الحرب وتوفير أسبابها وتغذية عوامل استمرارها بين الجانبين، حتى تسبَّبت الحرب في قتل مئات الآلاف من الطرفين، وكان الضحايا جميعاً من المسلمين في نهاية الأمر، وقد شاهد الناس بأمِّ أعينهم في زمن الحرب كيف أنَّ الغالبيَّة العظمى من ضحاياها العراقيين لم تكن لهم ناقةٌ ولا جملٌ فيها، وربما كانت هذه الغالبيَّة الساحقة من الجند العراقيين مناوئين في ضمائرهم لنظام الطاغية، ولكنهم مجبرون على الذهاب إلى الجبهة في كلِّ الأحوال.

وإذ اقترنت الحرب بحدثٍ فجائعيٍّ آخر هو استشهاد السيِّد محمَّد باقر الصدر على يد الطاغية، فإنَّ الحال بدا مرعباً جداً بالنسبة إلى المجتمع العراقيِّ كله، إذ بدا النظام قاسياً جداً، إلى درجة أنه لم يتردَّد في إعدام مرجعٍ كبيرٍ بوزن وحجم السيِّد محمَّد باقر الصدر، فكيف تكون النتيجة لو تعلَّق الأمر بالبسطاء من الناس لو أنهم قرَّروا معارضة النظام الحاكم، وفعلاً كانت النتيجة هي الإعدام في أبشع صوره الإجراميَّة بالنسبة إلى كلِّ إنسانٍ تحوطه التهم فضلاً عمَّن تثبت عليه تهمة المعارضة والعمل ضدَّ النظام الحاكم، حتى كان عدد من يعدمون في مقاصل الحكومة مساوياً تقريباً لعدد من يقتلون في جبهات القتال.

لك أن تتخيَّل الآن الوضع الأخلاقيَّ والدينيَّ كيف يكون في ظلِّ إرهابٍ من هذا الطراز، حتى أني كنت أستمع إلى مختلف النصائح التي يتقدَّم بها الآباء إلى أبنائهم في تلك الحقبة للحفاظ على أبنائهم من بطش السلطة وليدفعوا عنهم التهم والظنون التي من الممكن أن تؤدي بهم إلى المهالك، وكانت تلك النصائح عجيبةً في مساراتها، إذ يصبُّ مجملها في ضرورة أن يتحلّى الأبناء بالأخلاق الداعرة، وأن يشربوا الخمور كذلك، وأن يرتادوا الأماكن التي تنسيهم الأخلاق الدينيَّة بالكامل، حتى أصبح مجرَّد مشهد الشباب وهم يصلون في المساجد العامَّة دليلاً على أنهم ينتمون إلى حزبٍ دينيٍّ معارضٍ، فيقبضهم رجال الأمن ويعدمونهم خلال أيام، فكن أيَّ شيءٍ في العراق آنذاك إلا أن تكون متديِّناً فإنك معرَّضٌ للإعتقال والإعدام، ولا تلومنَّ إلا نفسك في نهاية الأمر في نظر الرأي الشعبيِّ العامّ.

على أنقاض هذه الحالة الدينيَّة والروحيَّة الفجائعيَّة المتردية جاءت مرجعيَّة السيِّد الشهيد الصدر الثاني، فكانت المهمَّة عسيرةً عليه وصعبةً جداً بالفعل، إذ كان محاطاً بعقباتٍ ليست من نوعٍ واحدٍ، فالحوزة لا تشاركه رؤيته في التصدي لهذا الوضع الخطير الذي انحدرت إليه الحالة الدينيَّة في العراق، كما إنَّ فيها أطرافاً لا تفهم مغزى ما يشاء القيام به من مشروعات التغيير والإصلاح، وبعضها كان يفهم، إلا أنَّ حقده الشخصيَّ وحسده للسيِّد الشهيد يحمله على أن يشيع عنه مختلف الإتهامات التي كان بريئاً منها في الحقيقة، وأوَّل تلك الإتهامات أنه كان عميلاً لصدام، أو أنه كان عميلاً للمخابرات الإسرائيليَّة حتى، مع علمهم التامِّ بتأريخه، وبظروفه التي أنتجته، وبطراز تفكيره منذ كان صغيراً بينهم يتلقى العلم حتى أصبح شابّاً فقام بتأليف الكتب الدينيَّة الرائعة التي حازت على إعجاب عباقرة الحوزة في وقتها، وأوَّل ما يتبادر إلى الذهن كتابه الخالد حول الإمام المهديِّ عليه السلام بأجزائه الأربعة المعروفة، وكتابه المبتكر الآخر ((ما وراء الفقه)) بأجزاءه العديدة كذلك، وقديماً قيل:

سوى وجع الحسّاد داوِ فإنه   إذا حلَّ في قلبٍ فليسَ يزولُ

 

ما يميِّز صلاة الجمعة في العراق عنها في إيران

قال السيِّد الشهيد الصدر قُدِّسَ سرُّه في معرض تقييم صلاة الجمعة التي تمَّ إحياؤها على يديه في العراق ومقارنتها بصلاة الجمعة التي تمَّ إحياؤها في إيران مع قيام الجمهوريَّة الإسلاميَّة فيها: " يمكن أن نلاحظ أنَّ ما حصل هنا ـ هذه صلاة الجمعة التي نحن  ملتزمون بها جميعاً إن شاء الله ـ ما لم يحصل على مدى التأريخ لأيِّ أحد. وأمامنا الآن إيران.. فإنهم حين أقاموا صلاة الجمعة نِعمَ ما فعلوا، ولكن لم تكتسب إقامتها هذه الأهميَّة التي رأيناها في العراق، بالرغم من وجود دولتهم وحوزتهم، وإنما نظر إليها العالم هناك كعبادةٍ اعتياديَّةٍ، حصلت قناعةٌ اعتياديَّةٌ من قبلهم بإقامتها [لا بأس شي فيه ثواب]. وأما هنا فكانت فتحاً مبيناً لا مثيل له، كما قال تعالى: ((إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ويتمَّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزاً. هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيما. ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفرعنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزاً عظيما (القرآن ينطبق دائماً. افهموه من زاوية ما هو موجودٌ الآن) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانِّين بالله ظنَّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنَّم وساءت مصيرا. ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزاً حكيما. إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقروه وتسبحوه بكرةً وأصيلا. إنَّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما)).

ولك أن تفهم هذه الآيات الكريمات كما شئت، ولكني أقول إنها تنطبق على مقامنا هذا انطباقاً عالياً وجليلاً، فله الحمد والمنَّة .

ونحن هنا تحت عنوان هذه الفقرة عازمون على إيضاح ما بقي مضمراً في كلام السيِّد الشهيد قُدِّسَ سرُّه، مع ضرورة التنبيه إلى أنَّ ما سنكتبه لا يمثل إلا وجهة نظرنا الخاصَّة، فهي قراءةٌ واحدةٌ من عدَّة قراءاتٍ يمكن أن تُقدَّم في هذا السياق، لذا يمكن أن تحتمل هذه القراءة الصواب أو الخطأ على درجةٍ واحدةٍ بالنسبة إلى من سوف يقرأني، فيتفق أو يختلف معي، على قاعدة العلم والموضوعيَّة بالتأكيد، وليس على قاعدة الهوى النفسيِّ والرغبات الشخصيَّة، فنحن قائلون بعد التوكُّل على الله إنَّ صلاة الجمعة بعد أن تمَّ هجرها طوال التأريخ الإماميِّ بعد عصر الغيبة على وجه التقريب تمَّ إحياؤها في مناسبتين:

المناسبة الأولى: إحياؤها في إيران مع قيام جمهوريَّتها الحاليَّة.

المناسبة الثانية: إحياؤها في العراق، مع نهوض السيِّد الشهيد الصدر الثاني بأعباء المرجعيَّة والولاية العامَّة على المسلمين.

ومن همِّنا في هذا المقام أن نقوم بمقارنةٍ موضوعيَّةٍ بين الصلاتين، من الزاوية التي تتمتَّع بالأهميَّة على مستوى تضمُّنِهما للمعاني والدلالات الإنقلابيَّة والتغييريَّة في المجتمع الإيرانيِّ والمجتمع العراقيِّ على السواء من جهةٍ، وفي العالم الإسلاميِّ كلِّه من جهةٍ أخرى، وسنبوِّب مقارناتنا هذه في النقاط الآتية:

النقطة الأولى: أقيمت صلاة الجمعة في إيران بعد نجاح الثورة الإسلاميَّة، وبعد أن تسلَّم رجال الدين الحكومة بشكلٍ مطلقٍ، فكانت صلاة الجمعة من هذه الناحية فاقدةً لروح المعارضة، أو قل إنها كانت إعلاماً للسلطة الجديدة، وليست إعلاماً ومعارضةً ضدَّها، وهذا ما يجعل صلاة الجمعة في إيران فاقدةً لروح المعارضة التي وجدت في صلاة الجمعة داخل العراق، فلقد انطلقت صلاة الجمعة ها هنا والحاكم الظالم ممسكٌ بقبضةٍ من حديدٍ على زمام الأمور في البلاد، وهذا ما جعل لصلاة الجمعة طعماً خاصّاً لم يوجد هناك، وتلك خاصيَّةٌ لا يمكن تجاهلها أثناء إجراء المقارنة بينهما على الإطلاق.

النقطة الثانية: إنَّ السيِّد الشهيد ابتغى من خلال إقامة الجمعة في هذه الظروف أن يوصل رسالةً إلى الحوزة في كلِّ العصور، وهي أنَّ إقامة صلاة الجمعة ليست رهينةً بوجود الإمام من جهةٍ، كما إنها ليست رهينةً بوجود الحكم العادل من جهةٍ أخرى، بشرط أن يؤدي المصلون شروطها المعروفة في الرسائل العمليَّة الفقهيَّة، في حين أنَّ صلاة الجمعة في إيران لم تفلح في إيصال هذه الرسالة، وكلُّ ما نجحت فيه هو أنها بعثت برسالةٍ إلى المجتمع الإسلاميِّ الشيعيِّ بأن ليس من شروط صلاة الجمعة ظهور الإمام المعصوم ووجوده بين الناس، ولكنها أبقت ضمناً على الشرط الآخر، وهو وجود الحكم العادل على يد الوليِّ الفقيه بعد التمكُّن من بسط يده،  مما يعني أنَّ هذه الفريضة تبقى معطلةً في البلدان الإسلاميَّة الأخرى التي يوجد فيها الشيعة، لأنَّ الفقيه فيها ليس مبسوط اليد خاصَّةً من جهة الحكم، في حين أنَّ صلاة الجمعة في العراق تضمَّنت دلالةً أخرى من هذه الجهة، وهي أنَّ إقامة الجمعة ليست رهينةً بهذا الشرط مطلقاً، بل هي تقام حتى في الحالة التي لا يكون فيها الفقيه مبسوط اليد بالكامل. ومن هذه الجهة فإنَّ صلاة الجمعة في العراق مثَّلت الإحياء الحقيقيَّ لهذه الفريضة الإسلاميَّة المعطَّلة.

النقطة الثالثة: إنَّ المضامين التي تحدَّث بها السيِّد الشهيد في العراق تتقدَّم أشواطاً على تلك التي تحدَّثت بها صلاة الجمعة في إيران، وبإمكان أيِّ شخصٍ أن يلاحظ كيف أنَّ السيِّد الشهيد استطاع أن يرتفع بالمستوى الثقافيِّ والدينيِّ للمجتمع بكافَّة طبقاته خلال فترةٍ وجيزةٍ، في حين بقيت صلاة الجمعة عاديَّةً من هذه الجهة، وتحتاج مثل هذه النقطة إلى البرهنة الميدانيَّة من خلال المقارنة بين الخطب في إيران والعراق مما لا يتسع له المقام في هذه المناسبة.

النقطة الرابعة: إنَّ صلاة الجمعة في العراق كانت عملاً ثورياً بكلِّ معنى الكلمة، وهذا ما أشار إليه ارتداء الكفن، فكان الإستشهاد مستمراً في كلِّ جمعةٍ على رأس الأسبوع، وفي كلِّ يومٍ، وفي كلِّ لحظةٍ، ولم يحصل الإستشهاد في يوم استشهاد السيِّد الشهيد فقط. وليس لهذا المعنى وجودٌ في صلاة الجمعة داخل إيران بهذه الكثافة وهذا التركيز، لأنها كانت تقام في أجواء طبيعيَّةٍ آمنة.

لكلِّ هذه الأسباب وأسبابٍ أخرى لا يسعنا ذكرها بسبب الإستعجال في كتابة هذا البحث نظر العالم إلى صلاة الجمعة في إيران بصفتها حدثاً عادياً خلافاً لنظرة العالم إلى صلاة الجمعة في العراق، كما أشار إلى ذلك السيِّد الشهيد رضي الله عنه نفسه.

الأثرُ الإصلاحيُّ والتغييريُّ الكبير لصلاة الجمعة في العراق

 

إنَّ كلَّ مشاريع التغيير والإصلاح الإجتماعيِّ تقاس بمدى ما تحقِّق من النتائج على مستوى التطبيق، وليس من الصحيح إطلاقاً الإقتصار على الجانب النظريِّ منها، فلو اقتصرنا على تقييمها من الناحية النظريَّة فحسب، فإنَّ هذا من الممكن أن يجرَّنا إلى الوقوع في فخِّ اليوتوبيا والفنتازيا اللذين كانا سببين رئيسين من أسباب النكسة والإخفاق والفشل بالنسبة للعديد من المشاريع التي استهدفت الإصلاح في التأريخ الإسلاميِّ القديم والحديث على السواء، ومن هنا فإننا نقارب صلاة الجمعة من هذه الجهة لنعرف مدى ما تحقَّق من النتائج التغييريَّة الثوريَّة الكبرى في زمن السيِّد الشهيد إلى الآن، متوخِّين بذلك التركيز على أهمِّ ما يمكن استخلاصه منها، مرجئين التفصيل والإستفاضة فيها إلى مناسبةٍ أخرى قد تتَّسع إلى مهمَّة تأليف كتابٍ مستقلٍّ في هذا المجال.

النتيجة الأولى:

الإرتفاع بالمستوى الثقافيِّ بالنسبة إلى عموم طبقات المجتمع.

 

ليس من نافل القول أن نشير إلى حالة المجتمع الثقافيَّة قبل صلاة الجمعة، إذ كان المجتمع بعيداً كلِّياً تقريباً عن معرفة أبسط الأمور فيما يتعلَّق بثقافة الإسلام وفكره حتى ضمن الدائرة التي تخصُّ معرفة الأحكام الإسلاميَّة البسيطة ومعرفة عقائده الأوليَّة مما هو ضروريٌّ لتحديد الهويَّة العقائديَّة للمرء، ومقارنتها بما حصل من نموٍّ معرفيٍّ وثقافيٍّ وازدهارٍ في عموم المجالات التي تخصُّ توسيع دائرة ثقافة المجتمع، دينياً وسياسياً واجتماعياً.... إلخ.

لقد تولَّد حراكٌ غير طبيعيٍّ داخل طبقات المجتمع الإسلاميِّ العراقيِّ فأوجد نوعاً من الحركيَّة الثقافيَّة والمعرفيَّة التي ربما لم يوجد لها مثيلٌ في عموم التأريخ الإسلاميّ، وليس المهمُّ أن يصبح الناس في مستوى العلماء من هذه الجهة، بل المهمُّ أن توجد رغبةٌ لدى كلِّ شخصٍ في أن يصبح من هؤلاء العلماء يوماً، أو أن يكون ذا نصيبٍ معيَّنٍ من الثقافة والمعرفة والإحاطة بعلوم الإسلام والثقافة الإنسانيَّة على وجه العموم.

ما زلت أتذكَّر إذ كنت بائعاً للكتب في تلك الفترة التي انطلقت بها صلاة الجمعة لأوَّل مرَّةٍ، كيف أنَّ حراكاً ثقافياً غير عاديٍّ وُجد على مستوى طبقات الأمَّة جميعها، فأصبحت أسواق الكتب مكتظَّةً بالناس أكثر ممّا تكتظُّ أسواق المخضَّرات بالناس، ولم يكن اهتمام الناس منصبّاً على شراء الكتب الدينيَّة التقليديَّة فقط، بل إنَّ الإهتمام الأكبر كان مصوَّباً نحو شراء الكتب الفلسفيَّة والكلاميَّة والأدبيَّة والتأريخيَّة والسياسيَّة وغيرها، بل إنَّ قسماً معتدّاً به من المجتمع كان مهتمّاً بشراء مصادر الفلسفة الغربيَّة التي ربَّما لا يفكِّر باقتنائها إلا المؤلِّفون العباقرة الكبار، ولم يكن هذا الحراك الثقافيُّ الكبير ليوجد لولا صلاة الجمعة بالطبع، إذ كان السيِّد الشهيد ((قده)) يحثُّ الناس على الإستزادة من الثقافة والمعرفة بشكلٍ دائمٍ، بالإضافة إلى ما كان يستثير به المجتمع عن طريق إثارة موضوعاتٍ ربَّما كانت ممّا لا يحسن تناوله إلا في الأروقة الخاصَّة للحوزة في نظر بعض أساتذتها، إلا أنَّ السيِّد الشهيد كان يتبسَّط بها للغاية ويقدِّمها في أسلوبٍ سهلٍ للناس بحيث يكون الغالبيَّة العظمى من الناس قادرين على فهم مضامينها بقليلٍ من التأمُّل.

وقد أشار السيِّد الشهيد إلى هذا المعنى بقوله: " إنَّ الذي حصل خلال هذه السنة المباركة هو ما قلته خلال هذه السنة عدَّة مرّاتٍ.. والفضل لله سبحانه وحده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولكن إذا نظرنا إلى الأسباب (لاحظوا) فقد فتحت أفواه جماعةٍ من الخطباء قد يصلون إلى السبعين من خطباء الجمعة في الموعظة، والإرشاد، والترغيب، والترهيب، والتذكير بالأمور الدينيَّة والفقهيَّة بشكلٍ يجب على الآخرين حضورها والإصغاء إليها، وهذا مما لا يحدث في سائر المواعظ، بل قد لا يتيسَّر لكثيرين مجرَّد الحضور، وقد لا يسمعون الكلام، أمّا هنا فالإستماع واجبٌ (ها سبحان الله) وقد لا يستمعون الكلام إمّا عمداً أو غفلةً في أيَّة خطبةٍ، أو قصيدةٍ، أو تعزيةٍ، أو حفلةٍ بأنواعها وغيرها، بخلاف صلاة الجمعة، فمن هذه الناحية هي نظيفةٌ من جميع الجهات. وتكون نتيجة ذلك هو زيادة الموعظة، والتثقيف الدينيّ، والدخول إلى النفوس والقلوب" .

 

النتيجة الثانية:

مواجهةُ الحكم الدكتاتوريِّ والإستكبار العالميّ

من كان يتخيَّل أنَّ مجرَّد أعوادٍ لمنبرٍ بسيطٍ في مسجد الكوفة يقف خلفها إنسانٌ متدرِّعٌ بالكفن ويخطب على الجماهير المجرَّدة من أيِّ سلاحٍ إلا سلاح الإيمان بالله سبحانه يستطيع أن يزلزل عرش الدكتاتور، وأن يقضَّ مضجع أمريكا وإسرائيل برغم جبروتهما العالميِّ الذي أرهب كلَّ دول العالم؟.

هذا من النتائج الإلهيَّة لصلاة الجمعة، ولا يقل أحدٌ أنه كان يتوقَّع أن يكون هذا من نتائج إقامة هذه الفريضة في العراق إلا السيِّد الشهيد وحده، فهو وحده من كان يتوقَّع حصول هذه النتيجة، إذ يقول: " إنَّ جماعةً من الحوزة قالت، ولعلَّها ما زالت تقول (لاحظوا): إنَّ إقامة صلاة الجمعة فتنةٌ، وإنما الفتنة هم الذين فتحوها بإصرارهم على عدم الحضور، ولو حضروا لكان الإنتصار أكثر، واتحاد الحوزة والمذهب أكثر، حتى أنني قلت: إنه بغضِّ النظر عن السلاح، فإننا نستطيع عندئذٍ من الناحية المعنويَّة أن نواجه إسرائيل نفسها.

ونقول لها كلا ثمَّ كلا، ارجعي من حيث أتيت"

وبالرغم من أنَّ هناك رأياً في الحوزة كان شائعاً مع الأسف يقول إنَّ صلاة الجمعة بابٌ من أبواب الفتنة وإثارة الشحناء في المجتمع، فإنَّ السيِّد الشهيد برهن من خلال العمل الميدانيِّ نفسه أنَّ صلاة الجمعة لن تكون إلا باباً من أبواب التآلف في المجتمع وشدِّ أواصره بعضه إلى بعض، فإذا حدثت الفتنة لا سمح الله فليس من المنطقيِّ اعتبار صلاة الجمعة هي السبب في ذلك، بل السبب فيه هو من يشذُّ عن الناس فلا يأتي للصلاة معهم، ويثير الشكوك في نواياهم وفي صحَّة أعمالهم العباديَّة، ويشكِّك بالقيمة الدينيَّة الكبيرة لهذه الفريضة القرآنيَّة التي عطَّلها الفقهاء من دون أن يكون لديهم مستندٌ شرعيٌّ من القرآن أو السنَّة أو الاجماع أو العقل يساعدهم على اتخاذ هذا الموقف منها، ولهذا يقول السيِّد الشهيد ((قده)): "هناك نصٌّ واضحٌ في أنَّ صلاة الجمعة ليست فتنةً في مصدرٍ رئيسيٍّ من مصادرهم، وهو أحد أجزاء كتاب المستند للشيخ مرتضى البروجردي (قدَّس الله روحه)، وهو من تقريرات آية الله الخوئيِّ (قدَّس الله روحه)، أنقل لكم بعض عباراته التي تخصُّ هذا الأمر باختصارٍ. قال في الجزء الأوَّل صفحة (32) بلسان من ينفي وجوب صلاة الجمعة ـ يورد على ذلك عدَّة أدلَّةٍ بعنوان نسف صلاة الجمعة ويردُّها ويناقشها ـ يقول:

 إنَّ الخصم يقول ــ لو صحَّ التعبير ــ إنَّ إيجاب مثل هذا الحكم في زمن الغيبة مثارٌ للفتنة، موجبٌ للهَرْج والمرْج (بسكون الراء)، أو للهرَج والمرَج (بفتح الراء)، فلا يظنُّ بالشارع الحكيم تشريعه... إلى أن يقول: بل موجبٌ لاختلال النظام؛ ولتشاحن النفوس في طلب الرئاسة، والتصدِّي لمقام الإمامة. فربما يؤدي التشاجر والنزاع بين المسلمين إلى انتصار أهل كلِّ محلَّةٍ لإمامها، وقد  ينجرُّ هذا إلى القتل... ويجيب على هذا الوجه بعدَّة إيراداتٍ:

منها: إنَّ هذا التقرير على تقدير تسليمه فإنما يجدي لنفي العينيَّة، يعني القول بالوجوب العينيِّ لصلاة الجمعة، لا أصل المشروعيَّة ولو تخييراً ـ يعني بينها وبين صلاة الظهر ـ فإنَّ الوجوب التخييريَّ لا إلزام فيه، فلا يتضمَّن الفتنة لإمكان التخلُّص منها لوجود المندوحة.

ومنها: أنَّ الفتنة ممنوعةٌ من أصلها ـ وهذا كلام المستند أيضاً ـ حتى على القول بالوجوب العينيّ، فإنَّ من قُدِّم للإمامة إمّا أن يرى غيره أهلاً لاستجماعه للشرائط، أو لا، فعلى الأوَّل يجب عليه الإئتمام به، ولا حزازة فيه، وإن كان دونه في المقام فقد حثَّ الشارع على التواضع، ومجاهدة النفس، وحذَّر من الأنانيَّة والكبر، وقد شاهدنا ـ هو يقول ـ وقد شاهدنا بعض زهاد العصر يأتمُّ خلفه جمعٌ غفيرٌ من الجهابذة والأساطين، وهم أفقه منه وأعظم شأناً بمراتب غير قليلة ... إلى آخر ما قال.

والمهمُّ (لاحظوا) والمهمُّ إذا كانت مصادرهم الرئيسيَّة تقول بعدم تحقُّق الفتنة، فماذا ولماذا هم يقولون بها؟

النتيجة الرابعة:

 بثُّ روح الشجاعة والإقدام على قول الحقِّ في صفوف المجتمع.

 

 تابع القسم الثالث من الدراسة

 

في المثقف اليوم