قضايا وآراء

التشابه بين "هور الجبايش" وبحيرة "جنيف" / يحيى السماوي

مثلما ساهمت في اختصار المسافات، فإذا بالعالم الذي وُصِف قبل سنوات قليلة بأنه " قرية كونية " قد أضحى بفضل هذه الشبكة " شاشة حاسوب " اجتمع فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب باختزال غير مسبوق للجغرافيا والزمن ... لكنها في الوقت ذاته أسهمت في انتشار الغثّ من الرؤى والأفكار ـ وحتى الإرهاب / ومنظمة القاعدة مثال على الإستخدام  الكريه والسلبي للشبكة العنكبوتية ـ وفتحت المجال أمام  كلّ مَنْ هبّ ودبّ لينشر ما يشاء حتى لو كان يكتب بعود ثقاب ليس فيه من المداد سوى " سخام الإحتراق " فكان لمثل هذه الكتابات أثرها في إشاعة وانتشار ظاهرةٍ  أجيز لنفسي تسميتها بـ " الأمية الثقافية " التي ملأت جانبا من فضاء المعرفة بدخان ٍ توهّمه مطلقوه عبيرا  نتيجة عدم حسن استخدام الشبكة العنكبوتية ..

 

ما أريد تناوله عبر هذه التوطئة هو :  ظاهرة  الآراء النقدية المَجانية والمُجانبة للصواب التي يُطلِقها أصحابها على عواهنها  دون التأكد من صوابها، وقد يتوهّمها بعض القراء " ممن لا يمتلكون بالموضوع الإلمام الكافي بما تتناوله تلك التعليقات " فيأخذون بها كمسلمات  دون أن يدركوا أنهم  قد غرسوا في حدائق خزينهم المعرفي بذورا لا تستنبت غير الشوك والدّغل البرّي الضار في حين كانوا يظنون ما غرسوه سينتج الزهور ـ وهذا ما أعنيه بـ " الأمية الثقافية " ..

بين يدي الان عشرات التعليقات التي  تكشف عن  جهل أصحابها ، وجميعها ما  كان بمقدور مطلقيها  نشرها  في الصحافة الورقية (أللهمّ إلآ إذا كان المشرفون على تلك المنابر الإعلامية والأدبية الورقية لا يقلون ذكاء عن  صاحب جحا  ـ وهذا مستحيل) . واللافت للإنتباه أن الكثير من هذه التعليقات تُنشر موقعة بأسماء مستعارة لأسباب  منها  تعمّد مطلقيها استغفال القرّاء، وعدم تأكد أصحابها من صوابها، ومنها الإحتقان الفكري أو السياسي الذي يحمل البعض على ارتكاب خطيئة تشويه الحقائق، مضافا إلى ذلك كله أسباب أخرى قد تحمل مبررات إخفاء الإسم الصريح واستخدام اسم مستعار خشية أمر ٍ ما ـ  وهذا أمر مقبول طالما يملك مبرراته كنوع من الإحتراز في زمن معتم .

سأتناول في مقالي هذه إنموذجا من تلك التعليقات المجانية والشائهة التي من شأنها إفساد الذائقة الأدبية ونشر الأمية الثقافية ... وقبل ذلك  سأوطّئ

بهذه التوطئة  المعروفة للجميع :

 

عدد بحور الشعر العربي هي : خمسة عشر بحرا اكتشفها ووضع أصولها الخليل بن أحمد الفراهيدي وهي: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، المتقارب، ثم " تدارك " نقصها الأخفش حين اكتشف بحرا آخر ووضع أصوله لذا سُمي بحر المتدارك  لتصبح ستة عشر بحرا .

 

أما الحروف العربية فقد اختلف علماء اللغة حول عدد ها .. فالذين لم يعتبروا الهمزة حرفا،  اعتبروها ثمانية وعشرين حرفا .. والذين اعتبروا الهمزة حرفا قالوا بأن عددها تسعة وعشرون حرفا .. وفريق ثالث قال إن عددها ثلاثون حرفا ـ وحجتهم أن للهمزة  أكثر من شكل فهي تأتي على الياء مرة وعلى الواو مرة ومنفردة مرة ـ لكن الرأي الأعمّ والسائد هو أن عددها تسعة وعشرون حرفا على رأي  الإمام الطيبي والإمام مكي بن أبي طالب بإضافته الهمزة كحرف قائم بذاته .

 

عدد الشعراء ـ الحقيقيين وغير الحقيقيين ـ  في الأمة العربية قد يفوق عدد المواطنين في دولة البحرين ودولة جزر القمر ودولة بوركينو فاسو معا ... وبالتالي فإن مَنْ يكتبون الشعر البيتي أو التفعيلي ليس أمامهم من طريق غير أن يكتبوا وفق هذه البحور، وليست لهم أبجدية أخرى غير العربية، لذا  فلابدّ  أن تتشابه قصائدهم جميعا ـ بدون استثناء ـ على صعيد البحر والقافية .. لكنّ هذا التشابه في البحر والقافية لا يعنى على الإطلاق تأثرا كما يزعم بعض " المتثاقفين وأدعياء المعرفة " من كتَبَة التعليقات والآراء المجانية .

 

إن قصيدة زكي قنصل التي مطلعها :

على وجههِ عرسٌ وفي القلب مأتمُ

له الـلّه كم يـشـقى ... وكم يـتألمُ

تتشابه  ـ على صعيد البحر والقافية ـ مع قصيدة جرير التي مطلعها :

حريبٌ أصاب المال من بعد ثروة ٍ

لديه فأضحى وهو أسوانُ معدمُ

 

وقصيدة الجواهري العظيم التي مطلعها :

باق ٍ وأعمارُ الطغاة ِ قصارُ

من سفر مجدك عاطرٌ موّارُ

 

تتماثل في البحر والقافية مع قصيدة  جميل بن معمر العامري التي يقول فيها :

ما منْ قرينة ِ آلف ٍ لقرينها

إلآ لحبل قرينها اقصارُ

 

وقصيدة المغيرة بن حبناء التميمي  التي منها:

كلانا غنيٌّ عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدُّ تفانيا

تتماثل في البحر والقافية والغرض مع قول مالك بن الريب :

تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد

سوى السيف والرمح اليماني باكيا

 

وسيكون الجواهري في قصيدته التي مطلعها :

يوم من العمر في واديك معدودُ

مستوحشات به أيامك السودُ

متأثرا بقصيدة المتنبي التي مطلعها :

عيد بأية حال عدت ياعيد

بما مضى أم بأمر فيك تجديد

 

 

هذه نماذج قليلة عن حتمية تماثل البحر والروي لدى آلاف الشعراء .. فهل يعني هذا التماثل تأثرا وتناصّا ً ؟ إذا كان الأمر كذلك، فلا توجد  قصيدة واحدة على الإطلاق إلآ وتكون متناصّة مع غيرها ومتأثرة بها ـ  أللهمّ إلآ أن يكتب الشاعر باللغة العربية ولكن يختار قافية من الكتابة المسمارية ! أو أن يبتكر كل شاعر أبجدية جديدة وبحورا جديدة ـ ووجود مثل هذا الشاعر  أكثر استحالة من وجود طائر العنقاء ..

 

أعرض للأحبة القراء إنموذجا من هكذا  آراء نقدية " يتذاكى أصحابها " بينما  هي تكشف عن كونهم ليسوا أكثر من أدعياء معرفة :

 

نشر أحد هؤلاء، وباسم مستعار هو " متابع " التالي :

 

الشاعر يحيى السماوي :

((نعم المقطع الأوّل متأثّر بالشاعر إيليا أبو ماضي . أيضاً بالأخطل الصغير :

ذُهِلَ البهاءُ ... فقال : ما أبهاكِ !

وَتَسمَّرَتْ عينايَ فوقَ لُماكِ

خرساءُ تجهلُ ما تقولُ لِذُهْلِها

شفتي .. ولكنَّ العيونَ حواكي

الأخطل:

ـ يا جارة الوادي طربت وعادني

ما يشبه الاحلام من ذكراك

ـ مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى

والذكريات صدى السنين الحاكي))

 

لاحظوا أن السيد " متابع " رمى  رأيه المجاني دون رويّة ـ بل ودون حتى أن يكون متأكدا مما أدلى به !!

فالسيد " متابع " وجد تأثري   في قصيدتي " الحسيّة جدا والمتضمنة إيحاءات جنسية  " التي أتناول فيها حلما حلمت به ، بقصيدة " الطلاسم " الفلسفية لإيليا أبي ماضي والتي يتناول فيها قلقه الوجودي ومسألة الحياة الأخرى بعد الموت ! وحسم الأمر باليقين التام بالتناص والتأثر من خلال كلمة " نعم " ..   أما دليله فهو على ما يبدو قولي :

 

(أنا لا أعرفني أين أقيمُ الانَ؟

لا عنوانَ ليْ

كيف اهتديتْ

 

فتعرّفتَ إلى جفني

وسفح ٍ

يختفي في حضنه الأخصر ِ بيتْ)

 

لو  تفحّصنا المقطع أعلاه لوجدنا بكل وضوح أنني أخاطب شخصا ماثلا أمامي وليس ثمة قلق وجودي وتساؤل فلسفي .. القصيدة واضحة وضوح سنام البعير ولا تتطلب تأويلا : فتاة  تسكن في قارة بعيدة ... فوجئت بها ـ في الحلم طبعا ـ  تجتاز كل هذه المدن والأوطان والبحار والمحيطات والصحارى التي تفصل بين استراليا والعراق،  وتصل إلى بيتي الغافي على  سفح جبل  قريبا من حافة غابة، ثم تتسلل إلى غرفتي وسريري وتدخل أحداقي ... قصيدة تقرب من السذاجة ... تفسّر نفسها دون تأويل :

( أيها الناسجُ من عشب الفراتين وشاحا ..

جيدُهُ يُسْكِرُ عِقدَهْ :

 

مَنْ ترى أسرى بك الليلة َ ؟

مَنْ أعطاك عنوانَ غريب ٍ

هتكَ العشق ُ أحاجيه ِ ورُشدَه ْ ؟

 

هل في هذه القصيدة تأثر بقصيدة "الطلاسم " لإيليا أبي ماضي ؟ قصيدة أبي ماضي ـ على صعيد المنجز الشعري ـ بمثابة يواقيت، وقصيدتي على الصعيد نفسه بمثابة حصى ... فكيف اكتشف صاحبنا أن البطيخ يماثل الباذنجان ؟ أقصد كيف اكتشف هذا التماثل والتأثر المزعوم بين الياقوت والحصى ؟  الأخ د . عدنان الظاهر لم يقل بوجود تأثر ... الذي قاله إن قراءة قصيدتي تستدعي تذكر قصيدة أبي ماضي " لست أدري " وهو قول لا يقطع بالتأثر ـ رغم كوني، وقراء عديدين بينهم أساتذة أكاديميون لا يرون ما رآه الأخ د . عدنان  لكنه لم يقطع بالتأثر والتناص .. أنا مثلا حين أتناول السمك الأسترالي فإنني أتذكر طرشي النجف ... وحيا أسمع أغنية " فات الميعاد " لأم كلثوم أتذكر شبابي الذي سفحته غريبا .. التذكر شيء والتناصّ شيء آخر ... فكيف زعم السيد " متابع بوجود تأثر تناصّي  بين قصيدة حسية رومانسية سطحية وأخرى تأملية فلسفية عميقة ؟

الأنكى من ذلك أنه " اكتشف " وجود تناص وتأثر في قصيدتي " وجدان " بقصيدة  الأخطل الصغير " يا جارة الوادي " !! لاحظوا الرجل لا يعرف أن قصيدة ياجاري الوادي التي غدت أشهر من نار على علم  بعد  تلحينها من قبل محمد عبد الوهاب وغنائها بصوت فيروز هي ليست للأخطل الصغير !! فالرجل لا يعرف حتى شاعر القصيدة ... ألا يعني ذلك أنه لا يعرف من النقد الأدبي أكثر مما يعرفه " عليوي القهوجي " عن النظرية النسبية لآينشتاين ؟

قصيدة  " وجدان "  تتحدث عن " طالبة " جديدة فوجئت برؤيتها في صفي التدريسي فأعجبتني وفغرت فاه الدهشة، ثم  أضحت زوجتي وقاسمتني حتى الفصل الوظيفي وخيمة معسكر اللجوء والمنافي والمغتربات فالقصيدة تتضمن شكري لله الذي عطف عليّ فرزقني زوجة طهورا مخلصة، ومنها مثلا :

الحمدُ للرحمن زان بلطفه

قلبي فكان شِغافه مأواك ِ

 

لولاك ما صبَرَتْ على مأساتها

روحي .. ولا كان الهوى لولاكِ

 

خبَرَ الهوى قلبي فكنت ِ صديقتي

ورفيقتي وحبيبتي وملاكي

 

علّمتِني صبرَ الرمال ِ على اللظى

أيُلامُ لو هتف الفؤادُ فِداك ِ ؟

 

وجدانُ ماعاد  النخيلُ تميمة ً

لفتى ً ولا عاد العراق ُ حِماك ِ

 

بتنا ثكالى الحلم ِ بين مُخاتل ٍ

لصّ ٍ وغول ٍ  فاسق ٍ أفّاك ِ

 

دائي عصيٌّ ـ كالعراق ـ شفاؤهُ

فأنا الضحوك المستباحُ الباكي

 

حاشا غصوني أن تخون جذورها

ويخون نخلكِ ماءه حاشاك ِ

 

القصيدة تتحدث عن زوجة مخلصة وعن غربة وعن لصوص قوت الشعب ووطن محتلّ .. فمن أين جاء " شعيمط " بنظرية طبخ الحصى ليغدو هريسة ؟   قصيدة " ياجارة الوادي " تتحدث عن مدينة " زحلة " حين زارها أحمد شوقي عام 1928 ويُقال إن الموسيقار محمد عبد الوهاب كان معه .. مطلع القصيدة هو :

شيعتُ أحلامي بقلب باك ِ    ولمحت من طُرُق المِلاح شِباكي

 

وقد أسمع عبد الوهاب اللحن لشوقي في القاهرة فأعجب به شوقي .. وغناها عبد الوهاب بصوته عام 1928 وبعد  سنين كثيرة التقى عاصي الرحباني عبد الوهاب في بيروت فاستأذنه لتغنيها فيروز فانتشرت أكثر .. القصيدة تتحدث عن جمال طبيعة مدينة زحلة فأين تناص  قصيدتي وتأثرها بها ؟ والقصيدة مشهورة عند اللغوين ليس فقط لأنها  من شعر شوقي وألحان عبد الوهاب وغناء فيروز، إنما أيضل لوجود خطأ وقع فيه عبد الوهاب حين غناها وكررت فيروز نفس الخطأ ... هذا الخطأ هو : نطق اللام في كلمة الرياض بينما حرف " الراء " شمسي لا يُجيز نطق اللام في حال تعريف الكلمة .. البيت هو :

ولقد مررتُ على الرياضِ بربوة  ٍ    غناءَ كنت حيالها ألقاكِ

القصيدة تتحدث عن حدائق وشجر وبنت حلوة سمراء وذكريات بقيت عالقة في ذهنه فقال عنها :

ولكم على الذكرى بقلبي عبرةٌ      والذكريات صدى السنين الحاكي

لا أمس من عمر الزمان ولا غدٌ   بنواكِ ..آه من النوى رحماكِ

 

فأين التناص والتأثر بقصيدة ياجارة الوادي في قولي الذي استشهد به  " متابع " :

ذُهِلَ البهاءُ ... فقال : ما أبهاكِ !

وَتَسمَّرَتْ عينايَ فوقَ لُماكِ

 

البيت واضح :  شاب رأى شابة  أعجبته  (وكان عيب يكوللها بالصف أمام الطلاب :  الله  يا طالبتي الحبابة ..إنت عجبتيني ... الشاب كان يستحي لكن عيونه كانت وكيحة  ظلت تباوع عليها ... شنو علاقتها بجارة الوادي وبالذكريات القديمة ؟ حمادة وينْ طنبورة وينْ !!)  المخاطب  في قصيدة  شوقي هو مدينة زحلة ... المخاطب  في قصيدتي هو السيدة وجدان بنت سلمان آل فليح (يعني مرتي) ..  أحمد شوقي يتحدث عن ذكريات، وحتى الفتاة السمراء المذكورة في القصيدة هي استعارة  ـ أما وجدان بنت سلمان فحقيقة وهي أم أطفالي ...)

 

كان العم " حلبوص "  يعمل  بائع سمك في السماوة .. حدث يوما أن سمع في مقهى " محيي حاج محمد " حديث المعلم العائد توّا ً من  السفر " حسن الحاج علي " وهو يصف جمال بحيرة جنيف في سويسرها  التي زارها في العطلة الربيعية  ... بعد أيام ذهب العم حلبوص إلى هور الجبايش ليشتري السمك ... فإذا به يتأوه ويقول لصاحبه لهمود بن راضي : هور الجبايش يذكّرني ببحيرة جنيف ... لهمود أجابه : الله يشافيك، لا تكحّ عليّ شربتْ .. هوّ إنت   بحيرة الحبانية ببغداد  تبعد  أربع ساعات عن السماوة ما شايفها

شنو علاقة " هور الجبايش " ببحيرة " جنيف " يا حلبوص ؟

 

صحيح أن قصيدة وجدان " من بحر الكامل وقافيتها الكاف  ...  وقصيدة ياجارة الوادي من بحر الكامل وقافيتها الكاف أيضا ... لكن الصحيح أنّ قصيدة " علي سعد " للجواهري ومطلعها :

 

قم والتمسْ أثر الضريح الزاكي

وسل الكنانة كيف مات فتاكِ

 

تاريخ مصر على يديك يعيده

من جانبيك صدى السنين الحاكي

 

على نفس البحر والقافية أيضا، فلماذا لم يعتبر العم  حلبوص ـ عفوا .. قصدي " متابع " أن شوقي كتب قصيدته تأثرا بالجواهري ؟ هي أيضا على نفس البحر والقافية  ... أليس الحريّ  بـ " المتابع " أن يكون له من اسمه ولو  الحدّ الأدنى من النصيب ؟ هو " متابع " ماذا ؟ متابع ثقافة ؟ أم متابع أخبار  سوق الخضروات ؟

أرجو من الأحبة القراء ملاحظة قول الجواهري " صدى السنين الحاكي ـ  وقد استخدم شوقي الجملة الشعرية نفسها وحرفيا، وهذه القصيدة كتبها الجواهري عام 1927 أي قبل أن يكتب أحمد شوقي قصيدته بسنة كاملة  ـ وقبل أن تغنيها فيروز بأكثر من  ربع قرن !    والقصيدتان على نفس البحر والقافية، فهل يجوز القول إن شوقي كتب قصيدته تأثرا بالجواهري ؟ إذا قال أحد نعم، فذلك يعني أن العم حلبوص مصيب في رأيه بوجود تشابه بين هور الجبايش وبحيرة جنيف !!  (وددت أن أذكر نماذج أخرى لعشرات القصائد  ـ مع نماذج أخرى لتعليقات المتذاكين والأدعياء أشباه العم حلبوص بائع السماك ـ ولكن المجال لا يتسع، ومنها مثلا إحدى الناقدات قالت : كيف تقول في قصيدتك لماذا تأخرت دهرا : ( وأمي إذا جعتُ تشوي لي الماء) ؟ الماء لا ينشوي لأن الشواءُ هو فقط للحم والسمك وأنا شاعرة فإذا شوينا الماء بالنار فإن النارُ  تنطفئ .. قلت لها  ياسيدتي أنتِ كما يبدو لي تمتلكين خبرة جيدة بالطبخ فكيف تجرّأت ِعلى توقيع  رأيك النقدي باسم " شاعرة " وأنت لا تعرفين معنى الإستعارة والمجاز ولا تعرفين أنّ اسم إنّ يكون منصوبا حتى لو كان لفظ الجلالة ؟) ..

 

السيد " متابع "  رأى أنني في  قصيدتي  متأثر بقصيدة شوقي لأنني ذكرت في البيت " حواكي " التي جاءت مقاربة  لفظا ً لكلمة " الحاكي " في بيت شوقي، وقد فاته أن بيتي :

 

خرساء تجهل ما تقول لذهلها

شفتي ولكن العيون حواكي

 

يختلف في كل شيء  ـ عدا البحر والقافية ـ عن بيت شوقي :

 

مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى

والذكريات صدى السنين الحاكي

 

بينما عبقريته لم تجد في " صدى السنين الحاكي " التي قالها  أحمد شوقي تناصّا ً مع نفس الجملة حرفيا في قصيدة الجواهري !

أحمد الله ـ الذي لا يُحمد على مكروه سواه ـ أن " متابع "  جعلني متأثرا بأحمد شوقي (وليس بالأخطل الصغير كما توهّم) .. أقول أحمد الله أنه جعلني متأثرا بأحمد شوقي وليس بـ "  أبو المكارم " الدلال في سوق الهرج في حيّ الدقي بالقاهرة  والذي كان ينادي على " مسجل قديم " : أرّب أرّبْ .. ده الحاكي بتسعين جنيه ... إللي بيشتريه مش ح يخسر .. أرّبْ أرّبْ! الدلال أبو المكارم أيضا كان قد نطق كلمة الحاكي وأنا سمعتها بأذني ...(يجوز تأثرت به) ..

وددت لو أن أيّ معلق  يستشهد  بما يُعقل ...

 

عام 1963  خلال مجازر ماكان يُسمى بـ " الحرس القومي " حدثت جريمة قتل الثريّ " الحاج وزيّر"  في بيته بمنطقة القشلة في السماوة وسرقة  أمواله ... كان شهود عيان قد رأوا المفوض " حاتم " ومعه بعض أفراد الحرس القومي خارجين من دار المغدور منتصف ليل الجريمة ... وكان للحاج وزير ابن مناضل تقدمي يعمل معلما ويكره الحرس القومي فاتهموه بقتل أبيه .. اعتقلوه وأذاقوه من التعذيب ما أدى إلى إصابته بخلل عقلي ... ومن ملامح خلله العقلي أنه كان يضع نحو عشرة أقلام حبر في جيب سترته الأمامي أعلى الصدر وتحدث بإسهاب ... حين  يُجالسنا في المقهى فإنه لا يكفّ عن الثرثرة والحديث عن نظرية فيثاغورس في صنع دبس التمر، ويقسم أن أول عملية زراعة قلب تمت في مدينة السماوة أجراها الفلاح " سعود الظالمي " لنخلة مريضة مصابة بالتدرن ... وحين يقول له مَنْ لا يعرفه : هذا كلامك غير معقول، ينتفض قائلا وهو يشير إلى رؤوس أقلام الحبر الظاهرة من جيب سترته : آني مثقف وهذه أقلام الباندان أكبر دليل .. محافظ بغداد ما يكتب بعشر أقلام  وآني مرات أكتب بسبعطعش قلم ..

 

بعض  المتثاقفين وأدعياء المعرفة ممن يطلقون آراءهم المجانبة للصواب تجعلني أتذكر العم حلبوص وصاحب أقلام الباندان ..

قبل بضعة شهور كنت أتحدث عن شاعرين عراقيين كبيرين هما محمد البغدادي وحسين القاصد (المجددين في بنية القصيدة الفراهيدية)  بين جمع من أصدقاءٍ ومحبي أدب وشعراء في جلسة في كازينو السماوة المنفتحة على ضفة النهر ... قرأت بعض قصائدهما . ومن بين ما قرأت قصيدتان من ديوان " تفاحة في يدي الثالثة  " للقاصد  وثلاث من ديوان البغدادي .. أحد جلساء الكازينو ترك مكان جلوسه البعيد وانضمّ إلينا، فإذا به يطلب الحديث ... وتأدّبا منا أصخنا له السمع، فقال :  في الحقيقة والواقع إن أمريكا هي السبب في التشوّهات الخلقية الناتجة عن قنابلها السامة (طبعا آني قلت مع نفسي : هذا واضح عليه يفتهم) .. فواصل حديثه :  وهذا الشاعر اللي عنده ثلاثة أيدي من ضحاياها ... لكن استاذ  شنو السبب اللي جعل الشاعر يمسك التفاحة بيدة الثالثة  بالتحديد ؟

أتذكر أن صديقي الشاعر المبدع قاسم والي  أجابه :  لو ما طارح هذا السؤال، كان تصوّرناك تفتهم ... !؟؟

 

شكرا للأخ " متابع " وشكرا للقراء مع اعتذاري للسيد " أبو المكارم " فقد ذكرته لا بدافع السخرية وربي إنما : لأنني فعلا سمعته يطلق على جهاز التسجيل كلمة الحاكي .

 

***

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1512 الجمعة 10/09/2010)

 

في المثقف اليوم