قضايا وآراء

الدَّعْوَةُ فِي مَنْهَجِ الإمَامِ الصَّادِق / محمّد جواد سنبه

هذا الانقطاع يشكّل أولى مراحل انهيار الأمّة، حيث تأتي لاحقاً مرحلة نسيان الأمّة لرموزها، وبالتالي الارتماء في أحضان أعدائها، ونحن اليوم أوشكنا أن نقترب من هذه الحالة. ويجب أنْ نضع في اعتبارنا، أنّ أعداءنا يخططون منذ زمن، لابتلاع أمّتنا والسيطرة عليها مادياً وفكرياً وثقافياً، ونهب ثراواتها وبالتالي الحاقها بمعسكرهم كأمّة مهزومة، مُستعبَدة ليس لها الحقّ في البقاء، لأنّ البقاء للأصلح (وهو الأقوى)، بموجب المفهوم الاستعماري المادي للحياة. لقد استشرف الإمام الراحل السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) هذا المعنى فقد جاء في كتابه (اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف ص324) قوله:(... فهذا الغازي الذي يأتي يحطّم التجربة، ويحطّم المجتمع الإسلامي، يحطّم الدولة الإسلاميّة، يأتي معه بتقاليد ومفاهيم حضارية، سوف تؤثر على الأمّة الإسلاميّة التي لم تعرف الإسلام معرفة حقيقية كاملة).

ما يحصل اليوم في مجتمعنا العراقي، تمرّ علينا مناسبات إسلاميّة جليلة، ولكن لا تذكرها الأقلام إلاّ في حالات قليلة، صحيح أنّ الأقلام المثقّفة ذات الهويّة الإسلاميّة، المتّصفة بالرصانة والاعتدال والموضوعيّة قليلة، وربّما قليلة جداً. وصحيح أيضاً أنّ الوعي الثقافي لعموم الشّعب العراقي، في حالة من الوهن والضعف، تقترب من الجهل بشكل مأساوي، لكن هذا لا يمنع القلة من محاولة السعي والتواصل. و لكي نبقى متّصلين و متواصلين مع منهج أهل البيت(ع) فإنّنا نستذكر في الخامس والعشرين من شهر شوال من كلّ عام، ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق(ع)، صاحب أوّل جامعة موسوعيّة علميّة في الإسلام. لقد تربى الإمام الصادق في حجر إمامين معصومين، فقد عاش اثنتى عشر سنة من عمره الشريف، مع جدّه الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، فكان يسمع منه أحداث الطّفّ، وكيف تنكر قسم من الأمّة، لأبن بنت نبيها فباع هذا القسم الدّين بالدّنيا. كما عاش مع والده الإمام محمّد الباقر(ع) تسعة عشر سنة، وتعلّم منه كيف يبني الصرح العلمي لمدرسة أهل البيت(ع)، كما أخذ عن هذين الإماميّن العلميّن، العلوم الزاخرة والمآثر الفاخرة. وتربى على يديهما عليهما السلام تربية رساليّة، فتعلم منهما جهادية الرسول(ص)، وكفاح علي(ع) وصبر الحسين(ع)، وتضحية الحسن(ع). و لاحظ إمامنا الصادق(ع)، أنّ الأمويين كانوا يتبجحون بشتم جده علي بن أبي طالب(ع) على المنابر. وأيضا عاش الإمام الصادق(ع) في خضم حركات سياسيّة متصارعة، وتيارات فكريّة متناقضة، وهي نتاج طبيعي لحكومات ابتعدت بشكل كبير، عن روح الإسلام و رسالته ومنهجه. فكان أمَام الإمام(ع) العمل على عدّة جبهات، الأولى حماية بيّضة الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، بعدما عملت السّياسة المنحرفة والماجنة للحكام الأمويين، على تمزيق وحدة المسلمين. الثانية تأسيس مدرسة فقهيّة، تتولى تدريس علوم الفقه والحديث الشريف وبقية علوم الإسلام، على ضوء خطّ أهل البيت(ع)، و نشر معالمها، عن طريق جذب جمهرة كبيرة من العلماء إليها، فانطلقت الأقلام لتوثيق هذه العلوم. الثالثة مجابهة حركة الغلاة، هذه الفئة التي لا تتورع عن دسّ الأحاديث الكاذبة، لتشوية صورة الإسلام، فقال الإمام الصادق(ع) فيهم: (فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنّة نبينا صلى الله عليه وآله). الرابعة مواجهة أفكار الزنادقة، الذين كانوا ينكرون وجود الخالق تعالى. الخامسة تأهيل الدعاة، وهذه مهمّة حركيّة رساليّة، عن طريقها سلم الإسلام المحمدي الخالص، من تلاعب أهواء السلاطين والحكام. ولا عجب إذا قلنا إنّ الدعاة الواعين لمسؤولياتهم الرّسالية، يعكسون للمجتمع الإسلام بصورته الصحيحة، و يوصلوها إلى أذهان الآخرين بشكل فاعل. فعند توفّر القدوة الصالحة في المجتمع، وقيامه بمهام العمل الرسالي، فمن المؤكّد أنْ يترك البصمات الواضحة لعمله، في البيئة التي يعمل فيها. لقد اعتمد الإمام الصادق(ع) منهج الدّعوة الصّامته، الدّعوة بالعمل والسلوك والسّيرة الصّالحة. ولمنهج الدعوة الصّامتة ثلاثة أهداف، الأوّل عدم لفت أنظار السلطة الحاكمة نحو العمل التّصحيحي الذي يقوده الإمام(ع)، وبالتالي حفظ العمل من أيّة هجمة مضادّة تنفذها السلطة. والهدف الثاني قطع الطريق أمام الأنانيات والمصالح الذاتية، التي قد تبرز بأي عنوان كان في العمل الميداني، وبذلك تسلم المهمّة الرساليّة من الارتماء في أحضان الذاتيّات، فلا يتحول العمل الإسلامي إلى حالة من الإيماءآت الدعائيّة، والتلميحات الإعلانيّة لهذا الشخص أو ذاك. والهدف الثالث يتعلق بديّمومة هذا النوع من العمل، وصلاحيّته لكل زمان ومكان، فالعمل الصامت يمثل استراتيجيّة ثوريّة تؤدي دور التّغيير في المجتمع بصورة مستمرة، مادامت إرادت التّغيير باقية في نفوس وأذهان الدعاة الرساليين. لقد حدّد الإمام الصادق(ع) معالم مشروعه التّوعوي، ليكن متجهاً نحو المجتمع، لإصلاح ما أفسدت منه السّياسة الضّالة الظّالمة. يوصي الإمام(ع) أحد الدعاة بقوله: (يا مفضل: القبيح من كل أحد قبيح، ومنك أقبح لمكانتك منا، والحسن من كل أحد حسن، ومنك أحسن لمكانك منا). ويضع الإمام(ع) الملامح العامّة لمشروع الدّعوة بالعمل الذي تبناه بقوله(ع): (أوصيكم بتقوى الله وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا لنا دعاة صامتين). الإمام الصادق(ع) لا يريد دعاة صامتين خائفين، متوجسين متحسسين من الآخرين، يجلسون بين الجدران منعزلين عن المجتمع، ينتظرون الفرج (حسب فهمهم المريض للفرج)، فقال(ع):(إنَّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلَّها ولم يفوِّض إليه أن يكون ذليلاً). دعاة صامتين بألسنتهم، ولكن أعمالهم تنطق بالحقّ، من خلال تربيتهم و عقيدتهم و إيمانهم و مسؤوليتهم تجاه المجتمع. دعاة يتحركون بموجب هدف مرسوم لقضيتهم. دعاة لهم دور في تغيير أنفسهم، وتغيير مجتمعهم فيقول(ع):(مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقربا أجلا ولم يبعدا رزقاً). .... ويقول(ع) أيضا: (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). نعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب عيني وتكليف إلهي، عليه تقف مهمة تحويل المجتمع، من حالة التداعي والركون والتفسخ، إلى حالة التفاعل مع مبادئ الإسلام، و إحياء تعاليم الشريعة السّمحاء، لكن بشرط أنْ نعرف حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و أساليب التعامل مع المجتمع والتفاعل مع الآخرين، والاندماج بمشاكلهم وتصوراتهم، للتمكّن من تشخيصها عن قرب، وتغيير الحالة السلبيّة إلى الحالة الايجابيّة المطلوبة. و يوجه الإمام (ع) الدعاة بقوله:(كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا، حتى يقول الناس رحم الله جعفر بن محمّد فلقد أدّب أصحابه). وتستمر وصايا الإمام(ع) تملأ الخافقين لتوطّد أساليب الكفاح، والانقلاب على الواقع المريض، و إحداث التغيير في نفوس الدعاة العاملين، بهدي منهجه النيّر، لتصل تباعاً تلك التوجيهات الربانيّة، إلى شرائح المجتمع تلواً تلوا. يقول(ع): (ولا يطلّع الناس منكم إلاّ على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فتنازعوا إليه).... (وكونوا دعاة لأنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً).... (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد، والصدق، والورع). فهل يا ترى دعاة اليوم تتطابق أقوالهم مع أفعالهم، و مع ما أوصى به الإمام الصادق(ع)؟. أترك الإجابة لهم.

 

محمّد جواد سنبه

كاتب وباحث عراقي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1541 الاحد 10/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم