قضايا وآراء

المشتركات الفنية بين فن العمارة وفن الرسم / حكمت مهدي جبار

فالمهم هو أن الصورة بدأت قبل الحرف . وبذلك يمكن القول ان الأنسان رسم قبل ان يكتب .بل أن خطابه الأنساني جاء من خلال الصورة التي رسمها على معماره (كهفه) لتكون نقطة انطلاقه في تأسيس العلاقة مع عناصر الطبيعة الأخرى لتبدأ الحياة.

وبنفس الوقت الذي كان فيه الأنسان يسعى لأيجاد مكان آخر أكثر أمانا من الكهف  يحتمي به من غضبة الطبيعة وشراسة الحيوان لم يزل يستخدم العظام او اغصان الأشجار أو الحجر المدبب ليرسم على الجدران الداخلية لكهفه (بيته الأول) رسوما ت لأشكال حيوانية وآدمية وأشياء اخرى. وفي الحالتين كان يؤدي عمل (المعمار و الرسام ). يخطط لبناء بيته الجديد بنفس الأداة التي يخطط فيها لرسم الحيوانات والأشكال الآدمية..

وبمرور السنين وتطور الوعي البشر ي وأتساع رؤى الأنسان تطورت معه تلك الأفكار لتصبح بعد ذلك (فنونا تشكيلية )جمعت فن الرسم وفن الفخاريات والأدوات المنزلية ووسائل العمل وفن النحت وفن البناء.

وصار الحديث عن (فن الرسم )لاينسلخ عن الحديث عن فن العمارة بأعتبارهما يؤسسان (لفن تشكيلي ) لازم الأنسان   (1)( منذ بداية وعيه متأملا راغبا رافضا , أي منذ تفكيره خارج نطاق المستلم الحسي هكذا كان التأمل في الكهف رغبة ممزوجة برفض رغبة في اصطياد الماموث والغزال ورفض الاخطاء وما يمكن ان يلحق بالأنسان نتيجة افعاله . هكذا تطورت الرغبات وتراكبت المرفوضات وأستمر الحال الى اعلى مستويات التأمل ,فكان وما زال للخيال والمخيلة دورا مهما في بنية التحقيق لصورة الأشكال المشكلة في مادة ما.

ولقد تطور الفن التشكيلي عبر العصور بتطور الوعي وتنامي المعرفة يحاور,يحلل,يتأمل,يستقصي,يستنتج,يستقريء,لغته الأشكال بأنساق رتبت لتشكل بنى يمكن ان يتفق عليها بعقود الا ان هذه العقود مختلفة في الكم المنتمي لها فبعضها يشكل نظاما جمعيا كبيرا وبعضها الآخر صغير متناه قد ينتمي الى المستقبل .

ان فن الرسم عندما ينفذ على السطح التصويري وينتج لنا لوحة تشكيلية انما يقوم على علاقات جغرافية انشائية تركيبية المنحى لذلك جاءت لغة الخطوط والألوان والتكوينات لغة فاعلة في تلك الجغرافية الانشائية التركيبية مثلما هو فن العمارة الذي (يتخذ من المواد الأنشائية والتركيبية ركيزة للبناء الى جانب استخدام الخيال كوسيلة للأنتاج وهذا هو عامل مشترك فني تشكيلي ما بين فن الرسم وفن العمارة , غير ان هناك فارق بسيط هو ان العمارة عمل انتاجي ضمن (محيط بيئي) يمارس فيه الانسان نشاطاته الحياتية والروحية ضمن جدران وسقوف ونوافذ وأبواب.

يلتقي فن الرسم مع العمارة تحت عنوان الفن التشكيلي بأعتبارهما عملية واحدة وهي عملية (بناء وتركيب )الأشكال , فالرسم ينفذ عمله على مساحة ببعدين طول وعرض , والعمارة تنفذ ايضا على مساحة ولكنها بثلاثة ابعاد طول وعرض وعمق(ارتفاع) فضلا عن الأشكال والحجوم . والعملان مستقيان من الطبيعة او من الوجود المادي وبعضها الآخر مفترض ومصنع من الأنسان .اذن التشكيل كفن يعمل على تركيب الاشكال وتحقيق بناء شكلي مؤسس من الأشكال ذاتها (التكوين) وعليه فالتكوين في التشل و العمليات التركيبية للأشكال الجزئية منفردة أو متراكمة , وهذه العمليات قصدية  انتقائية تتصاعد الى اعلى مراحل الاختبار لتكون نظما تركيبية لعلاقات تؤسس نسيجا يتحقق في الوعي يسمى بذلك الأسم(التكوين) فهو سواء كان رسما او عمارة فهو شكل من اشكال التنظيم القصدي لأشكال رتبت كي تكون هكذا.

ومثلما فن الرسم شكلا من اشكال الفنون التشكيلية فأن العمارة ايضا كذلك بل وذات صلة قوية بها تشترك معها في كثير من العناصر المكونة لها . كالخيال والحس المبدع وأضفاء الجمال المبهج في التكوينات لذلك فأن الرسم من اقرب الفنون وأوثقها صلة بفن العمارة فقط أن فن العمارة يتميز عن فن الرسم كونه فنا وظيفيا functional  . وأن معالجتها الفنية تتعلق بأربعة ابعاد . غير ان محددات التصميم فيها اكثر وضوحا من الرسم نظرا لأرتباطها بأمور أخرى ادارية كأصحاب العمل والمبالغ المخصصة والغاية المستهدفة من المشروع .أي أن هناك التزامات وحدود معينة ,بينما تكون حرية الرسام في الأنشاء والتشكيل مطلقة.

وأذا كانت (اللوحة الفنية التشكيلية) تشكيل اجتماعي  كوسيلة اشباع للأرتواء الروحي والنفسي وحتى الفكري فأن (العمارة تشكيل وظيفي) الى جانب كونها (تشكيل اجتماعي) يؤدي اغراضا انسانية ومتطلبات حياتية بوسائل مادية وبأرتباط وثيق بحياة المجتمع وزمانه ,لذا فأنها (العمارة) تخضع للمؤثرات الحضارية والزمانية والاجتماعية  والأقتصادية اضافة الى خضوعها لعوامل طبيعية ومناخية . فالمباني التي هي نتاجا (فنيا تشكيليا معماريا) تقي من تقلبات الجو وتؤمن له المناخ الملائم لأستمرارية حياته وفعاليته فيها..

ان من اهم الأمور المساعدة لأمتهان الشخص( لفن العمارة) هو قابليته في ممارسة (فن الرسم) حيث انه يعينه في تصوير تصاميم وتطوير وعرض وتعديل العمارة بشكل افضل بما يضفي عليها مسحة جمالية فنية تسر الناظرين . لذا فأن الدراسات المعمارية تبدي أهتماماتها بتعليم طلابها (فن الرسم) كما ان بعض الجامعات تختبر استعداد الطلاب المتقدمين لدراسة العمارة فيها عن طريق التعرف على اهتماماتهم وممارساتهم الفنية.

اننا عندما نذكر(فن العمارة architect ) فأننا لابد من أن نذكر عباقرة ذلك الفن , والذين كانوا اغلبهم رسامون ونحاتون.فعند ذكر معبد (البارثينون) يمثل في الذهن الفنان اليوناني الكبير (أكتينوس actenus)  وعندما نذكر كنيسة (سانت بيرس) نتذكر الفنان العظيم (مايكل انجيلو mchel angelo ) وعندما نذكر (الكوربوزيه) نذكر الفنان الشهير (رونشام rounsham)وعند ذكر متحف (كوكنهام) نذكر (فرانك لويد frank lwed ) وهكذا.. تلك الشواهد المعمارية الرائعة ظهرت فيها الصور الفنية التشكيلية / المعمارية المعبرة عن انتاج مذهل في (الفن التشكيلي المعماري) من خلال تداخل الأشكال البنائية مثلما تتداخل الخطوط والأشكال وألألوان .

فالمنجزين (المعماري والتشكيلي) يكونان مشهد فني الى جانب احتواءهما على مضامين وغايات مادية نفعية بالنسبة للعمارة ونفسية روحية فكرية بالنسبة (للرسم) . وكل ذلك انما هو تعبير عن ملامح الحياة الأجتماعية ومدى تطورها المادي والروحي بشكل عام.

ان (التكوين المعماري) يثير في الأنسان انطباعات وأفكار معينة كالبهجة والهدوء والأنبهار فالناظر الى المساجد والمنائر وقباب الأئمة يشعر بالهيبة والجلال امام ذلك الأبداع الباهر, فالمرء المتعبد والمعتقد بالأئمة الصالحين تراه يركع خاشعا امام بهاء الجمال الرائع للقباب والمنائرالى الحد الذي يذوب فيه بالوجد والهيام بحضرة تلك الأمكنة التي يقدسها ويبجلها.وهو يتجاوز مفهوم الأبداع الفني المعماري ولايعتبره ذو قيمة فنية ولا يعتبر ذلك الابداع ولا الفنان الذي ابدعه هما اللذان صنعا ذلك الجمال الساحر انما الولي الصالح هو الذي نفخ روح الجمال والروعة على الأمكنة والأشكال. 

وذلك التكوين المعماري يستحيل ايجاده وأنجازه بتلك الجمالية الساحرة دون مشاركة الخيال المبدع الذي هو من صفات الرسام والنحات عامة كما يجب توفرها عند المعمار الذي يخلق انتاجا فنيا صادقا حياتيا معتمدا على معرفته بالحياة ودراسته لمنطقها الداخلي وقوانينها . فأذا لم تلب العمارة حاجات الأنسان الحياتية مادية كانت روحية فهي فاشلة.

وهكذا فالعمارة اداة فنية شاخصة تعكس من خلال منشآتها مستويات وحاجات المجتمع . لذا فأنها ليست اشكالا مرئية نابعة من وعي فني فردي للمعمار فقط وأنما هي تعبر عن مفهوم المحيط الأجتماعي وظروفه وبذلك تكون سجلا واضحا وراسخا لحضارة المجتمع مثلما هي اللوحة وكل منجز تشكيلي عظيم يحكي جزا من تأريخ ذلك المجتمع

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1535 الاثنين 04/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم